هل نقحت الحكومة مشروع القانون الجنائي المسحوب من البرلمان؟

ستون سنة مرت على صدور القانون الجنائي المغربي: 1962 – 2022..

لقد اعتبرت الحكومة أنه يصعب في كل مرة مناقشة مقتضى من مقتضيات القانون الجنائي، وما كان يعاب على الحكومة السابقة هو عدم وضعه بشكل كامل على أنظار البرلمانيين لمناقشته في شموليته، وقررت سحبه من البرلمان .

فعلا خلال الولايتين البرلمانيتين السابقتين، خصوصا الولاية ما بعد دستور 2011 تم عرض عدة مشاريع قوانين تعتبر جزء لا يتجزأ من القانون الجنائي وتمت المصادقة على بعضها؛ أهمها قانون محاربة الإرهاب ومحاربة العنف ضد النساء والاتجار بالبشر… أي تلك التي لها علاقة بالتزامات المغرب الدولية وملاءمة ترسانته القانونية مع التزاماته الدولية، ولم تتم المصادقة على مشروع القانون الجنائي في شموليته رغم جاهزيته.

وإذا مرت اليوم ستون سنة على صدور القانون الجنائي (سنة 1962)، فإن المغاربة يتعطشون إلى قانون جنائي يتلاءم مع المقتضيات الدستورية التي رفعت سقف الحقوق والحريات، إذ يعتبر التشريع الجنائي بشقيه الموضوعي أي مجموعة القانون الجنائي، والشكلي أي قانون المسطرة الجنائية، في قمة هرم القوانين اللصيقة وذات الصلة بالحقوق والحريات، ويعتبر هذا التشريع بمثابة دستور ميداني للمواطن وخارطة طريقه في كل ما هو مباح وما هو محظور ومجرم، مع استحضار الخطوات الجبارة التي قطعتها البلاد من أجل تعزيز مكانة الفرد وحريته وكرامته في إطار ديمقراطي.

مرت ستون سنة على صدور القانون الجنائي ومرت 11 سنة على دستور2011 وتم عرض مسودة مشروع القانون الجنائي سنة 2016 ولم تتم المصادقة عليه بل تم سحبه في بداية الولاية الحالية.

علما أن المشروع المثير للجدل عرف تعثرا انتهى بسحبه، إما نظرا لغياب إرادة الحسم، أو بسبب التشرذم الإيديولوجي والتحالفات الهجينة السابقة، وإما بسبب تصفية الحسابات السياسية، وانفراط عقد الأغلبية الحكومية، إبان الولايتين السابقتين في ضرب صارخ لانتظارات المواطنين والخطابات الملكية السامية، وفوران المستجدات المتعلقة بالتحولات الإقليمية والتداعيات والأحداث التي فرضت على العالم كله تحيين بعض النصوص وسن أخرى أملتها ظروف وأحداث ومستجدات..

لذلك وما دامت الحكومة الحالية تتوفر على أغلبية مريحة وتملك عصمة القانون بحكم أغلبيتها البرلمانية وتم تجاوز التحالفات الهجينة والتشرذم الإيديولوجي، ألم يحن الوقت لتمرير المشروع؟

الأكثر من ذلك هناك مقتضيات إيجابية أتى بها المشروع المسحوب وهي محل انتظار المواطنين كالعقوبات البديلة التي يحكم بها بديلا للعقوبات السالبة للحرية في الجنح التي لا تتجاوز العقوبة المحكوم بها من أجلها سنتين حبسا وهي:

1) العمل لأجل المنفعة العامة

‎2) الغرامة اليومية

‎3) تقييد بعض الحقوق أو فرض تدابير رقابية أو علاجية أو تأهيلية، علما أنه تم استثناء بعض الجنح من الاستفادة من العقوبات البديلة، وهي الاختلاس، الرشوة، الاتجار في المخدرات، والاستغلال الجنسي للقاصرين..

وإذا كان تجريم الإجهاض أثار الكثير من الجدل إذ تم رفع التجريم عن حالات الإجهاض إذا نتج عنه الحمل عن اغتصاب أو زنا المحارم، او كانت الحامل مختلة عقليا، أو إصابة الجنين بأمراض جينية أو تشوهات خلقية خطيرة، وأنه تسبب في خلق نقط الخلاف المؤدية إلى تأجيل وضع التعديلات والمصادقة على المشروع رقم 10.16، فإن تجريم الإثراء غير المشروع بدوره خلق نقط خلاف بين مكونات الحكومة كشفت عن عدم الانسجام الحكومي والتحالف الهجين الذي أبان غير ما مرة عن عجزه في تمرير بعض القوانين وإبقائها في رفوف اللجان مثال ذلك المادة 16 من مدونة الأسرة المتعلقة بالبينة الشرعية في ثبوت الزوجية .

