منذ أن تبلور ما أصبح يعرف اليوم بالقضية الفلسطينية، أو الصراع الفلسطيني – الصهيوني في بداية القرن الماضي، تبلورت أيضا ظاهرة التصقت بالتاريخ الطويل لهذا الصراع ولا زالت حتى يومنا الحالي. تتمثل في دخول هذا الصراع في حالة سُبات تتوقف عنده كل العوامل المحيطة به من صدام وحرب وسلام وتفاوض واهتمام عربي ودولي بالتدخل أو النظر والتعامل مع هذا الصراع. هذا السُبات ينتهي أيضا ودائما للمصلحة والاستفادة الإسرائيليتين.
يسود اليوم سبات فلسطيني مختار من قبل الفصيلين الفلسطينيين الأكبر، فتح وحماس، مغلّف بادعاء أنه مفروض عليهما، وتبرير لا يقتنع به أحد، وأحلام باستمرار السيطرة والقيادة وتقاسم ما تبقي للشعب الفلسطيني من أرض بانتظار طلقة الموت لما كان يُدعى بفلسطين.
وعبّر المبعوث الأممي نيكولا فلادينوف عن الوضع الفلسطيني الحالي بصراحة مؤلمة “لا توجد عملية سلام في الشرق الأوسط وعملنا يتركّز على منع الحرب في غزة”.
يعبّر هذا الكلام عمّا وصلت إليه القضية الفلسطينية من سُبات جديد، أسهمت في صنعها الفصائل الفلسطينية، للدرجة التي أصبح هدف البعض الحفاظ على مكاسبه بصرف النظر عن المكاسب التي تجنيها إسرائيل.
كما أن التخوّف من حرب جديدة بين حماس وإسرائيل لا ينسجم مع المفاوضات غير المباشرة بينهما، ولا مع التسهيلات التي تتدفق كل يوم في العلاقات التجارية والاقتصادية بينهما، ولا مع الوعود بخطوط أنابيب الغاز والنفط.
كان ذلك كله إنجازا وطنيا هائلا فلسطينيا لو شمل الأراضي الفلسطينية الواحدة والخاضعة لقيادة فلسطينية منتخبة واحدة أيضا. ويتخوّف الشعب من أن تكون كل هذه التطورات الثنائية بين إسرائيل وحركة حماس تهدف إلى إيجاد حالة جديدة للأخيرة تمكّنها من حكم قطاع غزة بتفاهم وتعاون وشروط إسرائيل، وندخل في مرحلة من السبات العميق، تستمر فترة طويلة.
يدرك الشعب الفلسطيني، والعالم بأسره بمن فيه إسرائيل، عجز القيادات الفلسطينية عن التصدّي للبرامج والأهداف الإسرائيلية منذ فقدت تلك القيادات وحدتها وتماسكها. وتأتي قوة الشعب الفلسطيني، ليس فقط بالصمود والمقاومة، لكن أساسا بوحدة القيادة وتماسكها.
كان ذلك واضحا في التجارب التي مرّ بها الشعب الفلسطيني، يوم فرض على إسرائيل والعالم الاعتراف به وبحقه في إقامة دولة مستقلة. وعندما فقد الشعب الفلسطيني القيادة الواحدة الموحّدة فقد الأمل في أن يكون لاعبا أساسيا فيما يدور اليوم في الشرق الأوسط.
نحن اليوم شعب ليست له قيادات ذات أهداف وخطط تقود إلى مستقبل أفضل. ويعيش الشعب الفلسطيني يومه ولا ينظر إلى مستقبل أجياله. وعملنا الوطني المقاوم يهدف إلى الموت وليس إلى الحياة، والتصدي العربي الذي رافقنا طوال سنوات كفاح شعبنا السياسي أصبح في أحسن حالته يناقش في اجتماع للمندوبين العرب الدائمين في الجامعة العربية.
حصل السُبات الفلسطيني في المرة الأولى بوضوح في السنوات القليلة التي سبقت وتزامنت مع الحرب العالمية الثانية التي شهدت تزايد المخاوف المتصاعدة من أطماع ألمانيا النازية وقوتها، والتي حاولت فيها بريطانيا والولايات المتحدة تهدئة الانتفاضة الفلسطينية التي استعرت وتبلورت في ثورة القسام عام 1936، تبعتها الصدامات مع قوى الصهاينة في شهر أبريل من نفس العام، ثم الإضراب العام الذي استمر طويلاَ.
