الدكتور أحمد بورة.. من ذاكرة مناضل تقدمي

الحلقة17

شهد مغرب ما بعد الاستقلال وقائع سياسية كبرى مست الدولة والمجتمع، وأحداثا مؤلمة ميزت التاريخ السياسي للمغرب المعاصر، ومحطات كان لها تأثير كبير على ما نحياه اليوم من حراك لا يختلف في أهدافه، برغم اختلاف الأسلوب والأدوات المستعملة فيه، عن حراك أشد وأقسى كان فاعلوه مناضلين من طينة متميزة، استماتوا من أجل حق الشعب في إسقاط الفساد وفي نظام ديمقراطي وفي عيش كريم. فظلت أعينهم على الدوام شاخصة نحو وجه مغرب مشرق وجميل.
ليس كل تاريخ هذه المرحلة من مسار الوطن مدونا. فمن المؤكد أن تفاصيل بقيت مخبأة تنتظر منا النبش في الركن الخفي من الذاكرة السياسية لرجالات رسموا بنضالاتهم أخاديد شاهدة على معلومات تفيد في إزالة بعض العتمة المحيطة بكثير من التفاصيل الغائبة.
في حياة هذا الرعيل الأول من زعماء وقادة سياسيين أحداث مختلفة، فردية وجماعية، لا يمكن الاستهانة بأهميتها، لأنها تشكل عناصر من شأن إعادة قراءتها وترتيبها تسليط أضواء كاشفة على صرح الحدث أو الأحداث التي كانوا شهودا عليها أو اعتبروا جزء لا يتجزأ منها.
لم يكن لنا من خيار للإسهام المتواضع في قراءة مرحلة ما بعد استقلال المغرب سوى طرق ذاكرة شخصية سياسية من الشخصيات التي راكمت خبرة سنين طويلة من النضال الملتزم، وما تعنيه من نضج ودراية وصدق في استحضار معطيات هامة ومثيرة يحصرها البعض في خانة «واجب التحفظ».
وقع اختيارنا على الدكتور أحمد بورة كذاكرة مفتوحة على أحداث النصف الثاني من القرن الماضي وعلى عقد من هذا القرن الجديد عاشها أو عايشها. لم يكن هذا الاختيار اعتباطيا. فالرجل لازالت شرايينه تنبض بالوطنية وبالأفكار التقدمية، يتابع عن قرب وعن كتب أخبار الوطن وقضايا الشعب. لا يختلف في ذلك عن أي  قائد سياسي تمتزج بين طيات شخصيته المتناقضات والمتآلفات.
يفتح لنا الدكتور أحمد بورة، طيلة هذا الشهر الفضيل، صفحات سجل حياته بنوع من الحنين لتلك الأعوام التي عاشها أو عايشها والتي يمكن أن تشكل بالنسبة إلى الباحثين والقراء  مرتعا خصبا  لكل من يريد البحث عما تختزنه الذاكرة من رؤى ومواقف وآراء ومعطيات….
أحمد بورة شخصية بارزة في حزب التقدم والاشتراكية العريق. حزب  ناضل، منذ أربعينات القرن الماضي، بتميز وبصدق وإصرار، رغم المنع والقمع، وذلك تحت يافطات متنوعة، فرض تغييرها صموده من أجل الأفضل للبلاد.
أحمد بورة، ابن الطبقة الشعبية التي ظل ملتصقا بها، بهمومها ونضالاتها وأحلامها، بادلا لها من ذات نفسه كل ما يستطيع أن يبذله المواطن الصالح لوطنه، وجاعلا من صدر الطبقة الكادحة، في أشد لحظات النضال قتامة، متكئا لينا يلقي رأسه عليها فيجد فيه برد الراحة والسكون.
من معين هذا المناضل، ومن  تفاصيل حياته الشخصية، نقدم لقرائنا هذه الحلقات التي حاولنا صياغتها على شكل قصص وروايات وأحداث، وأحيانا طرائف ومستملحات، لتعميم الفائدة ولتسجيل أوراق شاهدة على مرحلة من تاريخ ما بعد استقلال المغرب.

