افتقدت الاحتفالات بعاشوراء كل سنة هجرية، إلى تلك الأجواء المتعارف عليها داخل كل منطقة، وفق طقوس وعادات تساهم في تماسك الأسر والجيران، وتقوي ارتباط الأبناء والأحفاد. للأسف تلاشت معالمها من جيل لآخر، ولم يعد لها مكان في عصرنا، بعد أن جرى إهمالها ونسيانها، وارتدت عاشوراء بدع جديدة مدمرة تم ترسيخها داخل المجتمع. تدعم الانحراف والعنف والتفرقة وكل أنواع الخبث البشري. تحول عاشوراء إلى موعد مع الإجرام والتسيب “بالعلالي”. حيث يمكن لشاب أو يافع أن يعترض سبيل أي شخص، وإغراقه في مياه مجهولة المصدر. أو تعريضه لخطر الإصابة بمتفجرات أو أدخنة وألسنة نيران العجلات المطاطية. فضل مجموعة من المنحرفين والمشاغبين بعدة مدن مغربية الاحتفاء بطرقهم الخاصة، حيث يحولوا الأزقة والشوارع والفضاءات الخضراء إلى ساحات حرب. بعد أن يعمدوا إلى اعتماد الإطارات المطاطية وحاويات الأزبال في إشعال النيران أو ما يعرف بـ “الشعالة”، التي يتنافسون في حجمها، ومداعبتها. بل منهم من يعمد إلى رشق ممثلي السلطات المحلية والأمن الوطني وطردهم. إضافة إلى الاحتفاء بظاهرة (زم زم)، المعروفة بالمغرب، باعتراض سبل المار والسائقين، ورشهم بالمياه، بل هناك من يستغل الظاهرة لرش الناس بالمياه المستعملة أو البيض. دون أدنى احترام لهؤلاء الضحايا، الذين تتضرر ملابسهم وما يحملونه من أغراض. وقد يجبر البعض على إلغاء مواعيد رسمية أو العودة إلى منازلهم من أجل ارتداء ملابس جديدة. هل يعقل أن يكون الاحتفاء بتفجير قنينات الغاز من الحجم الصغير أو الكبير، وترويع الناس، منهم الأطفال والمرضى والحوامل والشيوخ؟. أو باستعمال متفجرات صينية مهربة تحمل أسماء مثيرة “الكراندة، ميسي، زيدان، البوكيمون، سكود …”. بالإضافة إلى متفجرات ذات صنع محلي “ميد إن ماروك”. ويتعلق الأمر بقنينات البلاستيكية والزجاجية، والتي يتم ملأها بصفائح الألمنيوم وكميات من المياه الحارقة. كما استعمل بعضهم المياه الحارقة. هل يعقل أن نضع البلاد في حالة طوارئ، ونشغل كل الأجهزة الأمنية بالمغرب من أجل مشاغبين ومنحرفين قرروا الاستمتاع بتعنيف الناس.
