بحضور نخبة متميِّزة من الفنانين والمثقفين والإعلاميين والطلبة، تمَّ برحاب المدرسة العليا للفنون الجميلة بالدار البيضاء توقيع كتاب «الفن التشكيلي المعاصر- صدمة الرَّاهن» للفنان والناقد التشكيلي ابراهيم الحَيْسن، وذلك صباح يوم الجمعة 24 فبراير 2023. بحضور نخبة متميِّزة من الفنانين والمثقفين والإعلاميين والطلبة، تمَّ برحاب المدرسة العليا للفنون الجميلة بالدار البيضاء توقيع كتاب «الفن التشكيلي المعاصر- صدمة الرَّاهن» للفنان والناقد التشكيلي ابراهيم الحَيْسن، وذلك صباح يوم الجمعة 24 فبراير 2023.في البداية قدَّم ذ. سعيد كَيحيا مدير المدرسة كلمة افتتاحية شكر في مستهلها الأساتذة والفنانين والمثقفين والطلبة الحاضرين، ومنوِّها بأهمية مثل هذه اللقاءات الفنية التي تندرج ضمن الأنشطة الثقافية التي يستفيد منها طلبة المدرسة. كما ألقى شهادة في حق الناقد المحتفى به ابراهيم الحَيْسن من خلال إصداراته وإسهاماته النقدية التي تغني المكتبة الفنية المغربية والعربية.بعد ذلك، تناول الكلمة الناقد والباحث الفني د. عبد الله الشيخ نيابة عن الطاقم التربوي بالمدرسة، شكر فيها الحاضرين ومبرزاً الأهداف البيداغوجية والتكوينية لمثل هذه اللقاءات التي تفتح أبواب النقاش والتفاعل حول مستجدات الحقل التشكيلي والبصري المحلي والدولي من خلال المحاضرات والندوات واللقاءات المفتوحة وتوقيع الإصدارات الفنية بحضور المؤلفين من داخل وخارج المغرب.إضافة إلى ذلك، ألقى د. عبد الله الشيخ شهادة حول المسار الإبداعي والنقدي للفنان والناقد الحَيْسن.كما قدَّم الباحث الجمالي د. محمد الشيكَر قراءة في كتاب «الفن المعاصر- صدمة الرَّاهن»، استعرض فيها خرائط الكتاب بإسهاب، من خلال التنقل بين أقسامه ومحتوياته، ومتوقفاً عند المفاهيم والسياقات البصرية والتاريخية التي استند عليها.بالمناسبة، تمَّ طبع كتيب جميل من القطع الصغير وزع على الحاضرين قام بتصميمه الفنان التشكيلي رشيد باخوز -مشكوراً-، وقد تضمَّن الملخصات والشهادات التالية:
سعيد كَيحيا: الإنسان والمبدع
أن تخوض غمار الكتابة عن ابراهيم الحَيْسن ليس بالأمر اليسير والهيِّن، وبالأحرى عن غمار تجربته الفياضة والضافية. فهو الإنسان الخلوق والمبدع الخلاق. هو أيضاً الأستاذ المربِّي، والكاتب المرموق، والباحث الموسوعي من طينة الأعلام، تشهد على ذلك إصداراته العلمية، ودراساته النقدية الجمالية، وأبحاثه الميدانية المتواصلة بدون انقطاع كمّاً وكيفاً.
«السِّي الحَيْسن»، كما أحب أن أناديه، مثقف عضوي متعطش جدّاً لذخائر التراث الصحراوي كرافد من روافد الهوية المغربية العريقة والأصيلة التي قارب تعبيراتها الشفهية والمكتوبة والبصرية بشكل معمَّق في معرض بحوثه الإثنوغرافية المحكمة.
متشبِّث، وجوديّاً ومعرفيّاً، بفرشاته الفنية التي أبدعت أعمالاً تشكيلية فاتنة بتقنيات صباغية مختلفة استلهم من خلالها آثار ذاكرته الجماعية بكل تجليَّاتها المادية واللَّامادية.
في مغامرته الإبداعية الترحالية، اتخذ ابراهيم الحَيْسن من سنائد الورق والحبر صديقين حميمين متلازمَيْن، وذلك للتعبير عن خلاصات كشوفاته العلمية والتجريبية في المجالات التخييلية، والأدبية، والرمزية، والأنثروبولوجية.
