سنرتكبُ يومًا كلٌ ما يسكُننا.
مرت فراغات كثيرة..
صمت طويل.. ألوان من الأسئلة تنمو في غير تربتِها، وأخرى تنهار غيرَ عابئةٍ بالمطر الذي يبكي من أجل أن تستمرْ.. وجاء ذلك اليوم الذي ظل بعيدا، يمشي بمهلٍ، الساعاتُ تعطلتْ، والدقائقُ المتبقيةُ في حلقي تصرخُ، نعم هو ذاك اليوم الذي حلُمنا به طوال هذه السلاسلِ الزمنيةِ التي فرقتْ أجسادنا، وحولتنا إلى أصواتْ.
جاء ذاك اليوم وقررنا معا أن نفكرَ في شكل ما يسكننا، طلبتْ مني أن أسترخيَ وأنصتَ لداخلي، وهي تعزفُ ما يسكنُها، ظننتُ أن حديثها عن القبل مجردَ نزوةٍ سرعانَ ما سينتهي بانتهاء تعبِ السفرِ، لكن حدسي أخطأها، أمعنتْ في استعراض ثقافتِها الواسعة عن القبل: قبل هادئة، متوترة، صادقة، صفراء، القبلة المنزلقة، الفراشة، الرطبة، الموسيقية، القبلة المعطرة، الحسابية، الكهرُبائية، المائية.. وقبل أخرى، كلما هممتُ لأجربَ معها قبلةً، تضعُ أصبعَها فوق شفتيٌَ، وتطلبُ مني الصبرَ، أضْجَرَنِي حديثها عن القبلِ، ودلالتِها في معاجمِهَا، اكتفيتُ بالاستماعِ مصطنعا ابتسامةً تختزلُ امتعاضي من هذا الذي يسكنُها دون أن يحركَ فِيٌ الشغفَ لمعرفة ما سيأتي، وهي تَمَادَتْ في استعراض حماقتِها، القبلةُ الفرنسيةُ حلوة تشبه الشوكولاه بكريم الفانيلا، القبلة الإسبانية فيها جسارة، القبلة الهندية فيها رومانسية يشوبها حرب الألسن الصامتة، القبلة الأمريكية فيها قوة واحتواء، قلت: والقبلة الشرقية، قالت: فيها إخضاع وإذلال للأنثى: همستُ في أذني: هي التي أبحث عنها.. حَدَجَتْنِي بتوجس، وانفجرتْ باكيةً.. تركتُها تغسِلُ بدموعها تلك اللحظات التي اقتنصَتْها مني دون أن أحظى بحماقتي التي لا تشبه حماقتها.
في الصباح أهديتُها وردةً حمراءَ تُشْبِهُ شَفَتَيْهَا، واعتذَرْتُ عن فضاضتي حتى تقتنعَ أنني رومانسي نسِيَ موعدَ القطار وتاه في صحراء صفراءَ، ابتسمتْ، ولم تعقبْ، كسرتُ سيمفونيةَ الصمتِ، ثرثرتُ كثيرا، ظلتْ تَرْمُقُنِي ولا تتكلمْ، أحسستُ باستنفاد الحكايات، فارتكنتُ إلى نفسي، أكنسُ بلاغتي التافهةَ، وأحاولُ فهم هاته التي سكنتني زمنا. في اللحظة نفسِها وأنا أسافرُ في غياهبَ بعيدةٍ لا ساحلَ لها، أنقدتني من تَيْهِي، وأطلعتنِي على حماقتها، اخترعتُ لنفسي قبلةً تلبٌِي رغبتِي، تشعلُ داخلي حريقا مهولا، يجعل جزري العذراءَ تبحث عن رجل الإطفاء لإخماد لهيبي. رهانُها أن يصبحَ الكوكتيلُ حماقةً، وليصبحَ كذلك، يحتاج إلى شَفَتَيْنِ ناضجتين عوضَ الوسادة الناعمة.
جاءتني تجر حماقتها، تطمح أن تكونَ معلمةً ناجحةً، وفي يديْها معجمُها وكوكتيلُها ووسادتُها. أنا الفأرُ الذي عليه أن يرخيَ شفتيْهِ ليدعَ المعلمةَ تجربُ كوكتيلَها، انصعتُ لأوامرِها، وأنا أعرف أنها ستفشل في ترويض شفتيٌَ، وستحملُ حقيبتها وتجرٌُ حماقتَها وتعودُ من حيث جاءت، تبحثُ عن فأر أبيضَ تجرب معه حماقتَها التي ليست حماقتي، وهي تتأملني، وتتحدى براكينَ الرفض التي ترقص داخلي، تشرحُ لفأرها معنى الشفة العليا، والشفة السفلى، واللسان، وهواء القصبتين، ودقات القلب، ونسبة السكر في الدم، وعمل العضلات..
– أنت تقبل بروحك وليس بشفتيك..
– وبعد..
– القبلة هي أن تمنح دون أن تنتظر عطاء من أحد..
– وبعد..
– القبلة ليست إغراء، إنها أنت..
– أوف، وبعد..
– القبلة بداية الغواية، وصرخة طفل مؤجلة..
– …
في الليلة الأخيرة من أسبوع التجارب الفاشلة، بكت السماء بغزارة، كنا نراقب المطر وهو يسقط فوق حديقتي، ويصنع بركا مائية، تكبر ويتغير لونها وإحساسها، نتأمل ذلك، قالت: القبلة كالمطر، تحيي أرواحنا، واستدارت لتواجهني، وجهي يقابل وجهها، اقتربتْ، همهمتُ بكلمات، ركزتْ نظرتها في عيني، اقتربتُ أكثر، مساحةُ ما بيننا تتضاءل، أشمٌُ رائحتها، أسمعُ دقات قلبها تصرخُ، تحولتُ من فأر إلى رجل إطفاء لا يتقن عمله، تشنجتْ شفتِي العليا، بينما شفتي السفلى ظلتْ مسترخيةً، أسناني تعضُ مقدمة لسانها، تتشابك مع أسنانها، تحدث طقطقة، تعيد نشوتها إلى الصفر، تلعنني، وتلعن اليوم الذي حملت حماقتها وجاءت إلي. بصمت تعود إلى تخدير شفتي المتشنجة، ولسانُها يصر على تذويب بقايا الكلس المترسب بين أسناني، قبلتها، قبلتني، حرائقنا حولت الحديقة رمادا، استغرقتْ زمنا طويلا وهي تجرب كوكتيلها الذي أصبح كوكتيلي، أتوقع أن تعيد التجربة مرة، مرتين، مرات..امتنعت، ولم أحتج، تخدرتُ، أرخيتُ جفوني فوق وسادتها الناعمة، وفي رأسي يرقص سؤال عريض عن علاقة الكوكتيل بالكلس الذي بين أسناني، وأنا الذي أواظب على عيادة طبيب الأسنان.