يضرب المغاربة منذ سنوات طويلة، موعدا خاصا واستثنائيا خلال شهر رمضان الأبرك، مع وجوه فنية مميزة ومتألقة تضفي طابعا خاصا على مائدة الإفطار العائلي، وتزيد من قوة الطابع الاستثنائي لهذا الشهر الفضيل، سواء عبر الشاشة من خلال الوصلات الفنية المتنوعة طيلة اليوم، أو عبر المواعيد المباشرة مع جمهور الركح أو السينما أو الحفلات…
وتتميز الساحة الفنية المغربية بصعود أسماء جديدة بشكل متواصل، إلا أن هناك وجوها فنية خاصة ألفها المغاربة وأصبح غيابها عن الساحة بشكل عام وخلال الشهر الفضيل بشكل خاص، يشعرهم بفجوة في أجواء رمضان.
ورغم أن الأسماء الجديدة منها ما تميز وأبدع ووصل إلى قلوب المغاربة، إلا أنه من الصعب جدا تعويض الوجوه التي كبر وترعرع معها جيل من المغاربة وشكلت جزءا كبيرا من ذكرياتهم، حيث إنه في الأخير يبقى للجيل الجديد دوره ومكانته في إغناء الساحة، لكن ما من أحدهم قد يعوض آخر أو يحتل مكانته، خاصة في الذاكرة والقلوب.
وحيث إننا نضرب موعدا خلال هذا الشهر الكريم مع إبداعات فنية متنوعة سواء عبر الشاشة أو المسرح والسينما وغيرهما، يساهم فيها خليط من أجيال متعددة، سنستغل هذه المناسبة بجريدة بيان اليوم، لنستحضر عددا من الوجوه الفنية المغربية التي غادرتنا إلى دار البقاء في مجالات التمثيل والغناء التمثيل والإخراج، التي بصمت الساحة الفنية الوطنية بعطاءات ظلت شاهدة على تفرد موهبتها، التي رسختها في سجل تاريخ الفن بالمغرب والعالم بمداد من ذهب.
الراحلة ثريا جبران.. سيدة الخشبة وفنانة الشعب
رحلت، بحر غشت 2020، الممثلة المغربيّة ثريا جبران، سيدة المسرح المغربي وأحد فرسانه وعناقيده الذهبية والتي ميزته داخل المنطقة المغاربية منذ سبعينيات القرن الماضي.
ورغم شهرة ثريا جبران التي اخترقت الآفاق، ظلت صامدة في وجه أعاصير مرحلة، وقادت مسار الفن داخل المغرب بكثير من الصعوبات والإكراهات. لكن كل هذا لم يدفع ثريا جبران إلى التوقف عن ممارسة المسرح، بل ظلت متشبثة به وبتجربتها الفنية التي اخترقت المسرح العربي داخل عدة تجارب في أسرة “المسرح العربي” مع عدد من الفنانين المرموقين ومنهم الراحل رالطيب االصديقي والممثلة اللبنانية نضال الأشقر وروجيه عساف والمسرحي الجزائري محمد بنكطاف وآخرون من العالم العربي والمغرب الكبير… إذ كشفت هذه التجربة عن مكنونات داخل أعماق الفنانة ثريا جبران، التي قامت بتغذيتها فنيا عن طريق اختياراتها الملتزمة بفضح الأزمات السياسية والمأساة الاجتماعية وتحويلها إلى مسرحيات نقدية ساخرة، قريبة من المخيال الشعبي المغربي، بحكم أن إقبال المشاهد المغربي على تجربة جبران المسرحية، لم تكن إلا بسبب الدور الكبير الذي لعبه التلفزيون المغربي في بث عدد من مسرحياتها التي شاهدناها ونحن صغار بمدن مغربية هامشية. وهذا الأمر، ساهم في تعزيز صورة جبران كممثلة طليعية، تدافع عن حقوق المستضعفين والمنكوبين، وحتى وهي كأول فنانة مغربية على رأس وزارة الثقافة، ظلت المرأة تولي أهمية بالغة لـ “مسرح الهواة” الذي بدأت فيه منذ صغرها إلى جانب رعايتها الصريحة لحقوق الفنان المغربي.
ولما كانت ثريا جبران تحفر اسمها عميقا داخل الساحة العربية، ظل التلفزيون المغربي ومعه عدد من الأسماء الدرامية والسينمائية الرائدة، تستقبل مشاركات جبران، بالكثير من المهنية والاحترافية، خاصة أن شهرتها لم ترتبط فقط بالمسرح بقدرما ظلت تشتغل بشكل متواز في إنتاج الأعمال الدرامية والسينمائية. إذ أنّ رشاقتها وخفتها ونظراتها القاسية وخطابها القوي، تجاه مشاهد السياسة والاجتماع، حولتهما بسهولة إلى عالم الصورة، نظرا لعدم إيمانها بمفهوم الحدود والسياجات داخل العمل الفني.