فاضت الغربة على الشاب أحمد بورة بأشجانها وأحزانها أوجاعاً وآلاماً. اختلفت مرارة هذه الغربة وتنوعت قسوتها ولم يجد معها شيء سوى دموع تتسابق في الانهمار لهذا الشاب القادم من بني ملال، كانت تخمد ببرودتها جذوة الحنين وحرقة الاشتياق، اللتان اشتدتا بأروقة قلبه، وأذابت  بحرارتها “زمهرير” البعد وصقيع الوحدة الموحشة، وسط حشد كبير من الذكريات لملامح وجوه الوالد والوالدة وروائح الأمكنة. ببني ملال .
في الغربة، ومنذ اليوم الأول سيعانق أحمد بورة دموعه كثيراً، وستفشل كل محاولات احتباسها أو البحث عن بديل لها، سيفاجأ بثمة كلمات تختنق، ومشاعر لا تترجم إلاّ دموعاً تنهمر بسخاء، خاصةً حينما يسمع صوتاً يشبه صوتاًوالدته التي كثيرا ما كانت تصحبه لقضاء العديد من أغراضها، أو يري لمحة بسيطة تشابه هيئة جسم والده، أو وجهه، أو حينما يعتصره الشوق لصباحات جميلة حينما تضع له أمه إفطار، قبل أن تلوذ إلى منسجها.
مع الأيام بدأ تعود أحمد بورة على حياة الغربة شيئا فشيئا، واستطاع اجتياز معابر الوحشة العسيرة العبور، وكيف لا وقد كان في تلك الفترة الطالب المغربي الوحيد بكلية الطب بليل، وأصبح فيما بعد الطبيب المغربي الوحيد بهذه المدينة.. ليل التي يميل طقسها كما باقي مدن شمال فرنسا نحو البرد القارس وموجات الثلوج، وهي مناخات لم يكن من السهل على المغاربة أن يألفوا العيش بها ويفضلون عليها مدن تولوز وباريس ومونبولييه المتميزة بطقس أكثر اعتدالا.
إن التعايش مع تدني درجات الحرارة يرفع بالتأكيد من درجات المثابرة ويزيد الطالب تعودا على التزام البيوت التي تساعد بدورها على المطالعة الجيدة. وقد أكد العلم الحديث وجود علاقة بين حالات المزاج والفكر والسلوك وبين التغيرات الجوية، وإن عرف الخريف والشتاء بتغيراتهما المناخية التي تشل أحيانا حركة الحياة العادية فإن من إيجابيات هذين الفصلين تفرغ الإنسان للدراسة والبحث والتحصيل.
رغم تجاوز دفعته من طلبة كلية الطب بليل لهواجس تراكم الدروس والمواد التي بذلها من أجلهم أساتذتهم الأفاضل ومنهم أستاذة علم الأمراض التشريحية البروفيسورة بومبارد Bombard، وأستاذ الأمراض الجلدية و التناسلية البروفسور كلود هورييز Claude Huriez، وأستاذ طب الأطفال البروفسور فرانسوا ديسمو François Dismond، وأستاذ الأمراض الجلدية وعلم الأحياء البروفسور بيير أغاش Pierre Agache.
انتظم أحمد بورة في متابعة دراساته العليا بعزم ومثابرة، وكان وزملاءه مواظبين على حضور كل المحاضرات والمناظرات والندوات، يساهم في إثرائها وإنجاحها. ويغذي اجتهاده بالابتعاد عن طلب المتعة الزائلة، منصرفا إلى تحقيق الغاية التي من أجلها ابتعد عن الأهل والوطن عملا بنصيحة الإمام الشافعي رضي الله علنه لتلاميذه : “تفرغوا لعلم، فإن العلم لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كلك”.. ولم نكن لنبلغ هذا المراد لولا اختيارنا الموفق لأصدقاء خلوقين وطموحين.
