يبدو أن طيور اللقلق البيضاء ملت الهجرة والتنقل من قارة إلى أخرى في رحلة طويلة، وأصبحت تفضل الاستقرار بعد أن تختار المكان المناسب. ويرى علماء أن أسباب الاستقرار هذه عديدة، منها الأنشطة البشرية بدءا من تغير المناخ والتلوث، مؤكدين أن سهولة توفر الطعام المفضل لهذا الطائر المسالم في مدينة القنيطرة المغربية جعلته يستقر بالقرب من الميناء والوادي.
لطائر اللقلق المهاجر، المعروف في المغرب باسم “بَلَّارِجْ”، حكاية رومانسية تظهر جليا في أجواء مدينة القنيطرة المتاخمة للعاصمة الرباط، حيث يعيش هذا الطائر المتميز بطول رجليه ومنقاره وعنقه، وتعود بداية حكايته إلى السبعينات من القرن الماضي، حين رفض العودة إلى موطنه الأصلي هناك بأوروبا، واختار الاستقرار في هذه المدينة المغربية التي تقع على هضبة مصب وادي سبو، فكان النهر ملاذا آمنا لعيش اللقلق المهاجر واستقراره، يتزود من زاده البيئي الغني بالأسماك والضفادع والأعشاب والطحالب المغذية.
على طول شارعي يوسف بن تاشفين والجيش الملكي في مدينة القنيطرة، فضلت اللقالق المكوث والاستقرار، وبنت أعشاشها التي أضحت تتجاوز المئة عش فوق البيوت والمآذن وأعمدة الإنارة الكهربائية، خصوصا منها المتاخمة للميناء البحري وقنطرة الوادي، حيث أضحى اللقلق هناك مقيما دائما يشارك السكان المحليين حياتهم، مدللا بينهم، لا يجرؤ أحد على الاقتراب من أعشاشه الشامخة التي أضحت تؤثث المدينة، وتشد أنظار المارة إلى اصطفافها المُتقن على طول الشارعين الرئيسين للمدينة.
ويوضح محمد بورحيم، المهندس ضمن الطاقم البلدي لمدينة القنيطرة، “لقد اضطررنا لبناء قائم طويل لنقل عش اللقلق إليه وتحويله من عمود كهربائي كان لا بد من إزالته لتوسيع الشارع”.
وقال في تصريح صحفي إن اللقلق طائر مدلل ومرحب به بشكل كبير بين سكان المدينة، فهو رمز للاستقرار والتساكن والتعايش في هذه المدينة التي أحبها اللقلق ولم يعد يقدر على فراقها، نظرا لما وجده فيها من عناية وكرم عيش.
اللقلق الأبيض ذو الأرجل الطويلة، هذا الذي يستوطن بيننا في مدينة القنيطرة، أصبح له نصب يرمز إليه وسط المدينة، يوضح المهندس بورحيم، “طائر معروف في الأوساط الشعبية المغربية ببلارج، لون ريش جناحيه العريضين أبيض ينتهي بالأسود في آخر كل ريشة، فهو طائر يختلف عن باقي الطيور، ويعتبر من بين أضخمها إذ يصل طوله ما بين 100 و125 سم، أما طول جناحه فيبلغ ما بين 155 و200 سم، ويصل وزنه ما بين 2.3 إلى 4.5 كلغ، ورغم هذه الضخامة فهو طائر هادئ ومسالم”.
ويؤكد محمد السعيفي، الطالب الجامعي الذي يحضر لشهادة الماجستير في علوم الحياة والأرض، أنه ومنذ أن فتح عينيه في الحي الذي يقطنه، وجد بلارج مقيما أليفا بين سكان حيه، فكم من مرة اتخذ من سطح بيتهم المتاخم لعشه المبني فوق عمود الإنارة الكهربائية، ملاذا ثانيا للتفسح والتدحرج على حبال نشر الغسيل، حتى أن أفراد العائلة كانوا يفاجئونه أحيانا، فيضرب بجناحيه الريح وينطلق طائرا صوب عشه العالي فوق عمود الإنارة، قائلا “لقد كانت والدتي تعاني من مخلفات هذا الطائر على ثيابنا المنشورة على حبال الغسيل فوق السطح”.
ويعلق السعيفي في تصريحه قائلا “رب ضارة نافعة”، فمن كثرة مشاهدته للقلق في محيط سكن عائلته، قام باختيار شعبة علوم الحياة والأرض التي ستؤهله لإنجاز دراسة علمية عن طائر اللقلق الذي يعتمد منقاره الطويل في التحكم في صيده الذي يقتات عليه، كما أنه طائر قليلة هي الدراسات العربية التي أنجزت عنه، مشيرا إلى أن أغلب الدراسات المتداولة في المكتبات اليوم، هي دراسات أنجزت باللغة الفرنسية، وهذا محفز على البحث والعمل لإنجاز دراسات علمية حول هذا الطائر المدلل في مدينة القنيطرة باللغة العربية.
وتؤكد الدراسات الفرنسية أن هذا الطائر المستوطن حاليا بكثرة في مدينة القنيطرة، له سلالتان مختلفتان من ناحية الجسم؛ إحداهما توجد في شمال أوروبا حتى فنلندا، وشمال غرب أفريقيا “الجزائر، تونس، المغرب”، والثانية بجنوب غرب آسيا “من شرق كازاخستان حتى الجنوب”.
والسلالتان تؤكدان أن اللقلق يعد من الطيور المهاجرة القوية التي تستطيع أن تصل إلى المنطقة الاستوائية وأفريقيا جنوب الصحراء أو أفريقيا السوداء وحتى أفريقيا الجنوبية وشبه القارة الهندية.
ولا يمر طائر اللقلق أثناء هجرته من أوروبا نحو أفريقيا عبر البحر المتوسط، وإنما يعرج على بلاد الشام في الشرق، ومن خلال مضيق جبل طارق في الغرب، والسبب في ذلك حاجته إلى تيارات حرارية لا تتكون من خلال البحر، وأنه أثناء حركته في البرية يمشي ببطء بلا توقف، وأنه مثل كل اللقالق، باستثناء نوع “أبوسعن” الذي هو لقلق يطير ورقبته ممدودة إلى الأمام.
ويعد اللقلق من اللواحم التي تتغذى على مجموعة واسعة من الطيور والثدييات الصغيرة من الحشرات والزواحف والبرمائيات والأسماك، إضافة إلى النباتات القصيرة ذات الغطاء العشبي، والديدان والضفادع وغيرها من الحشرات.
وبحسب بحوث خبراء المعاهد الدولية المختصة في مراقبة سلوك اللقلق، فإنه طائر يعيش بمفرده ولا يكون رابطا مع شريك يستمر معه طوال الحياة. فاللقلق، سواء كان ذكرا أو أنثى، فإنه يبني عشه من القش والأخشاب والتبن، وبعد سنوات من الاستخدام يصبح عشا كبيرا، وإذا استكن إلى أنثى وقاما بالتزاوج، فإن أنثى اللقلق تضع أربع بيضات مرة واحدة في العام، ويخرج صغارها في نفس اللحظة من البيض بعد شهر وثلاثة أيام، ويقوم الزوجان بحضانة وتربية صغارهما معا، وينفصل الصغار عن العش بعد خروجهم من البيض بحوالي شهرين ونيف، كما الإنسان إلى معترك الحياة بحثا عن الاستمرار والاستقرار.
* جريدة العرب