الأصول المعرفية والنظرية لجمالية التلقي

>  بقلم: علي السباعي
إن المتأمل في أصول النظرية الحديثة في مقاربة النص الأدبي، وأقصد هنا نظرية جمالية التلقي، في كونها ذلك التوجه النقدي الذي انبثق في ألمانيا الغربية في أواخر الستينات من القرن العشرين وأوائل سبعيناته بفعل مجهودات أساتذة جامعة  كونستانس وطلابها، فهو يهدف إلى الثورة على البنيوية وعلى مبادئها الصنمية في مقابل إعطاء الدور في العملية الأدبية إلى القارئ باعتباره  العنصر الجوهري في العملية، وعن طريقه ينشأ حوار سرمدي  مع النص لا نهاية  له.
إن هذه النظرية الجديدة بمثابة بديل منهجي في مقاربة الظاهرة الأدبية السائدة لما قبل البنيوية المتمثلة في المنهج التاريخي والنفسي والاجتماعي، “إنها فرع من الدراسات الأدبية الحديثة المهتمة بالطرق التي يتم بها استقبال الأعمال الأدبية من قبل القراء بدلاً من التركيز التقليدي على عملية إنتاج النصوص أو فحصها في حد ذاتها”.1
وقد جاءت هذه النظرية ضمن تيارات ما بعد البنيوية التي تضم عدداً من المداخل الأدبية، حيث سعى كل واحد منها تصحيح أخطاء البنيوية المتمثلة في إغفال عناصر مهمة في الدرس الأدبي، “ولعل الجامع الذي يوحد بين المنتسبين إليهما هو الاهتمام المطلق بالقارئ والتركيز على دوره الفعال كذات واعية لها نصيب الأسد من النص وإنتاجه وتداوله وتحديد معانيه.”2
وفي ضوء هذه التعريفات نستنبط، أن نظرية التلقي أو نقد استجابة القارئ بتسميتها الأخرى عند الأنجلو- أمريكي- تعنى بالمتلقي الذي طالما أقصي وهمش في الاتجاهات النقدية السابقة. وعلى هذا الأساس جاءت نظرية التلقي لرد  الاعتبار للذات  الإنسانية في شخصية القارئ ولما له من قدرات في إعادة إنتاج معنى النص وبنائه من جديد عن طريق تفاعل بعضهما البعض، ” لأن النص يمتد في القارئ والقارئ يمتد في النص، وهنا تحدث الاستجابة وهي نوع من التواصل بينهما”.3                     
ويلاحظ أن التعريفات المقدمة لهذه النظرية النقدية الجديدة تعكس ما يسمى بسلطة القراءة لتجاوز سلطة المؤلف وسيادة النص، من أجل نشر وعي جديد لفهم النص، بل إعادة بنائه من جديد، وبناء علاقة بينه وبين متقبله أساسها الاستمرارية
وضمن التوجه نفسه، يرى إيزر أن “مهمة المؤول يجب أن تكون هي توضيح المعاني الكامنة في النص، وينبغي أن لا يقتصر على معنى واحد فقط، بل يجب عليه أن يتصور المعنى كشيء يحدث، متجاهلا طبيعة النص بوصفه حدثاً وتجربة للقارئ، ينشطها هذا الحدث في آن واحد”.4
هذه النظرية شأنها شأن باقي النظريات الحديثة، فهي لم تنطلق من عدم، بل كانت لها أصول ضاربة في القدم، هذا ما يجده الدارس لها، أحدهما معرفي وآخر نقدي، فالأول تمثله الفلسفة الظاهراتية  (الذاتية). هذه الأخيرة كان لها الأثر  الكبير في ظهور النظرية الجديدة عن طريق زعمائها ” هوسرل” وتلميذه ” انغاردن”، وما جاءا به من مفاهيم، ولعل أبرزها مفهوم ” التعالي ” و مفهوم ” القصدية”.
إن الفلسفة الذاتية، كما سبق وأشرنا، كان لها الفضل الكبير في بزوغ  فجر نظرية جمالية التلقي، حيث نجد معظم الأفكار التي بنى بها “ياوس” ركائز هذه النظرية مأخوذة  من الفلسفة الظاهراتية. وأما الأصل  الثاني، فيمثله كل من نقاد مدرسة جنيف والمؤلف الضمني عند واين بوث.  