لا ننسى، أيضاً، جانبه النضالي الثقافي على مستوى عدَّة لقاءات ومؤتمرات علمية وموائد مستديرة فكرية داخل المغرب وخارجه، ناهيكم عن المعارض والمهرجانات الفنية التي ساهم بشكل فعَّال في تنظيمها وإشعاعها. أستحضر في هذا الصدد حفل تكريم رائد الخزف الفني بالمغرب وفن النحت المبدع موسى الزكاني في إطار فعاليات المعرض التشكيلي السنوي الثالث المقام تحت شعار «جماليات من الصحراء» بمناسبة النسخة 15 لموسم طانطان عام 2019 بمبادرة من جمعية أصدقاء متحف طنطان وبتنسيق مع المدرسة العليا للفنون الجميلة بالدار البيضاء، وبدعم من وزارة الثقافة والاتصال- قطاع الثقافة ومؤسسة الموغار، حيث شرفنا بالمشاركة ضمن فعالياته صحبة الناقد الجمالي عبد الله الشيخ.
يُعَدُّ إبراهيم الحَيْسن -بشهادة زملائه ومتتبعي منجزه الفكري والديداكتيكي الغزير- الرجل المناسب في المكان المناسب، مما خَوّل له، عن جدارة واستحقاق، الظفر بعدَّة جوائز قيمة وطنية ودولية، نذكر من بينها جائزة المغرب للكتاب دورة 2019، صنف الدراسات الأدبية والفنية واللغوية، عن مؤلفه النقدي «الكاريكاتير في المغرب- السُّخرية على مِحَكِّ الممنوع»، وجائزة الشارقة للبحث النقدي التشكيلي بالشارقة ( إ. ع. م.) ثلاث مرات أعوام 2009، 2010 و2017، عن دراسات نقدية تتعلق بـ»أوهام الحداثة في التجربة التشكيلية المغربية»، و»فنالأنستليشن العربي» و»التشكيل العربي المعاصر في ضوء كارتوغرافيا الفن الرَّاهن».
د. طلال معلا: الفن هو عدم الحاجة لخلق الفن
ما هو مكتسب في الفن اليوم كان دائماً عرضة للإلغاء بسبب اعتماده على فرضيات آنية على اتصال بجوهر الجمال الذي كان يحاول التخفيف من وطأة القباحة في الحياة، لهذا، فإن ما بين تعبير الفن واللافن محاولة لإظهار حقيقة أن من يحدِّد القضايا هو الإنسان. والأمر ليس على ارتباط بالاعتقاد التبريري للتصوُّر المسبق عن الفن، بل بحقيقة أن كلاً من الفن أو اللافن تعبيران عن معنى واحد.
الإبداع ابن ذاته قبل أي أمر آخر، والكلام عن فن شمولي تعبير جيِّد، لكنه خالٍ من أي معنى، إذ لا فن دون حامل يشبهه، يرفعه ويغذيه. في هذا الشأن يمكن أن يقال الكثير، إلا أن الصوت الأعلى يبقى ما نعلمه من تقسيمات زمنية أو مذهبية أو جغرافية أو مناطقية للفنون، فالفن مفهوم إنساني شامل، سوى أن خصوصيات وذهنية ورؤى الساعين إليه تبقى أحجية إن لم تنسب إلى الظروف، وإلى المجتمعات، تحمل رائحتها، ونكهة أحاسيسها.
الفن بعض الثقافة الإنسانية، والثقافة كما هو معروف ظاهرة ينتجها البشر جرَّاء تعاملهم مع الحاضر، والتطلع بلهفة إلى الآتي. الفن منظومة هامة من منظومات التفكير، له لغته، وفهمه للمجتمعات المنتجة له، ومواقفها وأهدافها ووسائل تفاعلها.. لكن إن لم يتم اعتراف الآخر بهذه الخصوصيات فإنه يُبقيها في عتمة العزلة. بمعنى أن مثل هذا الاعتراف أساس حيوي لتأكيد الهوية الخصوصية والثوابت الإبداعية (مقتطف من تصدير الكتاب).
