يوجد “خارج الحقل” “Hors champ” في فيلم ما بمستويين. مستوى متعلق بالتقطيع التقني، أي جزء المكان الذي يتوارى خلف الكاميرا؛ والمستوى الثاني المتعلق بالسرد، حيث إن البنية السردية تقيم نوعا من الانتقاء داخل الحكاية وتحدد الجزء الذي سيحتفظ به في الفيلم والجزء الذي سوف لن يظهره فعل السرد كمادة حكائية، مجازا “خارج الحقل”.
في المستوى المتعلق بعلاقة الكاميرا بالمكان “خارج الحقل” يوجد في نفس الآن، أي خلف الكاميرا، ويعبر عن نفسه بالصوت والضوء والظل…، في نفس المشهد يتحول “الحقل” غالبا إلى “خارج الحقل” والعكس صحيح. إن الاقتصار في تقطيع مشهد على الحقل فقط دون تقديم إجابة للأسئلة التي يمكن أن يطرحها ذهن المتفرج حول الجزء اللامرئي من المشهد، يكون بدافع تحقيق أو إيهام بالواقعية. تقطيع المشهد إلى لقطات يحيلنا مباشرة على سينما تعيد تركيب الواقع في أفق واقع متخيل يسلك أسلوبا مختلفا لتحقيق الواقعية.
تبدأ حكاية فيلم “الحي الصيني” “Chinatown” للمخرج البولاندي رومان بولانسكي عندما يطلب مجهولون من المفتش الخاص جيتيس Gittesأن يقوم ببحث حول خيانة زوجية، فلا يتأخر في أن يكتشف أنها وهمية، ليتحول البحث إلى فك لغز جريمة قتل تعيده إلى ماضيه حينما كان يعمل كبوليسي في الحي الصيني، حيث، وهو يحاول أن ينقد شخصا، تسبب في قتله.. الشيء الذي يضطره إلى الاستقالة من البوليس والعمل لحسابه كمفتش خاص رغبة منه في النسيان والتخلص من عقدة الذنب. بالطبع الفيلم لا يصور هذه الحكاية، بل تتم فقط الإشارة لها بين الفينة والأخرى، بالشكل الذي يوحي لنا أنها هي الدافعه لأن يرتبط بالبحث الذي يقوم به لا كعمل روتيني ولكن كقضية شخصية. هذا الجزء من الحكاية هو الذي يمكن أن ننعته بـ “خارج الحقل”. للإشارة فقط الأمر هنا لا يتعلق بتاتا بـ “فلاش باك” وجزء الحكاية الذي يتموقع “خارج الحقل” ليس بالضرورة أحداثا ماضية بل يمكن أنت تكون معاصرة للحكاية.
حكاية فيلم ليست في الواقع إلا مبررا فقط للحكاية “خارج الحقل” كما هو الشأن مثلا في غالبية أفلام ألفريد هتشكوك، على سبيل المثال لا الحصر، التي من بين أهم أطروحاتها أن ما نراه ليس إلا مظهرا ولا يعكس الحقيقة.
“خارج الحقل” يجعل لفعل الشخصيات دوافع متعددة بنفس مسافة العلاقة بين المنطوق واللامنطوق في اللغة، ويجعل كذلك المواقف لا تبحث فقط أن تكون مقنعة بل بالعكس خادعة وملتبسة. الغائب واللامرئي له سلطة اللغز والمجهول، ويحفز الخيال والفكر لأننا لا نستطيع أن ننتج صورة نهائية عنه، الشيء الذي يجعل الفكر في حركة دائمة. الغائب ليس في الحقيقة إلا الواقع الذي يبلغ من التعقيد ما يجعلنا نسلك طرقا تشبه المتاهة والضياع لنقبض عليه.
إن إدماج “خارج الحقل” بمستوييه بشكل واع في الكتابة يرقى بالفيلم إلى مستوى أعمق من وسيلة الترفيه والتسلية، ويؤدي إلى تمتع اللقطة بنوع من الاستقلالية من حيث الدلالة، لأنها توجد في هذه الحالة في مسافة زمنية كافية لتحول مشاهدتنا إلى تأمل وتحقق لنا متعتين، متعة وظيفية باعتبارها وحدة فيلمية في خدمة البناء العام تجيب عن رغبتنا في معرفة الجديد، ومتعة خاصة بها، تحققها بكونها لقطة توجد وتحكي بنوع من الاكتفاء الذاتي النسبي، تسافر بنا في اللحظة الآنية لتجعلنا نحسها أبدية كاللذة.
بقلم: محمد الشريف الطريبق