تكتسي هذه الدراسة لمتن “نسيم البوسفور” الرحلي، أهمية بالغة من عدة وجوه:
أولاها مخطوط الرحلة في حد ذاته. إنه ليس كأي مخطوط. إنه للعلامة الدكتور عباس الجراري عميد الأدب المغربي. أديب و مؤرخ و باحث ولد سنة 1937 بالرباط. حصل على الإجازة في اللغة العربية وآدابها من جامعة القاهرة سنة 1961، وعلى الماجستير 1965، وعلى دكتوراه الدولة في 1969. تقلد مجموعة من المسؤوليات قبل أن يستقر به المقام مستشارا ملكيا. له عشرات المؤلفات في حقول مختلفة، تتوزع بين الدراسات الأدبية والبحث في التراث العربي والفكر الإسلامي، وجملة من القضايا الثقافية. إنه نموذج للمثقف الموسوعي. حاز مجموعة من الأوسمة الرفيعة وطنيا ودوليا.
ثانيها الدكتورة بديعة لفضايلي، التي تشرفت بتحمل مسؤولية نقل هذا المخطوط “من ظل التواري إلى مملكة العلن”، فتولت إعداده ودراسته ليصبح ناجزا جاهزا، إنها إحدى فوارس لغة الضاد، تأليفا و محاضرة و تدريسا وإبداعا متميزا. تكفيها شهادة العلامة عباس الجراري، لما خصها بمخطوطه الرحلي هذا، ونوه بها قائلا في افتتاحية دراستها هاته “وقد أعدتها للنشر مع دراسة دقيقة وعميقة عنها الأستاذة الجليلة الدكتورة بديعة لفضايلي التي أعرف مدى قدرتها على البحث العلمي وكبير تمكنها من أدواته”.
فالنص على محدودية عدد صفحاته (حوالي 50ص)، إلا أنه من الثراء بمكان؛ ثراء أدبيا بلغته الراقية الشفيفة، لغة الأدباء الكبار، عمداء الأدب العربي، وثراء تاريخيا بما تضمنه من إشارات تهم مآثر تاريخية ودينية، يتفاوت التفصيل فيها بحسب أهميتها، وشخصيات لها حضورها الوازن في تاريخ الإمبراطورية التركية، و ثراء جغرافيا بتحديد الأماكن وقياس المسافات، و اعتماد الخرائط برسم بنان يده، وثراء اجتماعيا من شأنه أن يسعف الباحث الاجتماعي بما يحتاج إليه في دراساته، خاصة بحياة الأتراك في المساجد وفرادة تدينهم تصل أحيانا حد الغرابة، بانتشار ظاهرة التبرك بالمزارات بشكل لافت ص127، وكذا عاداتهم وتقاليدهم في المقاهي، وطريقة احتفالاتهم في الأعياد، و معمار حماماتهم وطقوس غسلهم. فالنص يختلف عن بقية المخطوطات، من جملة وجوه، نشير إلى بعضها:
أولا: فرادة الرحلة و تميزها:
المخطوط يوثق لرحلة تختلف عما درجنا عليه خلال مخطوطات معظم الرحلات قديما أو حديثا. “فإنها خلت تماما من ضروب التخييل والمناحي العجائبية واتسمت بالواقعية
والتقريرية” ص 130. إنه يوثق لرحلة علمية محددة زمانا، لا تتجاوز ثلاثين يوما، ومكانا بين اسطنبول وبورصة، وهدفا من أجل جمع المادة الخام لأطروحة الدكتوراه عنوانها “الزجل في المغرب: القصيدة” بالقاهرة، انضاف إلى ما تحصله من وثائق ومخطوطات خلال رحلاته المتكررة إلى إسبانيا، وكذا ما كان بحوزة بعض المعمرين يدخل في صميم بحثه. هذا كله بجانب ما استقي مادته من أشياخ الملحون، من كل جهات المملكة، سعيا منه كما استخلصته الدارسة في ص 17 بقولها “كان المرمى منه التأسيس لدراسة الأدب الشعبي بالجامعة المغربية، حيث ظل ساعتها متواريا لا يُحفل به كإبداع مُثَبّت للهوية المغربية”.