إذا كانت الفلسفات الوضعية والتجريبية هي المرجع المعرفي الوحيد الذي ارتكزت عليه العديد من المناهج النقدية كالبنيوية  مثلاً، فإن نظرية التلقي اتكأت على الفلسفة الظاهراتية . وهي مذهب فلسفي ظهر في ألمانيا في أوائل القرن العشرين، “ويعنى هذا المذهب بدراسة الواقع المجسد من خلال وعي الإنسان وخبرته المباشرة به دون توغل في جوهره، لأن معطيات الإدراك المحض- في زعم الظاهراتية  هي جوهر الأشياء ذاتها”.5
لقد كانت الفلسفة الظاهراتية المنبع الوحيد الذي استقت منه النظرية الجديدة المسماة بنظرية التلقي من طرف أبيها  “ياوس” الذي أبى أن يسميها بالاستقبال، حيث رأى بأن الاستقبال مناسب لمجال الفندقة، وفي هذا الصدد يقول ساخراً: ” فإن موضوع الاستقبال قد يبدو أكثر ملاءمة لإدارة  فندق منه إلى الأدب”.6
إن الفلسفة الظاهراتية -كما ذكرنا- كانت الأصل المعرفي الأول الذي اتكأت عليه نظرية التلقي في مراحل نشأتها الأولى، والسبب في ذلك راجع إلى ما تحتويه خزاناتها المعرفية، حيث وجد زعماء نظرية التلقي في هذه الفلسفة ما لم يجدوه في مختلف الفروع المعرفية، وفي هذا الصدد نجد ” ايزر” يدعو إلى دراسة الظاهرة الأدبية وتفسيرها في ضوء المذهب الظاهراتي الذي يركز على القارئ وعلى قدراته الذاتية، ويرى بأنه لأمر صعب الفصل بين النص ومتقبله. أضف إلى ذلك بأنها كانت الفلسفة  الوحيدة التي آمنت بالذات وفي علاقتها بالموضوع، هكذا نجد بأنها كانت رد فعل على الفلسفات التي همشت الذات، بل تمادى بها الأمر إلى قتلها.
لكن هذه الذات ستعود إلى الحياة مع ” هوسرل”
الذي كان  يراها عنصراً أساسيا من عناصر المعرفة، كما أن الفلسفة الظاهراتية لم تلغ النظام كالبنيوية والشكلانية- وهذا أمر يحسب لها- بل سعى روادها، خاصة منهم  ادموند هوسرل إلى أن “يبني نظاماً معرفياً، يستبعد الافتراضات المعطاة للفهم على نحو سابق، ويرى أن هذا الاستبعاد هو الخطوة الرئيسية لإعادة بناء الفلسفة بوصفها علماً دقيقاً”.7 بمعنى أن مدلول النص- في نظرهم- ليس هو ذلك المعنى المخبأ وراء سطور النص وبين دواله، بل هو مدلول متحرك قابل للتجديد في مختلف الأزمنة و الأمكنة، وما دام المعنى حراً طليقاً  فما ينقصنا إذاً، إلا قارئ/ متلقي ليؤثر في المعنى ويؤثر المعنى فيه، هذا مع العلم بأن للنص الأدبي ذو قطبين، أحدهما فني، متمثل في إبداع المؤلف، والثاني جمالي، وهو ما يبدعه القارئ عن طريق تفاعله مع النص. هذا التفاعل هو الذي يضمن للنص الاستمرارية و الخلود”، بفعل الحوارية المستمرة بين بنية النص وبنية التلقي”.8
إن القراءة الظاهراتية هي: ” القدرة على مزاولة النشاط الإدراكي القادر على استيعاب هذه الطبقات في (طبقة صوتيات الكلمة، طبقة وحدات المعنى، طبقة الموضوعات المتمثلة، طبقة المظاهر التخطيطية) في وعي المتلقي وبذلك تتلخص عملية الإدراك من التأثرية والانطباعية بمحاورتها لبنية النص والاستجابة لها استجابة فهمية واعية”.9
وبهذا ننتهي إلى أن النص يؤثر في القارئ، والقارئ يؤثر في النص، أي كلاهما يؤثر في الآخر، هذا ما يؤدي إلى  وضوح الطبقات المكونة  للنص الأدبي ودلالاته المتنوعة، ومن هنا نجد “هوسرل” صاغ  مفهومين أساسيين هما: “مفهوم التعالي”  و”مفهوم القصدية” ، وفيما بعد، سيطورهما تلميذه ” إنغاردن” كما سنرى.
أ- مفهوم التعالي

