مع تنامي مخاطر التهديدات الإرهابية في أوروبا عقب هجمات فرنسا والنمسا، تمثل المعلومة حجر الزاوية الرئيسي في تشكيل الاستراتيجيات الأمنية لمواجهة تهديدات الأمن القومي، إلا أن بريطانيا تغامر بفقدان حق الولوج إلى البيانات الأوروبية لمكافحة الإرهاب وتعقب المتطرفين حال انفصالها عن أوروبا دون اتفاق، ما يصّعد التحديات الأمنية ويفاقم من احتمالات تعرضها لهجمات إرهابية.
ويطرح فقدان حق الوصول للبيانات الأوروبية سؤالا مهما حول ماهية الخسائر التي قد تلحق ببريطانيا، في وقت يؤرق فيه ارتفاع منسوب العمليات الإرهابية في القارة العجوز دول الاتحاد الأوروبي مجتمعة، فما بالك بحكومة بريطانية تتجه لعزل لنفسها، إذ تقرن بروكسل مواصلة التعاون الأمني مع لندن باتفاق بريكست شامل يبدو أن رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون غير متحمس له.
ويؤكد مراقبون أنه في حالة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي من دون اتفاق، ستصبح الشرطة عاجزة بنحو متزايد عن التعامل مع الجريمة في البلاد، لأنّ ذلك يعني قطع اتفاقيات مشاركة البيانات الحالية مع الاتحاد الأوروبي.
وبينما لا تزال المحادثات بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي متواصلة مع وجود إشارات سلبية تقلل من احتمال التوصل لاتفاق، تزايد القلق من بريكست دون اتفاق، حيث يمكن أن تكون له تداعيات خطيرة على قدرة لندن على محاربة الإرهاب و الجريمة عبر الحدود.
ويعتقد هؤلاء أنّه من دون القدرة على تبادل البيانات والاستخبارات عبر الحدود، ستتراجع القدرة على تطبيق القانون بشكل مستمر، لافتين إلى أن ذلك يشمل كل شيء، بدءاً من تسليم المجرمين، إلى إخطار التنبيهات، ومطابقات مسرح الجريمة والبحث في السجل الجنائي الذي سيكون أبطأ بكثير.
وحاليا، يمكن للشرطة في المملكة المتحدة مثلا الحصول على بصمات الأصابع ومعلومات الحمض النووي من نظرائها في الاتحاد الأوروبي بغضون 15 دقيقة، عن طريق استخدام “نظام بروم”، فيما أكدت شرطة لندن أنه قبل توفير هذا النظام، كان الأمر يستغرق أربعة أشهر للحصول على المعلومات ذاتها.
ويقول بيتر ريكيتس، مستشار الأمن القومي السابق إنّ الشرطة البريطانية ستصبح كمن يحاول التعامل مع الجريمة في عالم سريع الحركة بيد واحدة مقيّدة خلف ظهرها. وأضاف أن التراجع عن اتفاقيات ما قبل الاتحاد الأوروبي لم يعد قابلاً للتطبيق في عالم زادت فيه تحركات السكان بسرعة.
وفي الوقت الحالي، تستطيع الشرطة البريطانية التحقيق فوراً في الجرائم، من خلال نظام معلومات السجلات الجنائية الأوروبي. بيد أنّ تحقيقات مماثلة عبر أنظمة بديلة، ستستغرق 66 يوماً في المتوسط، وفقاً للأدلة التي قدمتها شرطة العاصمة إلى لجنة اللوردات في وقت سابق من هذا العام.
مزايا أوروبية ثمينة
طبقا لمؤشر الإرهاب الدولي خلال الأعوام من 2015 حتى 2019 ظهرت المملكة المتحدة في مراتب متقدمة من حيث أعداد الضحايا الناجمين عن العمليات الإرهابية على أرضها، ففي 2015 كانت لندن في المرتبة الأولى أوروبيًا مسجلة الرقم 28 عالميًا بين 124 دولة تمت دراسة نسب الإرهاب بداخلها، بينما في 2016 تراجعت للمرتبة الثانية أوروبيًا بعد فرنسا التي منيت بضربات قوية على خلفية أحداث باريس التي وقعت في 2015 على أيدي تنظيم داعش، وحافظت على ذات النسبة الأوروبية في إحصائية 2017 محتلة المرتبة 35 عالميًا.