لا بد هنا من فتح قوس، لمساءلة أطاريح دكتوراه زمننا هذا، بعد ثلاث وخمسين سنة من إنجاز أطروحته هاته بهذا الزخم من البحث، ما إن كنا نتقدم على مستوى البحث العلمي، أم نتخلف، باستحضار جهوده في التنقل بين عدة بلدان، وتكلفتها المادية، حتى إنه اضطر لشد الحزام في المسكن وفي المأكل، ليوفر ثمن دمغ المخطوطات ونسخ أكبر عدد منها من الجامعات التركية و مكتباتها ومتاحفها، فضلا عما عاناه عقب توقيف راتبه، أفضى به إلى ضنك وعسرة. فمن كان يتصور أن يقود البحث الأكاديمي، الطالب عباس الجراري إلى تركيا ليجمع مادته عن الزجل المغربي بتوجيه من الأستاذ محمد بن محمد بن تاويت الطنجي الذي قال له متحسرا “الحمد لله أن مخطوطاتنا وصلت إلى يد العجم فحافظوا عليها” ص 51.
ثانيا: تشظي المتن الجراري بين فن الترسل و فن الترحل:
ففي ص 74 بعدما نوهت الدارسة بهذه الرسائل، أكدت أنها مكنتنا من معرفة عباس الجراري الإنسان في علاقته الحميمة بزوجته، وحنوه البالغ على ابنتيه عُلا وألوف، وعلاقته بعائلته. على خلاف جل النصوص الرحلية، فهي عادة ما تقتصر على فن الترحل، دون تجاوزه إلى فن الترسل، فلا تخرج عن أقسامه المعروفة من وصف للأماكن من مساجد وساحات وقصور ومعابد ومآثر أو أشخاص من أوساط اجتماعية مختلفة، أو استغراق في وصف الطبيعة والعمران وما يرتبط به من تنظيمات إدارية وكذا عادات المجتمعات وتقاليدهم في أفراحهم وأتراحهم، وغيرها مما يرتبط بنوع الرحلة، دينية بقصد الحج، أو علمية أو سياحية أو من أجل تجارة أو سفارة.
نظرات في منهجية الدراسة لمتن “نسيم البوسفور”:
الدارسة كانت محظوظة، إذ تسلمت المخطوط يدا بيد من صاحبه، بما أن المخطوطات أنواع؛ كهذا الذي لا يحتاج إلى مقارنته مع نظرائه للتأكد من صحته، أو المخطوط المنسوخ عن المخطوط الأم، أو المخطوط المرحلي الذي يؤلفه صاحبه على مراحل ك”وفيات الأعيان لابن خلكان”، وغيرها كالمبهم الذي قد تنقصه ورقته الأولى تحتوي العنوان واسم المؤلف أو أي عيب آخر.
فمقاربة النصوص الرحلية ليست كأية مقاربة. إنها لتعدد مضامينها وتشعبها، بين ما هو تاريخي وما هو جغرافي و سياسي واجتماعي وديني وفني وأدبي، يكون لزاما على أي دارس يقتحم ساحتها، أن يكون على دراية بمجموعة من العلوم المرتبطة بمجالات النص الرحلي ومجالات تحرك الرحالة.
الدارسة توزعت منهجية مقاربتها لهذا المتن الرحلي بين عملية التفسير لبعض ما استشكل فيه وتوضيحه، وبين تعليل بعض ما أحجم الرحالة عن تعليله، وبين إرجاع النصوص إلى أصولها دينية كانت أو شعرية أو أمثال، وذكر رواياتها المختلفة، وبين مناقشة الرحالة في بعض ما أورده، وبين التفصيل فيما ورد في المتن مجملا، النص الرحلي بقدر بساطته ظاهريا، باعتباره رسائل يومية إلى زوجته، بقدر عمقه وغناه. خلق للدارسة متاعب جمة في العديد من محطات مقاربتها له، كانت مناسبة لإبراز قدراتها البحثية وسعة اطلاعها على تراثنا الزاخر قديما و حديثا، ابتداء من عتبته المتعلقة بعنوانه “نسيم البوسفور”. استغرق منها صفحات لتوفق بين ما يُعرف عن النسيم من كونه الريح اللينة، لا تحرك شجرا ولا تعَفِّي أثرا، و بين ما ورد في المتن المحكي و ما عاشه الرحالة من أمطار غزيرة يقول “لم نألفها إلا في فصل الشتاء وأيام “الليالي” 150، تلتها حرارة مفرطة، مما اضطر الدارسة للتساؤل عن هذه المفارقة، فتخلص إلى أنها ربما من باب مخاتلة العتبات”فتخدعنا حين تضللنا بمعانيها التي تظهر خلاف ما تضمر أحيانا” ص11، كنوع من الاحتيال على القارئ لشد انتباهه وجلب اهتمامه.
