القهوة والذكريات لا تكفي

تقبّلت زوجتي المفاجأة بودّ عندما بادر جارنا العجوز بعرض قص عشب حديقتنا الخارجية كلما تسنّى له ذلك، كان لطفا غير معتاد من ثمانيني لم يسبق لي أن تحدثت معه مع أنني أسكن في هذا المنزل منذ أكثر من عقد!
لم تكن القصة في تباعد الجيران البريطانيين، فذلك أمر معتاد، ولكن ثمة حكاية تكمن في مبادرة الجار بقص نجيل حديقة جاره الذي لم يتعرّف عليه من قبل.
زوجتي كانت كريمة معه بقدر كياسته، فقدّرت موقفه بعد أن عرفت منه أنه يعيش وحيدا في المنزل المقابل لنا وليست لديه عائلة وهو في عقده الثمانيني، ليس سرا أن يكون ذلك فمثله عدد كبير من كبار السن الذين يعيشون وحدهم في بريطانيا، لذلك يصبح موعد الأعياد مناسبة معتادة لتذكرهم والاحتفاء بهم.
وعلى الرغم من كون الناس أكثر ارتباطا رقميا من أي وقت مضى، إلا أن الوحدة أصبحت متفشية، وأصبح عدد الأشخاص الذين يعيشون بمفردهم في ارتفاع. ولأن مبادرة الجار العجوز أشعرتني بالندم أن مثالا اجتماعيا مثله يجاورني ولم أتعرّف عليه كل تلك السنين، فكانت الفرصة مواتية أن أطرق بابه قبل أعياد الميلاد ورأس السنة، كي أشكره بحرارة على مبادرته تجاه حديقة منزلنا الصغيرة وأدعوه لقضاء عيد الميلاد معنا، فقال هدايا زوجتك الكريمة في الطعام والشراب لا تنقطع عني، لكنني سأقضي أيام الأعياد مع ابني في مدينة خارج لندن.
حسنا ما الذي يدعو هذا الرجل إلى تلك المبادرة المتعبة نسبيا لمثل عمره، الحق أنه يحاول التخلّص من الوحدة ويعمل على أي شيء قادرا عليه من أجل أن يشعر أنه ثمة مجتمع إنساني يحيط به وما زال يتعامل معه ويتذكره، وإن كان هو المبادر. فلا تكفي لوك الذكريات واختيار القهوة الجيدة والجلوس الطويل حد الملل وقراءة الصحف في مقهى الحي القريبة. هناك ما يفتقده هذا الرجل في حياته، مثلما يوجد غيره الآلاف.
هو يحاول في هذه المبادرة أن يتصدى للشعور الذي ينتابه أو يسمع عنه بإصابة من هم في عمره بالخرف الوعائي، وربما التحرك على المساحات الخضراء وقطع الحشائش الطويلة يمنع أن تظهر عليه تلك الأعراض، جاري العجوز يعمل بذكاء ولا ينتظر الآخر أن يبادر إليه من أجل تذكر هوية أصحاب الوجوه المألوفة إليه، لكن هذا العجوز الطيب دفعني إلى المبادرة تجاهه والشعور بالخجل من موقفه الإنساني الكريم، فقطع حشائش حديقة الجار فاقت الفوائد بالنسبة إليه السلبيات بكثير. لكن قدرة المبادرة لن تستمر مع استمرار العمر، فكم يبدو موحشا أن يعيش الإنسان في سنواته الأخيرة وحيدا.

كرم نعمة كاتب عراقي مقيم في لندن

Related posts

Top