وتصدّت الدول العربية المستقلة في تلك الفترة في الطلب من الفلسطينيين بالتوقف عنه والثقة بنوايا بريطانيا التي قررت تشكيل لجنة بريطانية – أميركية للتحقيق في قضية فلسطين واقتراح حلول لها.
انقسمت القيادات والفصائل الفلسطينية عام 1945، على غرار ما يحصل اليوم مع حركة فتح وحركة حماس، إلى قسمين، بعضهم رفض مقابلة اللجنة البريطانية – الأميركية، والآخر قبل مقابلة اللجنة والإدلاء بشهاداته، وتبادل الطرفان الاتهامات والتخوين والشجار.
بعد صدور التقرير الذي انتهت إليه اللجنة المشتركة وكان مخيّبا لآمال الفلسطينيين انقسمت الأحزاب مرة أخرى إلى فصيلين، اللجنة العربية العليا والجبهة العربية العليا، وبضغط من الدول العربية في عام 1947 في أنشاص المصرية تم التوصل إلى قيادة فلسطينية موحدة هي الهيئة العربية العليا.
تلك التطورات تسببت في السُبات الفلسطيني الأول الذي أبعد الفلسطينيين عن القيادة أو المشاركة في القرار. الأمر الذي استمر حتى أوائل ستينات القرن الماضي حيث ظهرت فصائل المقاومة ومنظمة التحرير الفلسطينية.
تغيّر الوضع في منتصف سنوات العقد السادس من القرن الماضي بظهور منظمة التحرير الفلسطينية التي جاءت بقرار وقيادة أصدرتها الدول العربية، وتعرّضت أيضا لمشاكل داخلية وتحزّب أعضائها إلى أن تسلّمت حركة فتح قيادتها عام 1968.
غرّدت منظمة التحرير بقرارها الموحّد وعملياتها الفدائية واعتراف كافة الدول العربية والعديد من الدول الغربية بها، وتبوّأت مقعدها في الجامعة العربية والأمم المتحدة.
تسبّب احتلال العراق للكويت ودخول جيوش الدول الكبرى للمنطقة والحصار العربي والدولي لمنظمة التحرير وقياداتها في السُبات الفلسطيني الثاني الذي انتهى بدخول الفلسطينيين، مجبرين، في عملية السلام التي انتهت باتفاق أوسلو.
انكمشت قدرات منظمة التحرير والسلطة الوطنية في التأثير والتصدي لإسرائيل واحتلالها وسياسة مصادرة الأراضي وبناء المستوطنات وتهويد القدس نتيجة للشروط التي أمليت على منظمة التحرير، وتعاظم قوة حركة حماس ودعم بعض الدول العربية والإسلامية لها، والهجوم الإسرائيلي الوحشي خلال الانتفاضة على هياكل الكيانات الفلسطينية والعسكرية واستشهاد الرئيس ياسر عرفات.
جاءت الانتخابات الرئاسية والتشريعية لتعطي بادرة أمل لاستفاقة الكيانات الفلسطينية من خلال وحدة الشعب والقيادة. لكن ذلك الأمل تهاوى بسيطرة حركة حماس على أراضي قطاع غزة وتمّ، رسميا وواقعيا، انفصال غزة عن الضفة الغربية، وفقد الفلسطينيون تماما أيّ تأثير داخلي أو عربي أو دولي وانتهى قرار الفلسطينيين ومستقبلهم في أيدي إسرائيل والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. ومرة أخرى دخل الفلسطينيون في سبات جديد.
وبالرغم من توالي سلسلة التراجع في العمل السياسي الفلسطيني خلال السنوات الماضية، وصعوبتها وتأثيرها على مسيرة مواجهة النهم الإسرائيلي في ضم الأراضي الفلسطينية، فإن ما يجري اليوم من تراجع السلطة الفلسطينية والحالمين بإمارة حمساوية وفقدانهما التأثير على كافة المستويات الداخلية والخارجية، وفي الساحة الوطنية والعربية والدولية، قد فاق كل الأزمات التي واجهها الشعب الفلسطيني.
مروان كنفاني مستشار الرئيس الراحل ياسر عرفات