تبدو نتائج الحرب التركية السريعة على سوريا أكثر تعقيدا مما كانت عليه في أشهر التهديدات الساخنة المتبادلة بين أطرافها. فالولايات المتحدة قررت عدم المشاركة في ترتيبات المراقبة في المنطقة الأمنية، بينما يصّر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على عزمه زيادة مساحة الأراضي “الآمنة” ونقاط المراقبة في شمال شرق سوريا.
يؤدي تزايد معدل التراشقات السياسية والأمنية إلى استمرار التوترات الإقليمية حول هذه القضية، فقد حذر أردوغان من مغبة القيام بأي خطأ تجاه التواجد التركي في الأراضي السورية، وأُعلن عن إطلاق أسرى من تنظيم داعش لعودة نشاطهم في الدول الأوروبية، بينما كرر الرئيس بشار الأسد تهديده بأن سوريا سوف تواجه العدوان على أراضيها في كل وقت وبأي وسيلة.
وتتفاعل معالم الأزمة في دوائر عالمية، حيث لم يتوقف حديث المسؤولين في الإدارة الأميركية عن خطأ الرئيس دونالد ترامب المتلعق بـ”بيع الأكراد” للأتراك، ويقف العديد من أعضاء الكونغرس، من الجمهوريين والديمقراطيين، في صفّ المعارضة لسياسة الرئيس الأميركي الانهزامية تجاه المشكلة التركية-الكردية، ويصمم أردوغان على تعديل العلاقة مع الرئيس ترامب. وكلها عوامل تجعل الأزمة مفتوحة سياسيا حتى لو تراجعت عسكريا.
تحدث الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وتجوّل مبعوثوه بين العواصم الغربية، خاصة بريطانيا وألمانيا، للتحرك تجاه التعامل مع الوضع في شمال شرق سوريا وأهمية التواجد العسكري الأوروبي هناك لحماية الأكراد والاستعانة بقوات حلف شمال الأطلسي لحماية الحضور الأوروبي والقيام بدور حيوي في ما يجري هناك.
بدت طهران صامتة أكثر من اللازم، وتنظر وتوازن بين ما سوف تحققه تركيا، عدوها التاريخي، ضد القوة الكردية المتصاعدة، وتأثير ذلك على أحلام الأكراد في إيران.
تتطور المواقف والتصريحات كل ساعة على خلفية أزمة متحركة سياسيا وأمنيا، وقد تزيد من خطورة المواقف لدى الأطراف المختلفة، وربما تتنصل بعضها من أنها قد وافقت ضمنيا على العملية التركية، أو أن الخصم يخرق الاتفاقات.
تؤدي الهشاشة التي تبدو عليها الأوضاع في شمال سوريا إلى تداعيات لا أحد يعرف اتجاهاتها السياسية والأمنية. فقد أعلنت قوات سوريا الديمقراطية في اليوم الثاني لسيران الاتفاق أنها لن تلتزم ببنوده، لأن الجيش التركي والمنظمات السورية المتعاونة معه غير ملتزمين وخرقا مكوناته الرئيسية.
يبدو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين هادئا أو مرتاحا حتى الآن، فهل فقدت موسكو تأثيرها في الخلاف التركي الكردي لصالح التزامها القوي وتحالفها المتين مع سوريا، أم لديها خطط وتكتيكات لم تعلن عنها بعد؟
منذ قرون عديدة تجاورت القبائل التركمانية التي انحدر منها الأتراك والأكراد والقادمة من وسط آسيا، مع السكان الأصليين من الفرس والعرب، وازدحمت المناطق الجبلية بهم، بعد عهود مرت، بأربع دول متجاورة هي إيران وتركيا وسوريا والعراق.
وتتواجد في نقاط تلاقي هذه الدول أقلية كردية لعبت دورا كبيرا في تاريخ تلك المنطقة ودولها. وخاض الأكراد خلال نصف القرن الماضي أربع حروب منفردة في كل من سوريا والعراق وإيران وتركيا، ونالوا اعترافا بالحكم الذاتي من العراق، وربما في سوريا،، بينما أخمدت إيران وتركيا تطلعاتهم التي أدت إلى استمرار الكفاح المسلح.
كانت سمة التزاحم والاقتتال بين الأطراف المتعددة في تلك المنطقة، ولا تزال، اللجوء إلى استعمال القتل وإحراق المنازل والقرى والطرد والعنف ضد الأقليات الأخرى.
