يبدو لي الآن غريبا أن أرى في مشهد سينمائي، شخصيتين تتحدثان وهما لوحدهما في مكان مغلق، فيقول الشخص الأول للثاني شيئا ما، كاعتراف أو بوح بسر، وتنبعث الموسيقى بعشرات من العازفين، من حيث لا نعلم، ألا يبدو ذلك غريبا؟. لنتوقف لحظة على اعتبار أن الأمر عاد، ونتساءل ببداهة: من أين تأتي الموسيقى؟ ولماذا اضطر صانع الفيلم إلى إضافة هذا الأكسسوار الذي لا تربطه أية علاقة عضوية بالمادة الفيلمية؟ ألم تستعمل فقط لكي تملأ فراغا ما؟ ألم تستعمل للتعبير عن شيء لم تستطع الصورة والصوت السينمائيين التعبير عنه؟ يقول المخرج الفرنسي فيليب كاريل إنه لا يستعمل الموسيقى لأنه لا يريد أن يستعطفها، أو يستنجد بها لإيصال إحساس ربما فشل في التعبير عنه، إذ يجب على الانفعال أن يولد من داخل الإطار. اختيار الموسيقى بمنطق الطريق المختصر إلى الإحساس، يلغي فكر المتفرج، ويُعطل ذكاءه ويَجعله سلبيا ينفعل تحت الطلب.
عندما تغيب الموسيقى، تحاصرنا اللقطة وتجبرنا على المواجهة، الشيء الذي ينتج عنه توتر، لأن الصمت مقلق ويستفز، ويعري، لهذا فهو لا يُحتمل، ونضطر حتى في الحياة أن نملأه بالموسيقى أو الكلام الفارغ الذي يعبر في نفس الآن عن خوفنا من مواجهة الصمت، مواجهة الذات أو الآخر.
عندما نضع موسيقى على فيلم، فأكيد أنها توجد إما لتحاكي بمبالغة انفعالات المشهد أو كتنويع له، أو تٌوضع لتجعل إيقاع الفيلم أقل رتابة خوفا من أن يمل المتفرج، أو أنها، عندما تبدو ظاهريا منزاحة بعض الشيء، توجد لأداء وضيفة التبئير الداخلي لشخصية أو تأويل المشهد، أي أننا نحاول التعبير عن إحساس ما من المفروض، التعبير عنه سينمائيا بالصورة والصوت المباشر.
جميل أن تسمع صوت كعب عال لامرأة وهي تعبر الشارع في ساعة ما بعد الظهيرة في فيلم FATALE للويس أو صوت ملعقة تحرك السكر في كوب شاي في فيلم “حدث ذات مرة في أمريكا” أو صوت ذبابة اللقطة الأولى من فيلم “أجواء” للمخرج التركي بلجي سيلان، أو صوت موجة في آخر إحدى اللقطات، تقذفنا إلى لقطة أخرى لتجعل الانتقال انسيابيا وسلسا في فيلم ما، جميل أن نسمع ونتوقف عند الصمت الذي يلي الاعتراف بالحب، وجميل أيضا أن نشاهد فيلما دون المرور بوساطة الدبلجة، تخيلوا معي أن يشاهد أحد أفلام مارسيل كارني مدبلجة كـ “فندق الشمال” مثلا ولا نستمع لنبرة صوت أرليتي التي لا مثيل لها، أظن أو أكيد أن الفيلم سيفقد ربما خمسين في المائة من قوته. جميل أيضا أن نتمتع بأصوات الأجواء والأصوات التي يحدثها استعمال الأشياء وحركتها التي لا ننتبه لها في الحياة اليومية، لكن السينما تجعل حواسنا تلتقطها وتقرأها كعناصر مهمة أو في بعض الحالات حاسمة، تجعلها نوتات لموسيقى يكفي إعادة ترتيبها وتنظيمها لكي تتحول إلى سمفونية. أحب الموسيقى عندما تنبع من داخل الصورة وتتحول من موسيقى إلى ديكور صوتي أو تذهب السينما بعيدا في استعمالها وتجعلها هي ذاتها لغة الحوار كما في أفلام الكوميديا الموسيقية الهوليودية.
تساعدنا السينما على إعادة اكتشاف الحواس وإعادة تربيتها وجعل الأشياء التي حولنا أقل تفاهة وإعادة اكتشاف ما يبدو اعتياديا وعابرا والتمتع به، فلماذا نضع وسيطا غريبا بيننا وبين درس الحياة الذي تقترحه السينما، من هنا تبدأ السينما في تغيير نظرتنا للحياة.
راكمت السينما على مدى مائة وعشرين سنة من الوجود، الكثير من الأصوات، والصور التي تكررت وأصبحت بفعل ذلك إيقونات مرئية أو صوتية، أو علامات انطبعت في ذاكرة المتفرج وتحولت في حد ذاتها إلى لغة تضمن تعاقد يسهل عملية التلقي، وتحيلنا على مواقف معينة، على أزمنة أو أمكنة معينة أو تهيؤنا لأحاسيس بعينها.. الشيء الذي يحول بعض أصوات اليومي إلى لغة، تفتح للمخرج إمكانيات أخرى دون اللجوء إلى أقرب الطرق أي الموسيقى، وخصوصا عندما يبالغ في استعمالها.
ربما لو وضعنا في اعتبارنا، أثناء العمل على فيلم، أننا لن نستعمل الموسيقى، آنداك وحتى لو استعملناها قد تكون في محلها أي استعمال سينمائي وليس شهادة احتياج وملأ لفراغ ما.
بقلم: محمد الشريف الطريبق