د. عبد الله الشيخ: فتنة النقد والإبداع معاً
في معرض المبحث الثاني «نسق اصطلاحي بمرجعيات نقدية تشكيلي» لمؤلفنا «المصطلحات الفنية في النقد التشكيلي العربي: مقاربة وسائطية لبعض النماذج المغربية المعاصرة» الحائز على الجائزة الأولى للبحث النقدي التشكيلي (دائرة الثقافة- الشارقة عام 2021)، كتبت في مطلع دراستي المعنونة بـ»ابراهيم الحَيْسن: خطاب نقدي بمصطلحات ديداكتيكية» ما نصه: «لا يمكن الحديث عن المصطلحات الفنية في النقد التشكيلي العربي بدون الحديث عن المجهود العلمي والبيداغوجي الذي بذله الناقد والفنان المبدع براهيم الحَيْسن (هو أيضاً مفتش جهوي تخصُّصي لمادة التربية التشكيلية بالمغرب) على مستوى الحفر في آليات التلقي التشكيلي والجمالي، إذ يظل الهدف المركزي لمشروعه الاصطلاحي هو تهييئ المتعلم بطبيعته البيوعصبية لاستيعاب وبناء المهارات والقدرات النفسية التي تساهم لا محالة في بلورة شخصيته وفق الكفايات المنشودة كما أكد ذلك الباحث عبد الكريم غريب.
فالناقد ابراهيم الحَيْسن، المشهود له بالتمرس النظري والتطبيقي في حقول التربية الفنية والجمالية بكل مجالاتها التقنية والمعرفية المتشعبة، تمكن من التفاعل البيداغوجي مع الحاجات الملحة لعشاق هذا الميدان ومتتبعي مستجداته وقضاياه. في القسم النظري لكتابه «التربية على الفن: حفر في آليات التلقي التشكيلي والجمالي»، استعرض عناصر الفهم ومسالك التذوق الفني، منطلقا من توطئة مفاهيمية همَّت بالخصوص: معنى الفن، بين التلقي والتأويل، في التلقي والتلقي التشكيلي، المعايشة الإدراكية، الخبرة التذوقية، التواصل المتعوي، آليات التلقي، العمل التشكيلي موضوعا للتلقي. فقد وظف الناقد الحَيْسن في كل مؤلفاته النقدية والجمالية معاً رصيداً من المصطلحات المعرفية محيلاً على عدة مصادر ومراجع يعتد بها من الناحية البحثية».
وبمناسبة معرضه التشكيلي الفردي الاستثنائي «مديح الأثر» Eloge de la trace الذي أقيم برواق الطيب الصديقي في رحاب دار الصويري (17 ماي- 5 يونيو 2021) من لدن جمعية الصويرة موكَادور، جادت قريحتي بنص تقديمي موسوم بـ»الإقامة في الأثر» تفاعلت في تضاعيفه مع أعماله التشكيلية المنجزة طيلة الفترة الممتدة ما بين عامي 2017 و2021، أسوق مقتطفا منه:
«ما يقدمه للرؤية هو الافتتان البصري بزمن الرحل الغابر والظاهر بكل أخيلته وعذريته على مستوى الدهشة والكمون والاختمار. فالأعمال المشهدية الغرائبية والطلائعية التي حرص هذا الفنان الباحث على عرضها بمثابة عتبات تصويرية وشذرات تذكارية مفعمة بالحس الجمالي والانبهار الكلي أمام عالم من القيم المفقودة الآيلة للاندحار والموت الرمزيين. نحن في غمرة إبداع تركيبي يستعيد ذاكرة اللحظة الآنية وعبرها الذاكرة الإنسانية في مراقي ومقامات وجودها، بعيدا عن كل نزعات التطبيع وآليات التكييف ذات المنحنى التسويقي.
فيض من العلامات والرموز الثقافية التي انزاحت عن سياقاتها التداولية المسكوكة وعن أنظمة تمثلاتها بتعبير ماكس فيبر هي أعمال ابراهيم الحَيْسن التي تشتغل على أركيولوجيا الكائنات والأشياء ذات البناءات التوليفية السلسة والحية باستمرار. أعمال إدراكية وأخرى حلمية تؤرِّخ لمتعة الجسد والرُّوح معا وتنشد فرح اللحظة الآنية ونشوتها الأولى.
يُعتبر هذا الفنان مؤرِّخاً مخلصاً لمتخيَّل الواقع المعيش بكل دلالاته المرجعية: سلسلة أداة شفط المرحاض والقوارير الجمالية لا الوظيفية، والوسائط الكتابية، والدفتر الذي دوِّنت في تضاعيفه مختلف دروب ومسالك الأثر بتعبير الفنان، وغيرها من التجارب الطلائعية.
