إذا ما تعرض إنسان لصدمة في مرحلة طفولته، فيمكن أن يؤثر هذا على نفسيته في مرحلة الكبر، وغالبا ما تحدث مثل هذه الصدمات جراء الإهمال العاطفي أو سوء المعاملة.
ويتسع نطاق تلك التأثيرات جدا لدرجة أنها تترسخ في المخ ويتم تذكرها دوما، وأكثر الناس عرضة لهذا الخطر هم الأطفال، لا سيما الذين يعاني آباؤهم من اضطراب الشخصية النرجسية التي تتوق للعظمة المطلقة.
فأبناء الآباء النرجسيين تمت برمجتهم وتربيتهم منذ نعومة أظفارهم على السعي باستمرار إلى إثبات النفس دون الحصول عليها، فهم يعتقدون أن قيمة ذاتهم مرتبطة بسمعة عائلتهم وعراقتها، ويشعرون في قرارة دواخلهم أن قيمة ذاتهم لا يمكن أن يحافظ عليها إلا عندما يلبون احتياجات آبائهم ورغباتهم، ما وسعهم ذلك، فهم يكبرون وينشأون في بيئة مرتبط فيها الحب دوما بشروط معينة، هذا إذا كان ثمة حب أصلا.
المشاكل التي توجد عند بعض أطفال الآباء النرجسيين تنشأ غالبا بسبب خمسة أكاذيب تعرضوا لها في مرحلة مبكرة من حياتهم.
قيمتك الشخصية.. مشروطة
الطفل الذي يعاني أبواه أو حتى أحدهما من اضطراب الشخصية النرجسية، يتنامى بداخله أن قيمته الشخصية مرتبطة دوما بقدرته على تحصيل أكبر قدر من الشخصية النرجسية لأحد الأبوين وعلى كيفية انصياعه وانقياده لهما، فالمظهر الخارجي والوضع والسمعة في المنزل مع الشخصية النرجسية عند أحد الأبوين أو كليهما يلعب دورا كبيرا في ذلك.
ولأن الأبوين يشعران دوما بالاستعلاء وبسبب قناعتهما الخاطئة ورغبتهما في أن يكونا الأفضل دوما، فإنهما يبرزان طفلَهما في العلن في أحسن صورة ممكنة، أما سوء التعامل الذي نقصده فلا يحدث إلا في الخفاء، فالتصرف داخل المنزل يكون مختلفا تماما عما يكون أمام المجتمع، فيمكن مثلا أن يهاجم أحد الأبوين الآخر بصورة لفظية أو جسدية، ويكون الطفل نفسه هو ضحية سوء المعاملة العاطفية في هذا الموقف، وعلى هذا ينبغي ملاحظة أن كلا من الأبوين يدمران عنصر التآخي بين الأبناء.
عندما يجد الطفل نفسه أمام سوء معاملة فإنه لا يجد إلا أن يصرح علَنا بما يدور بداخله، وغالبا ما ينتج عن ذلك عقوبة من الأبوين تنزل على الطفل؛ حتى لا يشوه صورة العائلة المحترمة ذات الحسب والنسب، فالصراع العاطفي والبدني الذي يمر به بعض الأطفال المصابة آباؤهم بشخصية نرجسية عندما يتصرفون على عكس طموحاتهم يمكن أن يؤثر طوال حياتهم بالضرر على صورة الذات والثقة بالنفس، وينمو عند الأطفال شعور بأنه ليس لديهم أي كيان مستقل، وإنما بعض الأعراض التي تخدم الأنا النرجسية عند الأبوين وحبهم لذاتهم.
يجب أن تكون كاملا وناجحا.. ومحبطا
يعتبر النرجسيون أبطالا في التهرب والمراوغة لدرجة تصل إلى إشعار ضحاياهم بأنهم لم يقدموا شيئا أبدا مساويا لقدر الجهد الذي يبذلونه هم لهم، ولا يستثنى الأطفال من ذلك أبدا، فلا يعترفون بأي نجاحات إلا إذا كانت توافق أمرا ذا مكانة معتبرة لدى المجتمع، أو بعبارة أخرى ما يوافق التصور الشخصي المفرط عند الوالدين النرجسيين.
ومثل هؤلاء الآباء يعتبرهم الإنسان في الأساس غير واقعيين تماما وغير فخورين أبدا بنجاحات أبنائهم، إلا إذا كان يمكنهم حسبان هذا النجاح لأنفسهم، فبعض الآباء النرجسيين يغارون حتى من أبنائهم الناجحين، خاصة إذا كان هذا النجاح سيساعد الصغار على الاستقلال بشخصياتهم وعلى تطوير أنفسهم وتنميتها خارج نطاق تأثيرهم وتحكمهم.
ولا يعد أمرا غريبا أبدا عند هؤلاء الآباء أن يحاولوا إعاقة نجاح أطفالهم وتوفيقهم، عندما لا يمكن أن يتواكب هذا النجاح مع التصور الشخصي المبالغ فيه عندهم، أو لا يتوافق مع تصورهم لما يجب أن يتضمنه النجاح ويصحبَه، أو كان هذا النجاح يؤدي إلى خلع الأبناء من رقبة تحكم الأبوين النرجسيين وسيطرتهم الكاملة عليهم.