إن مفهوم التعالي بمثابة المادة الخام في الفكر الظاهراتي، ويقصد به” هوسرل”
أن المعنى الموضوعي ينشأ  بعد أن تكون الظاهرة معنى محضاً من الشعور، أي بعد الارتداد من عالم المحسوسات الخارجية المادية إلى عالم الشعور الداخلي الخالص”؛10 يعني هذا أن إدراك المعنى قائم بالدرجة الأولى على عملية الفهم وعلى القدرات الذاتية والتفسيرات الفردية الخالصة. أما “انغاردن” تلميذ ” هوسرل”، فقد منح مفهوم التعالي بعداً إجرائيا مغيراً عما قدمه أستاذه. ويعني التعالي عنده ” أن الظاهرة تنطوي باستمرار على بنيتين: ثابتة ويسميها نمطية  وهي أساس الفهم، وأخرى متغيرة يسميها  (مادية) وتشكل الأساس الأسلوبي للعمل الأدبي، فالمعنى هو حصيلة للتفاعل بين بنية العمل الأدبي وفعل  الفهم”.11

ب- مفهوم القصدية

هو ثاني المفاهيم التي اتكأ عليها زعماء نظرية التلقي، والمعنى حسب هذا المفهوم لا يتكون عن طريق التجارب أو المعطيات السابقة ولا حتى من معايير التفكير الحتمي، بل هو فهم ذاتي وشعور قصدي. وتعني القصدية أو الشعور القصدي عند “هوسرل” الخاصة التي تنفرد بها التجارب المعاشة بكونها شعوراً بشيء ما “.12
   إن كل أفكار “هوسرل” وآراءه حول مفهوم القصدية، قد انتقدت من قبل تلميذه ” انغاردن” الذي حول المفهوم من ” طابعه المثالي المجرد، إلى حقيقة مادية يمكن تحديدها إجرائيا من خلال تأمل الطبقات التي تتشكل منها بنية العمل الأدبي،  فإدراك الظاهرة الأدبية بقصدية ” انغاردن” قائم على عامل يوجد في ذاتها وآخر يوجد خارج ذاتها (المتلقي)”.13
والآن وبعد هذه الجولة القصيرة في رحاب الفلسفة الظاهراتية ( الذاتية)، والتي كان لها الفضل الكبير في إنارة الطريق أمام رواد التلقي، ويتجلى ذلك في اهتمامها بمفهوم القراءة، وكما لاحظنا فإن أغلب المفاهيم التي جاء  بها الفكر  الذاتي، صارت – بدون شك – فيما بعد أسس النظرية الحديثة، خصوصاً عند “ياوس” و”ايزر” وآخرون من زعماء التلقي – طلاباً كانوا أم أساتذة – ودائما في نطاق التأثير والتأثر نجد من بين المفاهيم التي استفادت منها  نظرية التلقي من الفلسفة  الظاهراتية، هو مفهوم ” أفق الموقع”.”Sans titre-10  عند ياوس