وإذا كان تجريم الإثراء غير المشروع أثار الجدل فلا بأس أن أشير أنه سبق للسيد وزير العدل والحريات السابق الأستاذ مصطفى الرميد أن أخفق ولم يتمكن من تمرير المادة 8ـ256 من مشروع القانون الجنائي، المعروض في الولاية البرلمانية السابقة، التي تجرم الإثراء غير المشروع وتعاقب بالحبس من سنة إلى 5 سنوات كل موظف ثبت أن ذمته المالية أو ذمة أولاده القاصرين “عرفت زيادة كبيرة وغير مبررة مقارنة بمصادر دخله المشروع، ولم يدل بما يثبت المصدر المشروع لتلك الزيادة”. علما أن الوزير السابق كان متشبتا بتمرير هذا المقتضى الذي ينص على عقوبات سالبة للحرية من جهة ويشمل جميع الموظفين من جهة اخرى .إلا أن مجلس الحكومة آنذاك أدخل تعديلات أسقطت العقوبات الحبسية، وجعلت الإثراء غير المشروع لا يهم جميع الموظفين العموميين، إنما يقتصر فقط على الموظفين الخاضعين للتصريح الإجباري بالممتلكات.

وتضمن مشروع القانون الجنائي 10.16 الذي كان آنذاك في طور تقديم التعديلات من طرف أعضاء لجنة العدل والتشريع بمجلس النواب، فصلا في الفرع الرابع مكرر يجرم الإثراء غير المشروع بمقتضى الفصل 256.8، والذي يعاقب جريمة الإثراء غير المشروع بغرامة من 100.000 إلى مليون درهم كل ملزم بالتصريح الإجباري بالممتلكات ثبت بعد توليه للوظيفة أو المهمة أن ذمته المالية أو ذمة أولاده القاصرين الخاضعين للتصريح عرفت زيادة كبيرة وغير مبررة، انطلاقا من التصريح بالممتلكات الذي أودعه المعني بالأمر مقارنة مع مصادر دخله المشروعة، ولم يدل بما يثبت المصدر المشروع لتلك الزيادة .

للإشارة فان مشروع القانون الجنائي المسحوب من طرف الحكومة الحالية أحيل على اللجنة منذ 27 مايو 2016 بعد جدل بشأنه بالمجلس الحكومي، وعرف عدة تعثرات واختلاف وجهات النظر، وأن الناطق الرسمي باسم الحكومة آنذاك أكد أن “بلوكاج” مشروع القانون الجنائي يرجع بالأساس إلى محاولة تقريب وجهات النظر بخصوص الإثراء غير المشروع، خصوصا أن القناعات والظروف السياسية التي سادت أثناء الولاية الثانية بعد الدستور ليست هي نفسها قناعات وتوجهات الولاية التي سبقتها، ومن كان يتشبت بتمرير النص كما قدم سابقا، أصبح أكثر تساهلا متحججا بكون النص المقترح المجرم للإثراء غير المشروع سيجعل إجراءات التصريح بالممتلكات ذات قيمة فعلية إذ تكون سندا لمراقبة تطور الثروات وعقاب من عجز عن تبرير الزيادة في الثروة بحجج مقنعة .

لكن يبدو من خلال الاطلاع على فحوى النص والتعديلات الواردة عليه آنذاك من أجل تجويده وجعله قيمة مضافة للترسانة التشريعية، أنها لن تشكل تلك الآلية القانونية المأمولة لتنفيذ مضامين استراتيجية مكافحة الفساد ولن تتمكن من مواجهة استشراء الحالات الواقعية للإثراء غير المشروع.

ولعل الأسباب تتلخص في حصر المعنيين بجريمة الإثراء غير المشروع في الملزمين بتقديم التصريح الإجباري بالممتلكات فقط، وأن هذا التصريح هو وحده المعتبر مصدرا حصريا لمعرفة الزيادة، دون الخوض في مستندات أخرى والاستعانة بمؤسسات رسمية، ناهيك عن التقزيم البين والحد من سلطات ودور النيابة العامة باعتبار المجلس الأعلى للحسابات هو الجهة الوحيدة المخول لها حصريا إجراء التحقيقات لرصد تطور الثروة.

