> بقلم: الحسين الشعبي
ضرورة المعنى
من الطبيعي أن يطرح كل كاتب، من مختلف أصناف الكتابة الإبداعية، سؤال لمن أكتب؟ وبالتالي يجد نفسه مطالبا بتحديد الفئات التي يستهدفها ويتوجه إليها، ويدقق معالمها وطبيعتها سواء من الناحية العمرية، كالتوجه للطفولة أو لليافعين أو للشباب أو للراشدين والكبار، أو من الناحية الاجتماعية، كأن يستهدف فئات العمال تحديدا أو عموم الجماهير أو المتعلمين أو الطبقات الوسطى أو النخب.. وثمة من يتوجه للنساء فقط.. لكن من البدهي أن يتوجه الشاعر مثلا لعشاق الشعر، وأن يستهدف الروائي بالضرورة قراء الرواية ومحبي القص والحكي والمهووسين بالقراءة.. إلا أن الكاتب المسرحي، إذا تجاوزنا الفئات العمرية، باعتبار أن لمسرح الطفل خصوصيات ليست هي نفسها خصوصيات المسرح الموجه للكبار، فإنه في جميع الحالات يضع نصب عينيه فئتين من الجمهور المستهدف:
> فئة القراء، بدرجة أقل، لذا قلما نجد كتاب المسرح معنيين بالنشر.
> وفئة المشاهدين المتفرجين، بشكل أساسي، لذا ما أكثر ما يسعى الكاتب المسرحي إلى لعب وتشخيص نصوصه وعرضها على خشبة المسرح.
من خلال تجربتي في الكتابة المسرحية، وفي التمثيل والإدارة الفنية، تكونت لدي قناعة راسخة مفادها أن المسرح الذي لا يتجه للمعنى لا يمكن أن يكون مسرحا.. وإلا ما الذي سيجعلني أنسج كلاما على لسان شخصيات متخيلة لو لم يكن ثمة حافز معنوي للكتابة؟ وأجدني أحيانا في موقف الحيرة والاستغراب عندما أقرأ أو أسمع كاتبا يعلن صراحة أنه لا يهتم بالمعنى، ولا يعنيه الجمهور، وبالتالي فهو يكتب لإرضاء الذات فقط لا غير.
صحيح أن المبدع عموما كائن استثنائي، وإنسان ليس كسائر البشر، ومكمن الاختلاف الأساسي بينه وبين عموم الناس أنه أناني وزيادة، بالمعنى الذي ينتصر فيه للذات ويحقق بالذات لذة الإبداع ونشوة الكتابة والخلق.. وليس بالمعنى الذي يتم فيه إلغاء الآخر / المتلقي.. إذن، في نهاية المطاف، فالمبدع الذي يلغي المتلقي إنما يلغي ذاته، لأن ذاتية المبدع، في نظري، لن تتحقق إلا من خلال مسالك الاتصال التي يعبدها للتفاهم مع الجمهور، أيا كان هذا الجمهور..
علمني المسرح مهارات وتقنيات تواصلية في الحياة وفي التداول اليومي من خلال عنصرين دراميين أساسيين في المسرح، هما: الحوار، والصراع.
فالحوار يدور بين شخوص يحملون أفكارا وسلوكات وقيما، وينساب هذا الحوار ويتداعى في صراع بين هذه الشخوص نفسها من خلال شبكة من العلاقات التجاذبية بينها، وهو بالضرورة صراع أفكار وسلوكات وقيم..
فكيف يتأتى بناء الصراع وبناء الفرجة من خلال اللاشيء أو اللامعنى؟
إذن، بالنسبة لي، فالكتابة المسرحية حمالة بالضرورة للمعنى، أي معنى، مهما تكن درجة تأثيره في المتلقي.. المهم، من الناحية المبدئية، أن يقول الكاتب شيئا للناس، من خلال الحكاية والشخوص والأحداث والصراع.. من خلال المسرحية.
العودة للمعنى
عندما أكون بصدد الكتابة أو التفكير في مشروع كتابة نص مسرحي، ينطرح على نفسي سؤال محوري ينتصب على العتبة بإصرار كبير، هو: لماذا هذه الفكرة أو هذا الموضوع بالذات في هذه المسرحية اليوم/ الآن هنا في المغرب؟ ويتفرع السؤال تدريجيا في تجليات ومتتاليات تصب كلها في الرهانات.. ما هي رهاناتي الثقافية والفنية والسياسية كمبدع، كفنان، كمثقف، ككائن سياسي واجتماعي؟ وبالتالي ماذا سأضيف من خلال هذا العمل أو ذاك؟
وسرعان ما أجد ضالتي في السياسة، أي في اليومي، في الحياة الاجتماعية، في واقع الناس والبلاد، في السلوك الجمعي والضمير الجمعي للأمة التي أنتمي إليها، أي في المشترك فينا، أي في السؤال الثقافي والحضاري.. وأسعى بالتالي بهذا العمل الذي أنوي عرضه على الناس أن أترك أثرا في الكينونة والوجود، وعلى الأثر أن يبقى وألا ينمحي مهما اشتدت عوامل التعرية.. من هنا ينبثق مفهوم الالتزام بالنسبة إلي.