لكن شهد عام 2018 تصاعد للإرهاب في المملكة وفقًا للإحصائية لتعود إلى المرتبة الأولى أوروبيًا وتصعد سبع درجات عالميًا لتتحول من المرتبة 35 إلى 28 محافظة على ذات الترتيب خلال عام 2019، ما يعني في مجمله أن نسب الإرهاب لا تزال مرتفعة في لندن.
ويجمع المعنيون بالأمن بأن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي دون اتفاق سيجعلها أكثر عرضة للإرهاب، وربما يعود ذلك إلى فكرة أن الإرهاب لم يعد مستوردا بل أصبح محليا، في ضوء بيانات العمليات الإرهابية التي ضربت أوروبا مؤخرا.
ويرى هؤلاء أن حرمان بريطانيا من الوصول إلى قاعدة البيانات التي تتيح لها مشاركة المعلومات مع الشرطة الأوروبية بشأن المشتبه بهم يساهم بشكل مباشر في فشل استراتيجيتها الجديدة لمواجهة الإرهاب المسماة “كونتيست”، والتي أعلنت عنها في 4 يونيو 2018 إذ أنها تعتمد على تبادل للمعلومات على نحو أسرع بين جهاز “أم.أي 5” والشرطة والسلطات المحلية وكذلك القطاع الخاص.
وقال مساعد مفوض شرطة سكوتلاند يارد، نيل باسو في تصريح نقلته صحيفة التايمز في 18 أغسطس 2019 أن “أمن المملكة سيعاني كثيرا إذ خرجت لندن من الاتحاد الأوروبي دون اتفاق يضمن لها التعامل مع المراكز الأمنية التي طورت خصيصا لمعالجة قضايا الإرهاب والتي كان لها تأثير كبير على الحد من وقوع الهجمات”.
وتحتوي منصة “يوروبول” على معلومات ثمينة حول الإرهابيين والمجرمين وكذلك تحليلات الجرائم والبيانات التي تحول دون وقوع المزيد من الحوادث بداخل الاتحاد وتسهيل القبض على المتورطين في القضايا المختلفة.
وإلى جانب ذلك ستخسر بريطانيا منصة (ECTC) المركز الأوروبي لمكافحة الإرهاب المؤسس في 2016 ليكون الأداة المتخصصة ليوروبول لمكافحة الإرهاب وتتبع مصادر تمويله والدعاية له على شبكة الإنترنت.
وفي ظل معاناة بريطانيا خلال الأشهر الأخيرة من أزمة مهاجرين واحتمال استغلال أزمة اللاجئين من جانب العناصر الإرهابية للتسلل إليها، تقامر لندن بالخروج أيضا من نظام شنغن المعلوماتي الذي يتيح لها الوصول إلى قاعدة البيانات الخاصة للمهاجرين عبر الحدود الأوروبية.
ويوفر نظام معلومات شنغن تحذيرات لأجهزة الشرطة وحرس الحدود حول الأشخاص الخطيرين وهو يمكّن سلطات إصدار التأشيرات والهجرة من التعرف عليهم لرفض دخولهم منطقة شنغن أو الخروج منها، وكذلك يتيح للدول الأعضاء التعرف على المركبات ولوحات ترخيصها وجميع المعلومات عن قائديها، ويمتلك قاعدة بيانات مهمة لبصمات اليد والحمض النووي وصور الوجه للمفقودين والجناة.
ويلعب هذا النظام دورا كبيرا في ملف الإرهاب والهجرة ومساعدة مسؤولي حرس الحدود بشأنهما. وتأتي مذكرة الاعتقال الأوروبية (EAW) كأحد أهم الاستحقاقات التي ستخسرها بريطانيا والتي يتم بموجبها تسليم الجناة والمحكوم عليهم قضائيًا بين دول الاتحاد دون إجراءات معقدة، وتسري هذه الاتفاقية منذ 2004 لضمان عدم الاستغلال السيء لحرية الحركة على الحدود المفتوحة بين منطقة شنغن.
واستلمت بريطانيا منذ 2009 وحتى 2018 ما مجموعه 271 شخصا من مواطنيها لمواجهة العدالة بينما سلمت دول الاتحاد الأوروبي خلال نفس الفترة 9853 مدانا، بعدما كان تسليم شخص واحد يستغرق العديد من السنوات قبل هذا الاتفاق، ما يعني أن لندن من المحتمل أن تكون ملاذا لمتطرفي ومجرمي القارة، مع عدم تمكنها من تسلم الجناة على أرضها ما قد يزيد من معدل الجريمة.
وبناء على ذلك يرجح أخصائيون أمنيون أن وضع الإرهاب سيهتز لفترة داخل المملكة المتحدة، إذا أن الجماعات الإسلامية المتطرفة تتحرك وفق مجريات الظروف السياسية وتغيّر الاستراتيجيات الأمنية.