الاكثر من ذلك فإن حصر سريان المراقبة بعد انتهاء المهام الوظيفية فقط وعدم تحريك المتابعة في إبانها، يجعل مسألة الإفلات من العقاب هي السائدة، ويبتعد عن الحلقة الأساسية المتطلبة لاستكمال منظومة مكافحة الفساد المالي وتأمين عدم الإفلات من العقاب، إذ كان المفروض أن يكون آلية رقابة حقيقية على ممارسات المس بالمال العام مصدر الإثراء، يكمل دور المؤسسات القانونية المختصة في مجال مكافحة الفساد، ويمكن من اكتشاف الجريمة في أية مرحلة قبلية أو بعدية وحرمان ناهبي المال العام من الاستمتاع بمنتوج الجريمة وعائداتها، وتمكين الدولة من استرجاع ما تمت مراكمته بصفة غير مشروعة.

ولا يفوتني أن أشير، وقد كنت عضوة في لجنة العدل والتشريع، أن السيد الوزير أثناء تقديم مؤيدات تجريم فعل الإثراء غير المشروع خلال الولاية السابقة سنة 2016 في إشارة إلى عدم اقتصاره على فئة دون أخرى أشار إلى ما يلي: “يصبح التجريم ضرورة في حق كل سلوك يحدث اضطرابا في المجتمع من خلال المس بضوابطه وقيمه وهو ما تحقق في فعل الإثراء غير المشروع الذي مس بالمال العام وخلق تفاوتا طبقيا بدون وجه مشروع مما كان معه لزاما أن يتدخل القانون الجنائي كردة فعل شرعية ضد الجريمة”.

لذلك فإن اقتصار النص على الملزمين بالتصريح بالممتلكات سيجعل شرائح من الموظفين والمسؤولين غير معنيين بالملاحقة، على اعتبار أن هذا التصريح لا يفي بالغرض وهناك آليات رقابة ومؤسسات من شأنها الكشف عن زيادة الثروة بدون مبرر مشروع، علما أن من سيصرح بممتلكاته سوف يتخذ الحيطة والحذر لعدم تجاوز ما صرح به من أموال وعائدات، لأنه يعلم مسبقا أن التصريح وحده هو السند الوحيد الذي يستدعي التجريم في حالة تجاوز ما تم التصريح به من مصادر الدخل المشروع والعجز عن الإدلاء بما يثبت المصدر المشروع لتلك الزيادة، كما أن اعتبار نهاية الوظيفة أو المهام شرطا للمراقبة وإرجاء هذه المراقبة إلى ما بعد انتهاء المهام سيجعل المسؤولين المتورطين في مأمن من الملاحقة طيلة سنوات الوظيفة والمسؤولية والتي قد تستمر طيلة عقود وأحيانا مدى الحياة..

والسؤال المطروح هل سيعتبر القانون الجنائي ردة فعل شرعية لمواجهة استشراء الفساد المالي؟ علما أن ما قد يثار بخصوص قرينة البراءة من خلال قلب عبء الإثبات الذي يقع على عاتق الادعاء فإن الزيادة الفاحشة والطارئة في الثروة وعدم ملاءمتها وتناسبها مع الدخل الشهري بناء على معطيات تتوفر عليها سلطة الادعاء، بإمكان المتهم أن يثبت مشروعية مصدر أمواله المتأتية من الإرث أو الزواج بميسور أو أي مصدر آخر يشرعن هذه الزيادة الطارئة..

وفي هذا الصدد فقد عللت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان ما ذهبت إليه من كون القرائن الموجودة في القوانين الزجرية لا تتعارض مع قرينة البراءة ما دامت في حدود معقولة وتتناسب مع خطورة الفعل مع ضمان حقوق الدفاع، لذلك وما دام الفوران الشعبي ينحو منحى عدم الإفلات من العقاب ومحاربة التفاوت الطبقي المبني على نهب المال العام والاغتناء الفاحش دون مبرر مشروع مع استشراء حالات ملموسة للإثراء غير المشروع واستفحالها، وأن تجريم هذه الأفعال يجد سنده في ملاءمة المغرب لقوانينه مع المواثيق الدولية خاصة الاتفاقية الأممية لمحاربة الفساد وكذا مطابقتها لدستور 2011، فلماذا لا يكون هذا المقتضى وسيلة للردع والوقاية ويتسلح المشرع بإرادة وعزم لإخراج النص من مفهوم التأثيث وتنميق الترسانة التشريعية إلى آلية فعالة تواكب توجهات التشريعات المقارنة وتنفذ مضامين استراتيجية مكافحة الفساد بصفة فعلية وفعالة .

وإذا مرت ستون سنة على صدور القانون الجنائي الصادر سنة 1962 نتمنى أن يكون رقم الستين بادرة خير وتكون سنة 2022 هي سنة الإفراج على المشروع المتعثر المسحوب !

بقلم: سليمة فرجي

Related posts

Top