كل شكل أيقوني ينهض كبنية بصرية مستقلة وخالصة، وكتنويع إبدالي للأثر بصيغة الجمع الذي يصبح بفعل التشكيل الصباغي بأحباره ومواد تغريته ودمجه وعمقه الأزرق الداكن (يذكرنا بأزرق كلاين السماوي والبحري المشبع بالمقامات والمدارج الروحية) أبجدية أولى على غرار أبجديات المغامرات البصرية مابعد الحداثية التي وسمها الناقد الفرنسي بيير ريستاني عام 1960 بـ»الواقعية الجديدة»: اختار الفنان أرمان فرنانديز الأرض، واختار كلود باسكال الكلمات، في حين اختار ييف كلاين الفضاء السماوي اللانهائي، ليختار إبراهيم الحَيْسن الصحراء، أو بالأحرى هي التي اختارته»..
د. محمد الشيكَر: خرائط المعاصرة المتحرِّكة
ابراهيم الحَيْسن ناقد فني مهْجوس بكارتوغرافيات الفن المعاصر المنذورة للصيرورة والتقلُّب الدائبين. فله -في ما حبّره من كتابات نقدية وما أنجزه من أعمال فنية- كلفٌ مخصوص، وولع متميز باستقراء ملامح التحوُّل المفصلية التي شهدتها خرائط التشكيل الراهنة، والتي طالت أنساقه المعيارية ومرجعياته الجمالية. وكتابه المحتفى به، اليوم، عنوان على هذه المساءلة الملحاحة لراهن الفن التشكيلي، ولثورته على كل من البراديغمين الكلاسيكي والحداثي.إنه عمل نقدي مائز يضع القارئ وجهاً لوجه إزاء انعطافات الفن المعاصر، ويمكنه من التعرف على فتوحاته المثيرة، ومن القبض على رؤى جمالية مغايرة، وإنشاءات مفهومية جديدة، وقيم تعبيرية غير مأنوسة في التركيب الفني والتشكيل الكروماتي والاستعارة التعبيرية.
يقودنا ابراهيم الحَيْسن في منجزه المحتفى به ملء أمبراطورية المرايا المحدَّبة والمتصاقبة التي يشيِّدها الفن المعاصر ويقوِّضها في ذات الآن، ويستميلنا إلى عالم الإنشاءات بزئبقيته وهشاشاته، وإلى سينوغرافيات الجسد كما يمعن فن البرفورمانس في صياغة تضاعيفها، ويشرع أعيننا على إستتيقا العابر والمتلاشي والمنعطب والمبتسر، التي تحوِّل صدمة الرَّاهنية إلى راهنية للصدمة، وتنشئ ريطوريقا جديدة تصدم العين وتحلحل سكونها وتقضُّ ضجعتها، بدل أن تستدرجها إلى ضرب من المتعة الخاملة أو اللذاذة الواهمة. إنه، بحق، كتاب/كاتب جسور يدعونا، حسب تعبير نتشه، إلى التفكير في الفن المعاصر، وفي بلاغاته البديلة على وقع المطرقة، وعلى إيقاع جنيالوجيا الهدم والبناء.
في ختام هذا اللقاء البهي، أعطيت الكلمة لمؤلف الكتاب الناقد ابراهيم الحَيْسن الذي شكر بدوره الحاضرين، ومنوِّها بكل الجهود الطيبة التي بذلت من أجل إنجاح هذا اللقاء الثقافي البهي، إخراجا وتنظيما وتقديما وحضوراً. ليفتح باب المناقشة، حيث طرحت أسئلة عديدة حول محتوى الكتاب وموضوعه بمشاركة وتفاعل متميز للحضور ولطلبة المدرسة.
عقب ذلك، قدَّمت إدارة المدرسة شهادتي استحقاق للناقد إبراهيم الحَيْسن والباحث الجمالي د. محمد الشيكَر تسلمهما من يدي ذ. عبد الرحيم جبراني المدير الأسبق للمدرسة والكاتبة والفنانة ذة. لبابة لعلج. إضافة إلى بورتريه صباغي جميل للمؤلف أنجزته الطالبة المبدعة صفاء عبة.
للإشارة، فكتاب «الفن التشكيلي المعاصر- صدمة الرَّاهن» من القطع المتوسط، يقع في 268 صفحة، ويتضمن تصديراً للمبدع طلال معلا، وهو من إصدار دار خطوط وظلال للنشر والتوزيع والترجمة- الطبعة الأولى- عمَّان، الأردن عام 2022.
إعداد: الحسين الشعبي