كما يعتبر بعض الآباء وفقا لتصورهم السقيم أن عدم وجود طفل من الأساس أفضل من وجوده، إذا كان هذا لا يمكنه أن يحقق أهدافا رفيعة المقام تتصف بالكمال والتمام تنسَب إليهما، وحتى البنت المثالية أو الابن المثالي نفسه يفشلون دوما عند محاولة بلوغ مرتبة الكمال التي تطوف بمخيلة الوالدين النرجسيين، ففي نظرهم يعتبر هؤلاء الأبناء غير جيدين بما فيه الكفاية.
شخص ما هو الأفضل دائما
غالبا ما يدخل بعض أطفال الآباء النرجسيين في منافسة مع أخوتهم، ثم ينقلبون عليهم في محاولة لكسب العناية والمحبة التي يبحثون عنها ويشتاقون إليها، لكنهم لا يتحصلون عليها أبدا، ومعروف عن الآباء النرجسيين أنهم يفاضلون بين أبنائهم من خلال مقارنة عديمة الجدوى، ويهينونهم، ويحطمونهم بجبروتهم وسطوتهم.
غالبا ما يكون بينهم طفل مميز وآخر يتم اتخاذه كشماعة للأخطاء وأحيانا يحدث تغيير للأدوار، ويتوقف هذا تماما على ما يتطلبه الوعي الشخصي للوالدين النرجسيين، وغالبا ما يطمح الأطفال المتمردون إلى الحقيقة ويتمنون وجود علاقة جيدة تربطهم مع باقي أفراد العائلة، إلا أنه لا يمكنهم السكوت على سوء المعاملة التي توجد عندما لا يحققون رغبات الوالدين.
في مقابل ذلك نجد أن الطفل المميز يتم تصويره على أنه المثال والقدوة إلا أن هذا سريعا ما يتغير، عندما يسير خلف خطة شخصية من عنده يخرج من خلالها عن سيطرة الوالدين، وينمو بالفعل في وقت مبكر جدا الشعور بأنهم ليسوا على المستوى الجيد بما فيه الكفاية وأنهم يدخلون دوما مع الآخرين في منافسة ومبارزة، الأمر الذي يؤدي إلى عدم معرفتهم لقدرتهم وقيمتهم الشخصية، ثم يتعلمون بعد ذلك في مرحلة النضج أنه لا يجب عليهم أن يقيسوا أنفسهم بالآخرين، وأنهم يتمتعون أيضا بعد ذلك بشخصية قيمة حتى عندما لا يكونون بارزين في كل الأشياء، فكرة تكوين حب الذات غير المقيد بشروط، وتعلم احترام القدرات، والسمات الشخصية الفريدة، يعتبر من الأهمية بمكان، عندما يكافح الإنسان ويقاوم نتائج سوء المعاملة المدمرة للذات، ويستبدلها بمعيار صحيح من الفخر والعصامية.
الاستخفاف
والازدراء .. والحب؟
غالبا ما يرفع الآباء النرجسيون أطفالهم في مرحلة الرضا إلى أعلى عليين، ثم سرعان ما يطرحونهم أرضا بعد ذلك، ثم يتحولون بعدها لضحايا غضبهم وحنقهم عندما لا يطيعونهم أو يشبعون رغباتهم بأداء حقوقهم.
الاحتقار والامتهان والكراهية التي يكنها الآباء النرجسيون لأطفالهم لا يعتبر أمرا مؤلما جدا فحسب، بل يؤدي أيضا إلى أن يعتبر الصغار سوء المعاملة الموجودة شيئا عاديا تماما، وهذا النمط من التمجيد والنقص يعلم أن الحب يعد شيئا غير مستقر وغير متوقع ومثيرا للخوف، الأمر الذي يؤدي إلى عدم وجود استقرار ذاتي لدى الأطفال وإلى شحنهم دوما بالخوف من مجرد إغضاب الآخرين.
بالإضافة إلى ذلك وتتبلد مشاعر الأطفال، كما يؤدي إلى عدم المبالاة بالشتم وسوء المعاملة اللفظية في مرحلة نضجهم، حتى لو تعلم هؤلاء التعرف على الإساءة اللفظية أو العاطفية، فهم لا يدركون العواقب الوخيمة والمدمرة بصورة واضحة مثل التي توجد عند الذين تربوا في بيئة صحية سليمة.
وتعد مثل تلك الإساءة في المعاملة أمرا مألوفا وعاديا لدى الأطفال الذين يتربون في أسرة نرجسية، فهم يعتبرون تلك الإساءة الشكل الوحيد للحب الذي تكنه أسرتهم لهم، فهم يقعون في علاقة صدام تجاه آبائهم، ولكنهم قد يخالفون ذلك أحيانا ويستبعدون من حياتهم كل شخص يشبه آباءهم سواء في لهجته أو في سلوكه وتصرفه. وقد يعتبر البعض هذا يقظة مفرطة، إلا أنه يعتبر في الحقيقة حماية للذات وجرس إنذار لكل أنماط السلوك التي تستدعي صدمة الماضي.