إن هذا المفهوم هو محاكاة لمفهوم ” الأفق التاريخي”  عند  غادمير، هذا ما أشار إليه ” ستاروبنسكي” بقوله: “إن مفهوم أفق الانتظار الذي يعتمد عليه ياوس، والذي يلعب دوراً مركزياً في نظرية التلقي، يرجع في أصله إلى  ” هوسرل”.14
 
الأصول النقدية

لقد ملأ رواد التلقي موسوعتهم النقدية من خزانين اثنين، أولها كان معرفي، تجسد في الفلسفة الظاهراتية. وأما الخزان الثاني، فقد مثلته تيارات نقدية مختلفة، وعلى رأس هذه التيارات نجد، مدرسة جنيف والمؤلف الضمني عند “واين بوث”.

  أ- نقاد مدرسة جنيف

إن أقطاب التلقي، قد استفادوا من رواد هذه المدرسة الذين اتخذوا العاصمة السويسرية “جنيف” جحراً لهم، ومخبراً لتنفيذ عملياتهم النقدية. فقد اشتهر أعلام هذه المدرسة بكثرة المؤلفات النقدية، وإن كانت لديهم كتابات نظرية قليلة بل محدودة، وعلى الرغم من قلتها إلا أنها كانت هامة، ولا بأس أن نذكر من مؤلفاتهم على سبيل المثال  لا للحصر، مقال “ظاهراتية القراءة” لجورج بوليه الذي ظهر في العدد الأول من مجلة ” تاريخ الأدب الجديد ”
الأمريكية. إن المتفحص في مؤلفات زعمائها المعروفين  باسم نقاد الوعي، وفي نقدهم بصفة عامة، سيلاحظ بأنه نقد
ظاهراتي  بالدرجة الأولى، فلا مناص إذا، أن هذه الجماعة حاولت أن تبني مبادئها الأولى استناداً إلى افتراضات ومنطلقات “هوسرل” إلى مفهوم الوعي القصدي أو الشعور القصدي بالتحديد، ” حيث تتجه الذات نحو موضوع ما، وتندمج فيه، لكي تكون تلك العملية ممارسة دالة تنتج معنى مضافاً بعد أن (تعلق) جميع الافتراضات والأحكام المسبقة”.16  
وترتبط هذه المدرسة بأسماء كثيرة، أمثال جورج بوليه، جان بيير ريشارد و “اميل شنايجر” و”هلليس ميللر”، وغيرهم من النقاد الآخرين.
إن هؤلاء النقاد كانوا يتناولون العمل الأدبي بوصفه تجسيداً شكليا ولفظيا لوعي المؤلف، وقد كانوا دائمي البحث عن تجليات هذا الوعي داخل الأنماط الأسلوبية للعمل  الأدبي، أو داخل أعمال أخرى للمؤلف، معتمدين في ذلك على قراءة عضوية ظاهراتية. هذه القراءة هي التي تؤهلهم إلى تدقيق الاتصال بالعمل الأدبي، ذلك عن طريق التوحد التام بين وعي المؤلف ووعي القارئ.