من الواضح أن موقف وسياسة الرئيس التركي تجاه الأكراد ورغبتهم في الاستقلال أو الحكم الذاتي، تصطدم بقوة مع الموقف الدولي الذي يؤيد ويتعاطف مع منح الأقلية الكردية في تركيا نوعا من الحكم الذاتي، على غرار ما تم في العراق المجاور.
التعنّت من قبل مختلف القيادات المدنية والعسكرية التي تعاقبت على حكم تركيا بعد سقوط السلطنة العثمانية، والتطرف الكردي المتمسك بالاستقلال الفوري من خلال المواجهة المسلحة، سفك دماء وحرق قرى وكتب تاريخا من الكره والشك والضغينة.
وكما أثبت السيناريو الكردي أنه غير قابل للتحقيق، وفشل الأقلية الكردية في تحقيق أهدافها بالاستقلال الناجز، فإن إصرار القيادة التركية على فرض الأمر الواقع في شمال شرق سوريا قد يفشل أيضا ويضاعف من صعوبة حل الأزمة الكردية بالطريقة التي تريدها أنقرة، وتقوم على ترسيم خرائط تغير التركيبة الديموغرافية في المنطقة الحدودية. وقد تحقق هذه الطريق أهدافا لحظية، غير أنها يمكن أن تفضي إلى مشكلات أخرى، تنعكس سلبا على تركيا في المستقبل.
سوف يجذب الوضع التركي الكردي دولا مجاورة وغير مجاورة للتدخل السياسي والعسكري في النزاع الدامي، ويدفع بعض دول المنطقة إلى اللجوء إلى القوى الأعظم لحماية وجودها وأرضها.
وتوجد اليوم بالقرب من الحدود التركية السورية قوى أجنبية متعددة، وقواعد عسكرية ومطارات وترتيبات تهدف إلى تمترس قوة عسكرية أوروبية، لا أحد يعرف مصيرها بالضبط ودورها المقبل في التعامل مع أي انفلات منتظر.
تمكّن الجيش التركي من فرض إرادته بموافقة القوتين الأعظم، أميركا وروسيا، على شريحة كبيرة من الأراضي على طول الحدود التركية السورية. ويموج الجزء الشرقي من الحدود السورية العراقية بموجات متتالية من النفوذ الإيراني، وتتجوّل الطائرات الإسرائيلية كما تريد وتقصف وتدمّر مناطق عدة في سوريا، بما يعني أن الحراك الأمني لن يتوقف بمجرد إعلان تجميد العملية التركية.
أيقن العالم أنه لا حل للمشكلة بين تركيا والأكراد سوى بالطريق السلمي التفاوضي. فالترتيبات التي توصّل إليها ترامب وأردوغان لن تحمي تركيا كما أنها لن تقدم حلا أفضل للأكراد، ولن تساعد في تسوية الأزمة السورية الداخلية، بل تزيد من تعقيداتها.
قاوم الأكراد الوضع القائم لعشرات السنين، فما الذي يدعو إلى الاطمئنان من أنهم سيلقون أسلحتهم اليوم دون أن ينالوا أي مكسب؟
فقط ترامب وأردوغان هما اللذان أعلنا الانتصار المخادع الذي فتح باب الرفض والنقد من معظم المؤسسات السياسية الأميركية وغالبية الدول الأوروبية، في ظل صمت مراوغ من روسيا، ولم تصرح دولة واحدة في العالم بارتياحها للترتيبات القلقة التي تمت.
يندفع الجيش السوري اليوم لإعادة الوجود في شمال سوريا بموافقة تركيا التي دعمت خلال السنوات الماضية المنظمات المعارضة للرئيس الأسد، وهو ما يغير جانبا من المعادلة والتوازنات القائمة منذ سنوات.
وترفض الولايات المتحدة أن يكون لها دور في مراقبة تنفيذ بنود الاتفاق، وتنوي سحب ما تبقى من قواتها في سوريا، وسيبقى واجب مراقبة المناطق الآمنة متروكا لتركيا وسوريا، مع اختلاف وتعارض أهداف كل منهما. الأمر الذي يجعل أقصر حرب في بدايات القرن الحالي قد تكون هي الأطول.
غسان كنفاني
مستشار الرئيس الراحل ياسر عرفات