لكن ما استغرق منها أكثر واضطرها لتستنجد بمجموعة من مراجع أعمدة أدب الرحلة هو تصنيفه إذ تقول “لكننا نشهد داخل هذا المتن تشظيا تجنيسيا واضحا يستعصي معه تأكيد هوية ثابتة له” ص13، و تزيد قائلة “فالمتصفح لهذا المتن سيلفي ذاته إزاء ثلاثة أصناف نثرية أصيلة تتناوب معمار النص، وهي الرسالة والرحلة والمذكرة” ص12، فاستندت في خوض غمار هذا النقاش الهوياتي إلى مجموعة مراجع ك”الرحلة في الأدب العربي” للدكتور شعيب حليفي في شقه المتعلق بتخلل الأجناس الأدبية لمحكي السفر، من سيرة ذاتية وتأريخ وجغرافيا وحكي وخبر و غيرها، “و مع كل هذا وجدت نفسها مضطرة لترجئ الحكم عن هويته إلى حين” 14، وتتساءل في المبحث الأول مؤكدة على أن الدارسين إذا كانوا قد انتهوا من ترسيم معالم هذا الجنس ف”هل امتثل نسيم البوسفور للخصائص النوعية للانتماء إلى أدب الرحلة؟”15، بعدها طفقت تبحث عن مدى توفر النص المحكي عن الخصائص المتعارف عليها، لتخلص أنه لم يغفلها مثل ذكر دواعي السفر، وتفصيل الرحالة في الحديث عن السفر ذاته بإيراد حديث السفر المعروف “السفر قطعة من
العذاب”، استند فيه لما ورد عن أبيه لما قال”ولو أن الذين قالوا إن “السفر قطعة من العذاب” عانوا ما أعاني أو قريبا منه، لقالوا إن العذاب قطعة من السفر”18. مما يدل على أن هذا الفرع من تلك الشجرة بخصوص نشاط السفر لدى الرحالة عباس الجراري.
كما أكدت توفر النص ثانيا على بنية المكان. فالمتن حافل بالأمكنة يقول:”و قد جمعت فيها مخطوطات حوالي ثمانين خزانة على ما سجلت في مذكرتي الخاصة بذلك”31، ومساجد لم يفته أن يرصد تاريخ بعضها وما تتميز به، منبهرا بجمال معمارها وفخامة بنيانها، ومعجَبا بجامعاتها العريقة ومقاهيها وحماماتها بقبابها الدائرية وجدرانها الرخامية وطاساتها المعدنية البيضاء.
– الدارسة كدأبها خلال عرضها لندف من المخطوط، فزيادة على عملية التمهيد المناسب بلغتها الشاعرية، فهي تثني على العمل الذي قام به، كقولها “وقد اتبع الرحالة نهج التدقيق والتفصيل والإحاطة بما ينقل من أوصاف تتعلق بما رآه في المتاحف، أسعفه في ذلك قدرته على الاستبطان والتمييز والتقييم” ص37
– الدارسة في أكثر من موضع عمدت إلى تفسير ما سكت عنه المتن الرحلي كتعقيبها على ما ذكره من إهمال لأحد معابد البيزنطيين بقولها “وربما كان ذلك نتيجة اهتمام تركيا بالحضارة الإسلامية وازدرائها أو إهمالها لما عداها”40، ولتؤكد ما ذهبت إليه تزيد “ولا أدل على ذلك من الأوصاف التي قدمها الرحالة للمتاحف والقصور والمساجد الإسلامية والتي توضح الصيانة والعناية التي تحظى بها”41. نفس الشيء نجده في ص50، فهي تعلل إحجام الرحالة عن التفصيل بخصوص القيمين على المكتبات والنادل ومرتادي المقاهي والعكس “بيد أن هذا النص أجلى اسم علمين اثنين كان لهما جميل الوقع في فؤاد رحالتنا أما أحدهما فالأديب المغربي العلامة محمد بن تاويت الطنجي، وأما ثانيهما فالأديب الفلسطيني الكبير الدكتور إحسان عباس”
وتتوقف حتى عند سبب مخاطبته لزوجته “حميدتي”. في ص68″فهو يناديها “حميدتي” وكأنها ماثلة للعيان وبذكره اسمها يستحضرها أمامه كاملة البهاء والأنوثة والدلال” وتزيد قائلة “و لولا ذكر علا و ألوف في تضاعيف الرسائل، لخلناها خطابات ملتهبة بين عاشقين أضناهما الوسن”. وأبعد من ذلك توقفت بالتفصيل حتى عند عتاب زوجته له ومخاصمتها، قائلة “واللوم ديدن المحبين”. واسترسلت في ذكر تجليات سندها له قائلة:”إليها يعود الفضل في إخراج العديد من كتبه، مثل “الدروس الحسنية، جمع وتقديم” وغيره كثير.