ومن هنا، فلا جرم أن نجد واحداً من أكبر زعماء مدرسة جنيف، وهو “جورج بوليه” يرى أن العملية الأدبية هي  عبارة عن حوار بين ذاتين، ذات المبدع/ المؤلف، وذات المتلقي/ القارئ، وليس بين النص والقارئ فقط. وفي هذه الحالة، ينبغي على القارئ أن يترك “الأنا” جانباً من أجل العيش مع إنتاجية “الآخر” المؤلف.
أما بخصوص القراءة عنده، فنجدها “لا تنقلنا إلى عالم جديد فحسب، بل تنقلنا إلى كائن جديد، وعندئذ تصبح عملية النقد تحولاً يندمج فيه الوجود بالمعرفة، بحيث يكونان كلا لا يتجزأ. وهي تلغي التمييز  بين  الخارج والداخل، بين الشيء المتأمل والذات المتأملة.”17  إن ما يهم ” بوليه” أثناء عملية القراءة / هي تلك الحياة الداخلية وما يقع خلالها من انغماس في العمل، فهو بهذا يلغي كل العوامل الخارجية وكل ما يتعلق بالمؤلف ويؤسس بذلك علاقة تفاعل وأخذ وعطاء بين النص ومتقبله.
إلى جانب ” بوليه”  نجد زعيماً آخر من زعماء “مدرسة جنيف”، هو “ريشارد”. فقد حاول هو أيضا ، أن يولي اهتماماً خاصاً لعملية القراءة و القارئ كذلك، والقراءة عنده هي ” فهم طبيعة عقل المؤلف خلال أعماله ومن خلال وعيه لموضوعاته”.18
يمكن اعتبار هذا التعريف من أوائل الانطلاقات الرئيسية في الفكر الظاهراتي، الذي أخذ نصيبه من فكر ريشارد، ولذلك نجده ينبه على أن كل شيء في الكائن البشري يبدأ بالشعور الخالص أي الشعور القصدي.
نستنتج مما تقدم أن مدرسة جنيف كانت تهدف إلى تحقيق “قراءة ذاتية تامة للنص، دون التأثر بأي شيء خارج ذلك، بتحويل النص في هذه الحالة إلى تجسيد لشعور  المؤلف، إذ يتم فهم كل سماته الأسلوبية والدلالية، على أنها أجزاء عضوية لوحدة كاملة معقدة يوحد بينها عقل المؤلف”.19  
ولعل ما تقدمت الإشارة إليه، كفيل  بأن يدلنا على أن مدرسة جنيف، كانت  بحق  ركيزة أساسية اتكأت عليها نظرية جمالية التلقي، خاصة وأن العمل الأدبي عندهم يتجسد في وعي مؤلفه، هذا بالإضافة إلى سعيهم الحثيث إلى تحقيق التفاعل التام بين وعي المؤلف ووعي القارئ.