الالتزام بقضايا الناس والوطن، بقضايا الإنسانية والكون، لا يعني إلزاميا التقيد باختيارات مدققة أو تحديدات دون أخرى أو وصفات مقننة… كما لا يعني معيرة جاهزة يتعين الخضوع لها، وإنما الالتزام في المسرح هو الالتزام بالمسرح أولا.. والمسرح في نظري فرجة خيالية تتمثل الواقع وتختزل معاني ومواقف من الحياة والعالم بواسطة التمثيل أساسا ووسائط تمثيلية.. من ثمة فالمعنى، عكس ما يتبادر غالبا إلى الذهن، ليس هو المضمون فقط، إنما المعنى هو المزج الخلاق الذي ينسج الخيط الرفيع بين المضمون والصيغة التي يأتي بها هذا المضمون.. فلكل مضمون شكل، وما ثمة شكل بدون مضمون. وعليه، فالمعنى مندمج ومتماه ومنساب في ثنائية الشكل والمضمون.
لتحقيق هذا المسعى، من خلال الكتابة المسرحية، أرتئي دائما الدخول في مختبر تجريبي للبحث عن السبل الأسلوبية والبلاغية للتوفيق بين الرغبة الجامحة لصياغة ولإيصال المعنى وبين الرغبة في تحقيق لذة ومتعة تلقي هذا المعنى من قبل المتفرج، وأضع اختيارات مضمونية وجمالية من شأنها أن تقرب النص المسرحي من الناس من دون التفريط في مبدإ سمو الفن.
وإذا كان من نافلة القول أنني أسعى، ضمن المسعى العام للكتاب المسرحيين الجدد، إلى تغيير الواقع الاجتماعي والسياسي وليس تكريسه، فمن المنطقي أن يتم التفكير والاشتغال على خلخلة السائد والمتداول والمبتذل، ورفض النمطية، ونقد التهريج والتسطيح والتبليد، وتجاوز الثقافة السائدة والمسرح السائد الذي تكرسه السلطة بمختلف أدواتها الثقافية والإعلامية والتربوية، وتوفر لذلك ترسانة من الإمكانات المالية واللوجستية والتسويقية… لذا فالعمل المختبري التجريبي الذي أنخرط فيه حتى النخاع، يستحضر هذا التباين والتناقض بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون، بين الثابت الساكن الهادئ، وبين المتحرك القابل للتطور والتغيير، بين المتخادل المهادن وبين المندفع الجريء، بين الملتبس الغامض وبين الفاضح والواضح.. وانخراطي في هذا المختبر التجريبي، تجربة بعد أخرى، يقتضي مني أيضا وبإلحاح، البحث في اللغة والأسلوب وطبيعة البناء، والبحث في أشكال الفرجة التي تستهوي المتلقي وتخلق لديه نوعا من الدهشة والعجائبية..
وعندما نتحدث عن الكتابة المسرحية، اليوم، في راهنها، فإن الحديث لا يستقيم من دون استحضار الهدفية العليا من الكتابة واستراتيجيتها الاستشرافية. بمعنى آخر، أن راهنية الكتابة تكمن في رهانها. والرهان الحقيقي يكمن في معادلة الجدة والمغايرة، مضمونا وشكلا.
فالنصوص المسرحية الجديدة التي نقرأها أو نشاهدها اليوم، من قبيل نصوص عبد اللطيف فردوس وعصام اليوسفي والزبير بن بوشتى ومحمد الحر وخالد ديدان وحسن هموش وبوسلهام الضعيف وبوسرحان الزيتوني والزهرة مكاش وعبد الحق الزروالي ورشيد أوترحوت.. ناهيك عن نصوص أساتذتنا الرواد الذين سبقونا للمعنى والعمق كمحمد مسكين وعبد الكريم برشيد والمسكيني الصغير ومحمد قاوتي ومحمد تيمد وعبد السلام الحبيب وأحمد العراقي وسعد الله عبد المجيد ومحمد بهجاجي.. وغيرهم من كتاب الحساسيات الجديدة، لا تعدو أن تكون فسيفساء من المتون والاختيارات الجمالية التي ظهرت في زمان ومكان يتسمان سياسيا وثقافيا بفترة الانتصار لقيمة التنوع والاختلاف.. وبذلك فهي ليست بالضرورة تيارا مسرحيا، ولا مدرسة فنية يجمعها تصور متجانس، أو معجم مفاهيمي موحد، لكنها تتقاطع أو تكاد في هاجس مشترك ينم على رغبة أكيدة في المغايرة والاختلاف، بل إن معظم هؤلاء الكتاب الدراميين يشتغلون بالإخراج ويتحولون، في نطاق صياغة مسرح بشكل مغاير، إلى دراماتورجيين يعيدون قراءة ومراجعة نصوصهم ويعدونها للعب على الخشبة..
ولعلني أجد نفسي ضمن هذه الكوكبة من المؤلفين الذين يكتبون واضعين نصب أعينهم فضاء الخشبة، بل منا من يكتب على مقاس هذا الممثل أو ذاك، ليس فقط لأنه سيلائم الشخصية المتخيلة وسيحسن لبوسها، ولكن، وأساسا، لأنه سينخرط في معركة المغايرة التي يخوضها المؤلف، وهي اللعب بشكل مغاير، خارج النمطية وبعيدا عن السائد.
فعندما أكتب وأرسم الشخصيات وأصيغ الأفكار والحوار، فإنني أيضا أحاول أن أحفر البؤر التي سيملأها المخرج، وأخلق ما أمكن من مساحات اللعب للممثل، وألتمس وأتمثل الفضاءات الممكن بناؤها سينوغرافيا، وأستبق أو أتوقع تعاطي المتفرج مع لحظات العرض محاولا صناعة قطب لاجتذابه واستهوائه.