بورخيس صانع المتاهات

بورخيس دليل العظمة، كاتب مجرد من الجنسية، نموذج للمثقف الأنواري في موسوعيته. تجليات ذلك في كتاب جديد حول خورخي لويس بورخيس ترجمه وقدمه الناقد والمترجم المغربي محمد آيت لعميم والصادر عن المركز الثقافي العربي “بورخيس صانع المتاهات”.
 الكتاب جدير بالقراءة وإعادة القراءة، وجاء تلبية لرغبة ماريا  كوداما زوجة بورخيس، بعدما رافقت الناقد ايت لعميم لبضعة أيام بمراكش من سنة 1996 في الذكرى المئوية لميلاد بورخيس، حيث بهتت من تفاصيل حياة وأعمال بورخيس لدى الناقد آيت لعميم، وأهدت الأخير حوارا كاشفا عن الأسرار الخفية لبورخيس، وشكل هذا الحوار الشرارة الأولى لفكرة الكتاب، بالإضافة إلى الرغبة المتقدة للتعريف بالكاتب الأرجنتيني بورخيس، وكذا نقل بعض أعماله الخالدة من اللغة الاسبانية إلى العربية، إبرازا لراهنية بورخيس في الحوار الثقافي والحضاري بين مختلف الشعوب، واستلهام صنيعه للكتاب والقراء، وقابلية أعماله الإبداعية والفكرية والفلسفية للاستجابة لمختلف المناهج الأدبية الحديثة، التاريخية منها والبنيوية والجمالية.
الكتاب “بورخيس صانع المتاهات” 254 صفحة، جمع بين دفتيه آيت لعميم مقالات كتبها بورخيس نفسه، ومقالات أخرى كتبت حول أعماله وحوارات، هي بمثابة مقاليد لفتح كنوز بورخيس، إضافة إلى حوار لبورخيس من خلال عيون زوجته، أجراه الناقد لعميم، وانتهى الكتاب بمقال مثير لانطونيو تابوكي يشكك من خلاله في وجود بورخيس فعلا؟
ويسعى المترجم آيت لعميم في هذا الكتاب إلى الكشف عن العوالم الممكنة في أعمال بورخيس، من خلال وقوفه على مجموعة من الثيمات الأساسية، كالمرايا والمتاهات وكتاب الرمل وحديقة السبل المتشعبة والموت والبوصلة وتاريخ الليل وذهب النمور والعدد.. وقراءاته في الموروث الإنساني والحضارة الكونية.
 لقد كان بورخيس قارئا أكثر مما هو كاتب،  وافتخر غير ما مرة بما قرأ وليس بما كتب، ومن ثم كان لا يعتريه القلق إن تأخرت عليه الكتابة، إذ كل يسير كما يجب، إن أتته الكتابة يكتب، أو هو قارئ يقرأ بامتياز من خلال سفره الدائم والمستمر في ثقافات الشعوب، مجسدا حوار الحضارات، حيث ترك في مؤلفاته لغات العالم تتحاور وتتجاور في إبداعه بكل انسيابية، وتجلى في كتاب “بورخيس صانع المتاهات” ميراث الحضارة اليونانية والغربية والتأثيرات الشرقية وكذا الثقافة العربية الإسلامية.. دون التقوقع في ثقافة قومية أو محور ضيق مشكلا في اللانهاية حضارة كونية تشع بلغاتها وأزمانها وتسامحها في موضوعاته المعالجة في “صانع المتاهات”، وعلى هذه الخلفية يقول بورخيس: ” يفرحني أن يكون لي جمهور عالمي، ولا أريد من هذا ألا أكون أرجنتينيا .. ولا يمكنك أن تكون أرجنتينيا ما لم تكن عالميا”.  
إلى ذلك انبرى المترجم إلى إيضاح هذه الحركية المفاهيمية في سبعة عشر مقالا أو عنوانا، ينطوي عليه الكتاب، وحدده آيت لعميم فيما أبدعه بورخيس (الاستعارة، الزمن، التأثيرات  الشرقية في شعر بورخيس) أو كتب عنه (أحد عشر مقالا)، أو أجريت معه حوارات  (أربع مقالات)، حيث أكد المترجم على لسان “زوجة بورخيس” ماريا كوداما أنه كان تجسيدا لأحلامه، وأسطورة اسكندنافية، لأنه لم ينل أبدا جائزة نوبل، ولم يكن قط رقما في قائمة المترشحين والفائزين، وإن كان الأرجنتينيون قلقين جدا لأنهم وطنيون حد الإسراف.

 بقلم: عبد اللطيف سندباد

Related posts

Top