وعلى الرغم من ضآلة المنحة الجامعية، فقد أقبل أحمد بورة  على دراسته بكل همة وجدية واضعا نصب عينيه بلوغ أمل التخرج المنشود.
وقد قطع بتلك العزيمة والإصرار شوطا مهما من مسار تحصيله رغم عذابات الغربة والاغتراب التي هونتها عليه صداقات كسبها مع بعض المغاربة الذين قصدوا جامعة طب الأسنان، ومنهم الأطباء سعد بن عبد الله رحمه الله، ولحلو خليل خالد، ومحمد الجندي، كما كان يلتقي من حين لآخر برجل الأعمال والسياسي فيما بعد محمد ساجد الذي كان يتابع تكوينه بالمدرسة العليا للتجارة بليل والتي تخرج منها سنة 1971.
نسج أحمد بورة  علاقات وطيدة مع بعض الطلبة الأجانب المنتمين لفوجه الجامعي، كالدكتور جون كلود ألار Jean Claude Allart خريج جامعة الطب بليل سنة 1971 والكاتب العام الشرفي للفديرالية الفرنسة لأطباء الأمراض الجلدية، والدكتور ميشيل لوكلير Michel Leclerc، والدكتور كاتيي ييف Cartier Yves.
كانوا ثلة خيرة من الأساتذة الكبار الشغوفين بالعلم المتحلين بأخلاق عظيمة والمتعمقين في فروع تخصصاتهم، جعلتهم قدوة في أساليب تلقينهم المتميزة لمتابعة دروسهم التي كان لها بكل تأكيد أثرا بالغا في مستقبل أحمد بورة.
وبحكم البعد ومحدودية المنحة، قلت زيارة أحمد بورة  للعائلة، وكان يعوض عن غربته وبعده عن الوطن بالسفر نهاية الأسبوع إلى باريس ليلتحق ببعض الأصدقاء المغاربة بدار المغرب، منهم وزير الصحة الأسبق الطيب بن الشيخ. والأستاذ أبو الفتح محمد، وعمر قاشوحي الذي تابع دراسته التخصصية بباريس وصار طبيبا جراحا.
كان أحمد بورة يقول دوما مع نفسه إن أسوأ ما يعترض الإنسان في حياته أن يركن إلى الجمود مفضلا التشبه بالماء الراكد بدل الماء المتدفق. وبالتالي تنقلت من بين أياديه فرص الإصرار والعمل الجاد. وفي أحلك ظروفه المادية والنفسية كان يسعى إلى التقدم كل يوم خطوة إلى الأمام حتى لا يكون من المتقاعسين الذين يولون الأدبار في وجه الحياة مهما اكتوى بنارها معاناة وقسوة.
دروب الحياة جمعتنه بمشيئة من الله برجال علمونه ألا يدير ظهره للمستقبل مهما بدا الأمل في بلوغه ضعيفا، وأفهمتنه الأيام أن كل أشواط التحصيل التي قضاها بعيدا عن الأهل والأحباب لا يجدر به أن يلقي بها للرياح بمجرد مواجهته للحظة انكسار أو تعثر .
منحة أحمد بورة كانت بالكاد تكفيه من أجل تغطية مصاريف حياته اليومية، ورغم ذلك اعتبر نفسه محظوظا جدا لأنه وفق في الحصول على بعض المال مقابل خدمات المداومات الليلية بالمراكز الصحية والتي كانت تذر عليه شهريا ضعف منحته الجامعية .
وحتى بعد نيله دكتوراه الدولة الفرنسية في الطب، كان يعوض أطباء القطاعين الخاص والعام بالمستشفيات والمصحات، زيادة على استمراره في القيام بفترات مداومة ليلة بأقسام المستعجلات، وتمكن من الحصول على دبلوم مسعف وخضع لتكوين في الإسعاف والإنعاش الطبيين وهي شواهد رفعت من مستوى عيشه بديار الغربة لأن خدمات الإسعاف الليلة مجزية جدا، ولولا تلك العائدات الموازية لوجد صعوبة كبيرة في متابعة دراسته التخصصية.
اعداد: مصطفى السالكي

Related posts

Top