يفتح هذا الكتاب القيم عين القارئ على بعض من تاريخ الطب وعلم الأوبئة، وعلاقة الانتشار الوبائي بجشع الإمبريالية والحركة الاستعمارية. ويبين شلدون واتس مؤلف الكتاب، كيف استخدمت قوى الاستعمار مفهوم “مقاومة الأمراض الوبائية” ليسهل أمامها اختراق دول أفريقيا وآسيا والأميركيتين. ولم تكن نشأة المؤسسات الطبية الغربية خارجة عن هذا السياق العام الذي يحكمه منطق القوة وسيطرة القوى الاستعمارية على شعوب العالم. يجد قارئ بيان اليوم في هذا الكتاب تفاصيل مذهلة تؤكد في مجملها ارتباط مفهوم “مقاومة الأوبئة” بغايات استعمارية.
الاصول الفكرية لقواعد المنهج التجريبي
إن اعتبار الطبيعة في كل الأشياء في الأرض كما في السماء وفي الأشياء الصغيرة كما في الأشياء الكبيرة، معناه معارضة عقيدة الكنيسة القائمة على فكر أفلوطين في تدرج مراتب الموجودات. إن القول كذلك بأن الإله هو الكائن في المخلوقات والمكون لعناصرها معناه القول بالإله الواحد محرك كل الأكوان، وهو ما يعارض عقيدة الكنيسة القائمة على الثنائية الفكرية بين رجال الدين الذين يحتكرون المعرفة والعامة الذين يتلقون الهداية والموعظة. كذلك فإن الله محرك كل الأكوان أصبح موضوعا للمعرفة لكل البشر من خلال معرفة قوانين هذا الكون، وهي قوانين شاملة وكلية وعامة وليست حكرا لرجال الكنيسة فقط.
كانت هذه العقائد الجديدة مما يهدد عقائد الكنيسة هو ما أدى بالحكم على العالم أمالريس عام 1210م بالموت حرقا، وقد أعدم معه أيضا ثلاثة عشر من المفكرين المؤيدين لهذه العقائد. وكان نصيب العالم الهولندي سيجرفون برابانت أيضا القتل بعد الحكم عليه بالإلحاد والزندقة عام 1282م. وكان من ضمن ما قاله في تحدي السلطة الكنسية في احتكار المعرفة “فلتكن يقظا ولتدرس، ولتقرأ، فإذا ما ساورك شك فعليك بمداومة الدراسة والقراءة، لأنه بدون حصولك واكتسابك لهذا العلم وتلك المعرفة – يكون المصير والمال هو الموت ومعاناة وحشة القبر مثل كل البشر. كما طاردت محاكم التفتيش روجر بيكون (1219 – 1299) أكبر المدافعين عن المنهج التجريبي الجديد، وقضى خمسة عشر عاما من أيامه الأخيرة داخل السجن. وكان من أهم المفكرين الذين أخذوا بالأفكار والعقائد الجديدة هو المفكر الألماني نيقولاس فون کوز (1901 – 1999م) الذي رفض بإصرار مقولات الأفلاطونية المحدثة، التي جسدت التصور اليونانی بتدني الكائنات في عالم المادة (؟). وأكد على كل الموجودات مجسدة في الكيان الإلهي، الكيان الحقيقي الذي نبعث منه، لأنه لا وجود غيره. هذا وقد تأثر العديد من المفكرين الأوربيين بفكر فون کوز. وقد تأثر ليوناردو دافينشی (1900 – 1019م) بفون کوز، حيث نظر دافينشي إلى الطبيعة كفيض ربانی وهبة الخالق ككل شيء، منه وإليه ترجع الأمور، هو ذات وجوهر كل الأشياء والموجودات. ويتأمل دافينشي الأشياء غير المرئية ويواصل البحث عنها ومراقبة مجالاتها وأنواعها، والعلاقات التي ترتبط بأصول نشأتها والحتميات الكامنة في جوهرها والملازمة لها”.. وكان جيورادنو برنو ( 1900- (1958 من أنصار الفكر الجديد ومن المدافعين عنه، وقد كان