وفي معرض حديثها عن فن التراسل وتحبير الخطابات في مبحثها الثاني، وبعد جولة تهم الرسائل باعتباره جنسا أدبيا أصيلا “استمدت عراقتها من امتدادها التاريخي”58، مع كل من عبد الحميد الكاتب وحتى تقعيد القلقشندي مرورا بما أشار إليه قدامة بن جعفر، إلى متون رحلة ابن فضلان ورسالة الغفران لتخلص قائلة:”ومن هذا المنطلق تبدو بنية الرسائل الجرارية مذعنة للمعمار الذي أجازه السابقون، والذي يقوم على ركائز ثلاث هي الاستهلال والمتن والخاتمة” 58.
أحيانا يذهب بالدارسة التأويل بعيدا، كقولها في الاستهلال وهي تحاول أن تستكنه ما وراء دأبه على بدء رسائله بالحمدلة بدل البسملة، ليصل بها أن تربط الأمر باسم زوجته. إذ تقول: “بيد أني أرجح أن هذه الجملة الاسمية الأثيرة لديه إنما استحبها ..عن قصد أو عن غير نية، لأن من الحمد اشتق اسم الحبيبة حميدة” 59.
إغناء المتن بما تورده من عندياتها مما يدخره مخزونها الثقافي الواسع، في سياق حديثها عن تجرده من وقاره، وتحلله من هيبته بفتحه لحديقة أسراره بكل عبقها، أن فتحت أضمومة رسائل الأدباء إلى زوجاتهم أو إلى محبيهم “وما تلبث مثل هذه الكتابات أن تتيح لنا أن نزيح ستار النمطية التي رسمناها لهم لنقترب منهم و نفهم جوانبهم القصية في حالات حبهم حين يشتد بهم أوار الجوى، وفي أويقات غربتهم حين يهصرهم حنين الشوق”64، فعرجت على مجموعة منهم، كتلك التي كانت بين غسان كنفاني وغادة السمان، لتستدرك مقرة بأننا نحن العرب”لم نظفر بكبير زاد في هذا السبيل الذي يلفه التكتم الصموت”64. لم يفتها في هذا السياق أن تشير إلى ما كان بين الشاعر المغربي محمد الوديع الآسفي وزوجته الأديبة ثريا السقاط من رسائل، بعثها إليها من معتقلاته القصية نشرتها في كتاب “مناديل وقضبان” تعلق عليها قائلة “وفيها من لهب المشاعر ما أذاب صقيع الزنازن”65.
في المبحث الثالث احتدم نقاشها من جديد حول هوية هذا المتن الرحلي بقولها “وهنا نفاجأ بمروق الكتابة الرحلية صوب المذكرات” ثم تضيف قائلة: “ومن شأن هذا الإفصاح أن يبعثنا على طرح سؤالين اثنين، أولهما يتعلق بإشكالية التجنيس وثانيهما مرتبط بالتحقق من مدى خضوع نسيم البوسفور لشروط هذا النوع و ضوابطه؟ 80 -81.
دراسة “نسيم البوسفور”، خصائص ومميزات:
اعتمادها أسلوب الحجاج على طريقة القدماء في ص100 نجدها بعد سرد ما سبق تقول “وقد يقول قائل…..” عمل شاق تحملت الدارسة عبءه، بتوليها رد كل ما ورد في المتن الرحلي من أحاديث نبوية بتخريجها والتوسع في شرحها، و أشعار بتتمة شطرها ونبذة عن قائلها ومناسبة قولها، و أمثال بالإحالة على قصصها.