وسجلت بريطانيا ارتفاعا في عدد المشتبه فيهم بالتشدد الإسلامي، لأول مرة منذ أربع سنوات، وذلك ضمن أكبر برنامج حكومي خاص بالإشراف على التطرف والوقاية من الإرهاب.
وأكدت وزارة الداخلية البريطانية، في إحصاءات نشرتها في 26 نوفمبر 2020، أنها درست خلال الفترة بين مارس 2019 ومارس 2020 ملفات قرابة 1.5 ألف شخص، بسبب مخاوف متعلقة بالتشدد الإسلامي، ما يتجاوز بـ6 في المئة رقم العام السابق.
تفاقم التطرف
رفعت بريطانيا مستوى التهديد الإرهابي في البلاد إلى “خطير”، وهو ثاني أعلى مستوى، بعد الهجمات الأخيرة في النمسا وفرنسا. ويعرف مستوى التهديد الخطير بأن وقوع هجوم يُعتبر مرجحا للغاية. كان المستوى في السابق عند “كبير”، مما يعني احتمال وقوع هجوم.
وجاء القرار الذي اتخذته وزيرة الداخلية بريتي باتيل بعد أن قام رجل كان قد حاول الانضمام لتنظيم داعش بعملية اقتحام وسط العاصمة النمساوية فيينا مسلحا بسلاح ناري آلي وحزام ناسف مزيف، فقتل أربعة أشخاص قبل أن ترديه الشرطة قتيلا.
وقالت باتيل في بيان “اتخذنا بالفعل خطوات مهمة لإصلاح سلطاتنا وتعزيز الأدوات للتعامل مع التهديدات الإرهابية المتطورة التي نواجهها”. وأضافت “تلك العملية ستستمر، ولا يجب أن يشك الرأي العام البريطاني في أننا سنتخذ أقوى تحرك ممكن لحماية أمننا القومي”.
ويرى مراقبون أن ارتفاع التهديدات الإرهابية في بريطانيا لا يمكن عزله عن أنشطة الجماعات الإسلامية المتطرفة التي توظف المجريات السياسية والانتقالية في البلاد، خاصة وأن المملكة المتحدة تحتضن العديد من التنظيمات المتطرفة وعلى رأسها الإخوان المسلمون الذين نجحوا حتى الآن عبر علاقاتهم وشبكات تمويلهم في تفادي تصنيفهم جماعة إرهابية داخل بريطانيا.
وتتعامل السلطات البريطانية مع الجماعات الإسلامية بمرونة عززت من تلك الصورة المربكة لمستقبل الأمن بعد أن تركت جماعة الإخوان تتوسع بشكل كبير مع استثمارات متعددة أتاحت لها قنوات لترويج أيدولوجيتها المتطرفة.
وتتصاعد مخاوف بعض الساسة من التوغل الإخواني الواضح في المجتمع البريطاني ما دفعهم لمطالبة الحكومة بحظر أنشطتها وحل مؤسساتها، إذ أنها تعتمد على شبكة موسعة ومعقدة عابرة للحدود تستفيد منها لتهديد الأمن القومي الداخلي لبريطانيا.
وأفادت منصة “The national” في فبراير 2020 بأن النائب عن الحزب الاتحادي الديمقراطي بأيرلندا الشمالية، إيان بيزلي صرح بأنه سيناقش ضرورة إقصاء الإخوان مع وزيرة الداخلية، لرؤيته بمسؤولية الجماعة عن انبثاق جماعات عالمية متطرفة.
وأكد بيزلي أن المملكة المتحدة في دفاعها عن حرية الاعتقاد الديني تسمح بوجود مؤسسات مسيسة تقودها الحكومة التركية والقطرية، وبالتالي فإن لندن يجب عليها الحظر السريع للإخوان لما تمثله من خطورة على أمن أوروبا والعالم.
ويمثل وضع اقتصاد جماعة الإخوان تحت المراقبة الحكومية إبان ذروة انتشار فايروس كورونا خوفا من استخدام التبرعات والتمويلات النشطة خلال تلك الفترة لدعم الجماعات المتطرفة، بحسب وزارة الداخلية في مايو 2020، مدخلا يؤكد بأن الحكومة البريطانية تعي بأن الجماعة قد تكون فاعلة في هذا الإطار ما يفتح الباب حول أسباب ترك الباب مفتوحا لتوسعها في النفوذ المجتمعي والفكري والإعلامي.