صورة جبران داخل مخيال الأجيال الجديدة، ظلت موسومة بهذه الأعمال التلفزيونية والسينمائية أكثر منها بالمسرحية، بسبب الجدار المنيع الذي وجد المسرح نفسه أمامه منذ بداية التسعينيات، تارة بسبب التضييق الذي مارسته الدولة عليه، وتارة أخرى بسبب تفاقم ثقافة الصورة والصناعة الثقافية. وهذا ما جعل الأعمال المسرحية رغم ريادتها الفنية والجمالية، تبدو وكأنها ترف فني للمغاربة، ما أفضى في النهاية إلى تحول رهيب لدى العديد من الممثلين والمؤلفين المسرحيين إلى كتابة الأعمال الدرامية وإلى الرهان أكثر على سلطة الصورة ومتخيلها.
لكن داخل الأفلام المغربيّة، صنعت ثريا جبران مكانة قوية لها مع أقطاب التلفزيون والسينما في المغرب، مثل سعد الشرايبي (“غياب” و”جوهرة” و”بنت الحبس”) وإدريس المريني (“بامو”) وحسن بنجلون (“شفاه الصمت”) وإيمان المصباحي (“جنة الفقراء”) وفريدة بورقية (“رحيل البحر”) وغيرها من الأعمال الفنية، التي عملت من خلالها على تجميل صورتها داخل المشهد المغربي منذ الثمانينيات، كفنانة سينمائية مُتميّزة قادمة من المسرح، مُستوعبة بوعي هذا التحوّل في مسارها الإبداعي، لكنها لم تتنكر له يوماً، لأنه زادها قلقاً وشغفاً في محبة الشاشة الصغيرة والكبيرة معاً، حتى غدت منذ الثمانينيات إلى حدود نهاية التسعينيات وجهاً سينمائياً معروفاً، ومدرسة فنية تستفيد منها الأجيال السينمائية الجديدة، أمام حبّ المسرح وشرارته، والتي ظلّت متأججة بداخلها وتُمارس معه نوعاً من النوستالجيا الساحرة مع نصوص وتجارب مسرحية رائدة مثل التي صنعتها مع رفيق دربها المخرج عبد الواحد عوزري.
ومن الجدير بالذكر أن ثريا جبران قد شغلت منصب وزيرة الثقافة عام 2007، ولكن أهم مرحلة في حياتها المهنية، هي المرحلة التي كانت فيها حاضرة بقوة في المشهد المسرحي المغربي والعربي.. إذ يعتبر الكثير من النقاد هذه المرحلة نقطة تحول في مسيرة جبران، فبعد أن شاركت مع المسرحي الراحل الطيب الصديقي، في مسرحيات “سيدي عبد الرحمن المجدوب” و”أبو حيان التوحيدي” ضمن “فرقة مسرح الناس”، أسست رفقة ريق دربها عبد الواحد عوزري فرقة “مسرح اليوم” التي تألقت في مرحلة الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي.. وأنتجت هذه الفرقة المجددة زهاء 15 مسرحية لمختلف كبار الكتاب المسرحيين المغاربة والأجانب.. منها على سبيل المثال لا الحصر: “النمرود في هوليود” لعبد الكريم برشيد، “صابرا وشاتيلا” لجان جنيه، “اللجنة” للروائي المصري صنع الله إبراهيم ودراماتورجيا للبشير القمري، “بوغابة” لمحمد قاوتي، “الباتول” و”العيطة عليك” لمحمد بهجاجي…
وعودة إلى المولد والنشأة، فقد ولدت السعدية اقريتيف (المعروفة بـثريا جبران) يوم 16 أكتوبر1952 في مدينة الدار البيضاء، ونشأت يتيمة بعد وفاة والدها في حي درب السلطان الشعبي الشهير.
اضطرت والدتها للالتحاق بمؤسسة خيرية للعمل فيها مربية، وهناك فتحت ثريا عينيها على عوالم مجتمعية هشة أثرت في مسارها الفني وموقفها السياسي والإنساني.
تعهدها زوج أختها محمد جبران، الذي كان بمثابة مؤطر تربوي، ولعب دورا في توجيهها نحو عشق “أب الفنون” بل ومنحها اسمه الذي أصبح اسمها الفني.
تلقت ثريا دراستها الابتدائية والثانوية في مدينة الدار البيضاء، وكانت ضمن الفوج الأول من التلميذات المغربيات اللواتي تخرجن في المرحلة الابتدائية مع فجر استقلال المغرب.
التحقت بعد حصولها على شهادة الباكالوريا بالمعهد الوطني بالرباط التابع لوزارة الشؤون الثقافية، ومنه حصلت على دبلوم التخصص المسرحي.
عبد الصمد ادنيدن