وفي الفصل الثالث: الأنا وصورة الآخر في نسيم البوسفور، تناولت فيه ثلاثة مباحث:
خصصت الأول للملاحظات، تؤكد فيه أن الرحالة لم تكن تفوته حاجة دون أن يتوقف عندها، وخاصة الأحداث التي فيها غرابة كتقديم القهوة والشاي في ص111 لما لاحظ تقديمها هناك بدون سكر ولا ماء إلا تحت الطلب، مقارنة بما دأب عليه في بلده إذ يقدمان تلقائيا.
الثاني، خصصته للمقارنات ترصد فيه ما قام به الرحالة من مقارنات كمقارنته حوض للأسماك هناك، يقول “إنه لا يرقى إلى حوض الدار البيضاء”، والثالث انتقل فيه الرحالة إلى النقد، تقول “فبعد الاندهاش و الإعجاب، انسل سيف النقد من غمده”123 انطلاقا من جملة من العبارات من قبيل “زعموا”، “كما يقولون”، “كما قيل” “ويقال”، لاحظت هذا في سياق حديثه عن سبب تسمية مسجد أيوب فعبر بقوله”على ما يزعمون” أو حديثه عن سارية بقوله “يزعمون أنها ترمز إلى النصر” لتؤكد بقولها “فالزعم افتراض وليس تأكيدا” ص123. أما ظاهرة التبرك بالمزارات فتستخلص قائلة: “فهذه إشارات لفتت إليها انتباه الرحالة الذي أوردها ولم يبد استغرابا كبيرا حيالها، ومرد ذلك ربما لكونه يجد لها نظيرا في موطنه” 128.
خلاصات:
تكتسي الدراسة أهميتها من مجموعة وجوه. فمن جهة أطلعتنا على هذا المخطوط الذي ظل لعقود متواريا في العتمة، ومن جهة كانت مناسبة لنتجول مع الرحالة بتركيا زمنها (1968)، مقارنة بتركيا اليوم.
بقدر حنوها على المتن المحكي بالشرح والإيضاح والتأويل والتعليل، بقدر قسوتها عليه أحيانا، لما وسمته بالمروق عن جنسه، اضطرها لتبحر في بطون مراجع شتى مغربية وعربية وأعجمية، محاولة منها للتوفيق بين الأجناس المتداخلة فيه، بين الترحل والترسل واليوميات.
ألا تدعونا حمدلة ابن تاويت الطنجي، على سقوط مخطوطاتنا بيد الأعاجم فحافظوا عليها، لإعادة النظر في علاقتنا بالمخطوطات، وخاصة التي لا تزال بحوزة الغير تهم ثقافتنا وتاريخنا وحضارتنا وهويتنا، بل حتى أخص خصوصيتنا مثل موضوع بحث الرحالة المتعلق بالزجل المغربي.
سؤال لا بد من طرقه ونحن نتحدث عن أدب الرحلة كما طرحه كم واحد مهتم به، ليس باستعجال الإجابة عنه، بقدر التفكير فيه، ويتعلق بالنص الرحلي الرقمي الذي يستند أساسا على عنصري الصوت والصورة، فضلا عن الوصف اللغوي؟
فالرحلة لم تكن رحلة سفارية أو حجاجية أو سياحية، بل علمية. ألم يكن الأولى مساءلة المتن الجراري عن غياب التوثيق لبعض ما يحبل به الفضاء التركي من صراعات ثقافية وتجاذبات وتقاطبات بين التيارات العلمانية والإسلامية.
خاتمة:
وتبقى دراسة الدكتورة لفضايلي لغناها وثرائها ثراء النص الرحلي “نسيم البوسفور”، مفتوحة على قراءات أخرى، من منطلقات مغايرة، من شأنها أن تكشف عن مكنونات تحبل بها. فانفتاح المتن الرحلي على عوالم متعددة، تطلب من الدارسة التنقل بين فضاءات مختلفة، أفاضت فيها وأجادت معززة كل ما عرجت عليه بنماذج من تراثنا العربي خصوصا وتراثنا الإسلامي عموما، وكذا التراث العالمي.
> بقلم: بوسلهام عميمر