فيما يخص حقيقة أن سوء المعاملة ليست أمرا عاديا أو شيئا صحيا، فإن أطفال الآباء النرجسيين يمكن أن يعملوا بأنفسهم على تكوين بعض العلاقات وأن يستبدلوا الحكايات القديمة عن مبدأ انعدام القيمة، بقصص وحكايات قوية عن الحب والاحترام الذي يستحقونه، ويتمكنون بذلك من تربية أنفسهم و»تنشئتها من جديد» في بيئة أمينة ومصانة.
لا قيمة للعواطف!
الآباء النرجسيون لا يبالون أبدا بمشاعر الآخرين أو عواطفهم، ومن يفقد الشعور والإحساس بأي شيء غالبا ما تذهب نفسه في اتجاه بعيد للغاية، فيصبح بذلك إنسانا مكبوتا ومتبلدا، أو يتحول إلى إنسان متمرد على كل من حوله، ثم يشعر سريعا بمشاعر مفرطة جياشة للغاية، ويكاد يجن نتيجة الألم الذي يشعر به، فلم يتم استيعابه بطريقة سليمة أو كيفية صحيحة.
ويبدأ هذا فعليا في مرحلة الطفولة، ثم تنشأ بعد ذلك في مرحلة النضج إمكانية معايشة هذه المشاعر عمليا ومعرفة أنها مثل كل الأشياء التي يستشعرها الإنسان لها حق كامل، فيتعلم أطفال الأسر النرجسية كيفية التمييز بين العواطف والصدمة والألم والحب الناقص في الماضي أو حتى أيضا في العلاقات المعاصرة، ويتعلمون أن هناك بعض الإمكانيات لاستقلالهم عن آبائهم سواء أكان اتصالهم بهم قليلا أو كان منعدما تماما، ويجربون كل شيء بكيانهم وتأثيرهم الشخصي ليتخلصوا من هوية الطفولة المشوهة.
ويتعلمون التفرقة بين قناعات الآباء النرجسيين الخطيرة تجاه أطفالهم وبين قناعاتهم الشخصية المتولدة لديهم حديثا، ويتعلمون قبل كل شيء أنه من الصحيح أن يؤمنوا بأنفسهم وأن هذا ينبئ بالخير في حياتهم، كما يتعلمون أنهم أشخاص ذوو قيمة وأنهم يستحقون كل خير، ومن المهم أن نفهم دوما أن أطفال الآباء النرجسيين يحتملون أيضا ندوب جروحهم، ولكن هذه الجروح يمكن أن تكون باباً لشفاء ناجح ومستدام.
فيجب عليهم عدم تحميل عبء جراحهم الشخصية على الجيل التالي لهم، وإنما يمكنهم أن يستغلوا تلك الجراح كوسيلة لدعم الأجيال القادمة وتقويتها، وأطفال الآباء النرجسيين لديهم إمكانية الآن لتوجيه صدمتهم توجيها صحيحا والاستفادة منها لصالح تنمية شخصيتهم بدلا من تأثر شخصيتهم بها، فلا يمكن التئام تلك الجروح إذا لم يتصدى لها المرء بنفسه أو رضي بألا ينشطَ لمعالجتها.
المداواة مسألة شخصية
لكن يجب اعتبار أن مسألة المداواة مسألة شخصية دوما، فتختلف في أسلوبها وطريقتها من شخص لآخر، فلا يجوز مقارنة شخص بآخر؛ لاختلاف قدر الثقة بالنفس والاعتزاز بالذات عند كل شخص، ويجب على أطفال الآباء النرجسيين أن يتعلموا كيف يحمون أنفسهم من أي سوء معاملة مستقبلية، وأن يضعوا لأنفسهم خطة تمكنهم من حماية شخصيتهم من أي ضرر نفسي يمكن أن يقع عليهم، القناعة التي تفيد بأن الوالدين إنما يريدان الخير دوما لأبنائهما ويحبانهم كثيرا، لا تفيد بشيء أبدا عندما يدور الأمر حول والدين مراوِغَين مسيئين في التعامل.
مثل هؤلاء الآباء غير قادرين على إظهار العطف والحنان ويستغلون أطفالهم دوما كمصدر لحفظ الذات النرجسية، الأمر الذي يجلب الحزن كثيرا على الطفولة الضائعة والمسلوبة وعلى الحقيقة التي تفيد بأن هؤلاء الآباء ربما لم يحبوا أطفالهم أبدا أو بمعنى أدق لم يتقبلوهم على حالهم، ولهذا يجب إعادة تربية النفس ومحاسبتها قدر الإمكان على مشاركة المشاعر وتقبل الذات وحب الذات، فأطفال الآباء النرجسيين لا يسمحون أبدا بخطأ اعتقاد أنهم لا يستحقون الحب، وهذه تعتبر أكبر الأكاذيب على الإطلاق.