مصيره الإعدام حرقا، وقد ذكر برونو” نحن نبحث عن الله في قانون الطبيعة الثابت وغير القابل لأي خضوع لقوى أخرى، وذلك من خلال الانسجام والتوافق الذي يمتلئ به وجداننا، نبحث عنه في تكون الشمس ولمعانها، في جمال الأشياء، وفي تأملنا ومراقبتنا للأفلاك والنجوم التي انبثقت من بطن أمها الأصل، الأرض الأم ومن السموات العلي التي لا تحدها حدود، وما تمتلئ به الأجسام المضيئة في شكل أسراب لا يمكن حصرها أو إحصاؤها. وقد تأثر المفكرون الأوربيون بالمنهج التجريبي والأصول العقائدية التي بني عليها والتي استمدها من لغة القرآن. وتتضمن تلك الأصول. أولا : الثقة في الحواس والاعتماد على النظر والمشاهدة وتأمل المحسوسات الموجودة في الكون، والتي هي من الآيات على وجود الله خالق كل شيء. ثانيا: إن كل الموجودات متساوية في المكانة وجديرة بالاعتبار لا فرق بين من هو أعلى ومن هو أدنى إلا على أساس المسئولية الأخلاقية، إن ما يتمخض عن هذين الأصلين السابقين نتيجتان أساسيتان، وهما 😐 أولا : إن الإنسان هو مخلوق واحد من بين العديد من المخلوقات الأخرى، وإن الإنسان ليس هو مركز المعرفة في هذا الكون، وليس بميزة المعرفة وحدها يملك السيادة والهيمنة على غيره من المخلوقات من منطق أنها أدنى منه في درجة المعرفة.
ثانيا : إن الأرض وما بها من مخلوقات وما عليها من جبال وأنهار وبحار هي جزء من هذا الكون الواسع، بل إنها ذرة من الذرات التي خلقها الله. ومعنى ذلك حقيقة على جانب كبير من الأهمية، وهي إن الأرض وما عليها من مخلوقات ليست هي مركز الكون الذي يتصف باللانهائية، فنحن لا نعلم مركزه الحقيقي.
ويمكن القول هنا إن استمرار المؤلفات الأوربية في ترديد أن الثورة الفكرية في القرن السابع عشر كانت بسبب الانقلاب الذي أحدثه كوبرنيكوس (۱۹۷۲ – ۱۰۲) في علم الفلك، والذي قال فيه بمركزية الشمس بدلا من مركزية الأرض، وأنه أزاح مركزية الإنسان في هذا الكون لصالح كون أوسع وأرحب لا يشكل فيه الإنسان إلا نقطة صغيرة، فيه افتئات كبير على الحقيقة، كما أن فيه تجاه متعمدا للثورة الفكرية التي صاحبت العقيدة الإسلامية. فاستبعاد مركزية الأرض جاءت من خلال تأثر العلماء والمفكرين الذين ذكرناهم بهذه الأفكار الجديدة. هذا التأثر استغرق فترة طويلة من الزمن امتدت من القرن الثامن إلى القرن السادس عشر، سقط فيه ضحايا كثيرون من هؤلاء العلماء والمفكرين. كان هذا هو السياق الذي مهد لأفكار كوبرنيكوس، وبذلك فإن إنكاره يدخل ضمن الإصرار على ترديد مقولات المركزية الأوربية التي تنسب كل الاكتشافات العلمية لنفسها، وهو ما ردده المؤلف في الفصل الخاص عن الطاعون، إن نسبة القول بمركزية الشمس إلى كوبرنيكوس فيه تجن على عالم الفلك العربي الكبير البيرونی (973 – 1098م) الذي قال بمركزية الشمس قبل كوبرنيكوس. فقد رفض البيروني نظرية بطليموس عن صورة العالم وعن دوران الشمس حول الأرض، وأن الشمس ليست الكوكب المسئول الذي به يتحدد الليل والنهار، ولكنها الأرض نفسها التي تدور حول محورها مرة يوميا، وحول الشمس مرة سنويا.
إعداد: سعيد ايت اومزيد