تعالوا معي لأذكركم ببعض من طقوس وعادات الأجداد. أحكي لكم كيف ابتسمت الحاجة رابحة وهي تستقبل سؤالي عن عادات وطقوس منطقتها الزيايدة الخاصة. عادت بالذكرى إلى أيام الصبى وقالت بصوت تكسوه نبرات الحسرة على ماض مضى دون عودة: كنت في صغري رفقة فتيات الدوار، نلتقي صباح يوم عيد الأضحى، لنبدأ الاستعداد لليلة عاشوراء “العاشر من شهر محرم”. يأتي يوم فاتح محرم أول أيام عاشوراء فنختار عظما للفخذ الأيمن “يلقب بالكصير” لأضحية العيد من بين العظام التي تأتي بها كل بنات الدوار، نزينه بالحناء ونلبسه أزهى اللباس بمساعدة الأطفال الذين كانوا يكلفون بخياطة الكسوة التي نكون قد فصلناها له “اتشامير والسلهام والرزة”، نصنع له كتفين ورأس، ونضعه كالعريس فوق صينية، ثم نجول به كل الدواوير المجاورة، نلتمس من أصحاب الخيام والمنازل ما تيسر لديهم من “ثمر أو شريحة أو دقيق أو نقود. نهتف كل ما مررنا بمنزل: أعطينا فليس بابا عايشور آالله يعمر الدار. وتصيح أخريات: عايشور أبابا، عايشور أبيض الركاب.. إلى سوتي”ضربت” لالة منانة يعطيك الذباب.تستمر جولات الفتيات كل يوم من أيام عاشوراء، وتتكفل إحداهن بجمع المحصول اليومي وتخزينه، حتى يوم العاشر من محرم، حيث يبدأ الاستعداد لتوديع “بابا عايشور”، الوداع الأخير، فتقوم الفتيات بإزالة لباسه، وغسله وتكفينه وتقبيله ووضعه في مكان ما في الخلاء القريب من الدوار، وتمثل إحداهن دور الزوجة أو الأم التي مات زوجها أو ابنها، فتبدأ في البكاء والنواح، وتنادي جاراتها اللواتي ابتعدن قليلا عن المكان: هاها عايشور .هاها بابا .. أوليدي عايشور أوليدي أبابا… عايشور مات… تأتي الفتيات من كل صوب وناحية يجسدن أجواء حالات الوفاة عند الكبار، ويصرخن: يا دار جديدة ودخلها برد الليالي… أقوموا أنصارى ردوا عايشور فين غادي…عايشوري عايشوري … دليت عليك شعوري..
تبكي بعض الفتيات بكاء حقيقيا وتندب خدودهن وتقطع شعرهن، وتنتظرن الأولاد حتى يأتون ليقوموا في الفترة ما بين العصر والمغرب بتشييع جنازة “بابا عايشور”، فالفتيات ممنوعات من السير وراء الجنازة. يذهب الأولاد في موكب جنائزي إلى محل في الخلاء وهم يصيحون: لا إلاه إلا الله محمد رسول الله… وتبقى الفتيات تندب فقيدهن ويعدنه بالحزن العميق عليه: عايشور العزيز في الزاوية دفنتو …أنا حالفة على رأسي لا دهنتو.
وأضافت الحاجة: كنا نشتري (الطعارج والبنادر)، خلال فترة عاشوراء استعدادا لإحياء ليلة تشييع جنازة بابا عايشور… نلبس أزهى ما لدينا من (قفاطن وجلالب ودفاين ومضمات وشرابل وزيوفة وشدودة… ومن الفتيات ما يأتين مكان الحفل متنكرين في أزياء أمهاتهن أو أخواتهن الكبيرات، ونقتسم الأدوار طيلة ليلة عاشوراء… نقتني قطع لحم من بيوتنا، فكل أسرة تختزن لابنتها قطعة لحم من ذبيحة عيد الأضحى، تأتي بها ليلة عاشوراء… و تأتي الفتاة التي جمعت محصول الأيام التسعة من الجولان داخل الدواوير المجاورة. تنتهي فترات الحزن بعد دفن الجنازة، وتبدأ الاستعدادات لوليمة العشاء (خيلوطة)، وهي وجبة عشاء تشترك فيها كل الفتيات بقطع لحم العيد إضافة بعض ما يلزم الطهي من توابل وأواني وموائد، إضافة إلى ما جمعوه من تجوالهم رفقة العريس الفقيد (بابا عايشور)، ويشارك في الحفل الأخير الأولاد الذين يشعلون نار قوية (الشعالة)، تضيء الخلاء كاملا، وتبدأ الفتيات بالرقص والطبل والأولاد يدورون حول (الشعالة)، يقفزون فوقها، ويهتفون رفقة الفتيات بعدة كلمات معبرة عن فرحتهم بالعرس الكبير، تستمر الاحتفالات حتى موعد متأخر من الليل، لينتهي العرس ويتوعد الجميع بعرس أحلى وأحسن لبابا عايشور السنة المقبلة… هناك خرافات وتفاهات لكنها كانت تسعد الكل ولا تؤدي أحدا.
بقلم : بوشعيب حمراوي