  ب-  المؤلف الضمني عند واين بوث Sans titre-16
لقد كان الناقد الأمريكي ” واين بوث”  من بين المصادر التي استرفد  منها أصحاب نظرية التلقي أفكارهم، و”ايرز” منهم على وجه الخصوص حول ما سماه بالقارئ الضمني ، “وكان ” بوث” قد طرح مفهوم المؤلف الضمني  في النقد الأدبي عام 1961، حيث وجد  مع آخرين، أن دور  المؤلف الحقيقي، قد حط من شأنه في التفسير النقدي  بوصفه جزءاً من المقاربة النقدية الجديدة”.20
لقد كانت تحليلات البنى السردية التي لها صلة بالقارئ من أولى اهتمامات ” بوث”، وقد طرح عمله هذا مجموعة من القضايا التي تستحق النقاش ومجموعة من المفاهيم التي لها علاقة بتشكيل القارئ نصيا نجد منها: المسافة الجمالية    
ومصطلح وجهة النظر، لكن أهم هذه المصطلحات وأبرزها، هو مصطلح ” المؤلف الضمني”.
لقد شكل هذا المفهوم طفرة نوعية في مسار النظرية، التي تحول اهتمامها “من البحث عن مرجعيات للعمل الأدبي، إلى البحث عن بنيات نصية  تجسد كل ما هو خارج العمل من موضوعات يتجه إليها العمل الأدبي في مخاطباته”.21  
لقد شغل بال ” واين بوث” مجموعة من المصطلحات الجديدة، كالمؤلف الضمني والقارئ الضمني  ثم النص المغلق، وهنا نجده يتحدث عن هذا المؤلف المختبئ وراء السطور، يصفه بأنه “يختلف دائماً عن الإنسان الواقعي، مهما كان تصورنا حوله، ويخلق نسخة سامية لنفسه، وهو يخلق عمله  الأدبي، كل  الروايات تنتج في دفعنا إلى الاعتقاد بوجود كاتب تؤوله بوصفه نوعا من الأنا الثانية، تقدم – غالبا- صورة الإنسان على مستوى عال من الدقة والصفاء، أكثر معرفة وإحساسا وحساسية مما في الواقع”.22
إن هذا المؤلف، وإن كان خفيا مستتراً وراء السطور، فإنه يمارس هو كذلك سلطته على القارئ، وكأنه مؤلف حقيقي من لحم ودم، إن له وظيفتين أساسيتين، أولهما خلق الاستجابة لوجهة النظر التي يقدمها المؤلف، والثانية مخاطبة القارئ.
إن المؤلف الضمني يختلف كل  الاختلاف عن المؤلف الحقيقي / الواقعي، إنه (المؤلف الضمني) بناء نصي، له شروط وضوابط ينبغي تواجدها داخل العمل الأدبي، وأما الثاني فهو شخص من لحم ودم، يمكننا مصافحته، ينتمي إلى عالم المحسوسات، وهو الشخصية المنتجة للعمل الأدبي.
باختصار إن المؤلف الضمني، هو اختزال للمؤلف الحقيقي في اختيار الأساليب والتيمات وعبره يمرر المؤلف الحقيقي أفكاره وأطروحاته.
وعلى العموم ، فإن المؤلف الضمني تقنية روائية، لها مكانة خاصة داخل الأعمال السردية، ولولا هذه التقنية ما كان المؤلف الحقيقي قادراً على إنتاج أكثر من نص واحد، كما أنها تعمل كذلك على إبراز وجهة نظر المؤلف الحقيقي وتجسدها نصيا، والشيء نفسه بالنسبة للقارئ الضمني، إنه هو كذلك تقنية دالة في العمل السردي، فهو بيده مفاتيح تسمح له بفك الشفرات المستعملة في النص، وله هدف واحد، هو تحقيق تلك الاستجابة التامة للعمل الأدبي.
لابد لكل متجول في الأعمال الأدبية والسردية منها على وجه الخصوص، أن يصادف هذا الصنف من القراء، بل لابد أن يصطدم به داخل الأعمال التي يتلقاها، وفي هذا السياق قد يسأل واحد منا عن ماهية هذا القارئ، فيجيبه ” واين بوث” قائلاً: “هو ما يتوجه إلى السارد بالخطاب بين فترة وأخرى من فترات السرد، وهو غير مشترك بالأحداث على نحو مباشر، وإنما هو تقنية دالة في البناء السردي، وهو رغبة السارد بتوسيع رقعة الأحداث وتعميق وجهة النص، إن القارئ الضمني ليس له صوت في مجريات الفعل الروائي، وإنما هو مخاطب”.23
إنه عنصر أساسي من عناصر العمل الأدبي، فهو عامل ضروري يساهم في إنتاج وخلق المعنى وإعادة بنائه من جديد، الشيء نفسه في حكايات “ألف ليلة  وليلة”، حيث نجد فيها الملك ” شهريار” هو المتحكم في إنتاج المعنى وبنائه، قل إن شأت، بأن السرد بأكمله متوقف عليه، هذا على الرغم من أنه شخصية متلقية لهذا السرد.
من خلال ما سبق نستنتج، أن أول ما ينبغي على السارد فعله، هو معرفته للقارئ الضمني/ المروي له، وإطلاعه عليهما وعلى كل ما يتعلق بهما، وما لهما من دور في بناء المعنى والمشاركة فيه، “هذا ما كان ايزر يسعى إلى إظهاره باستمرار، فهو يهتم بالقارئ من حيث هو عنصر أساسي لبناء المعنى”.24
 
هوامش:

1-حسن البنا عز الدين، قراءة الأخر/ قراءة الأنا، نظرية التلقي و تطبيقاتها في  النقد الأدبي المعاصر، ص: 25
2-ميجان  الرويلي   / د سعد البازعي، ” دليل الناقد الأدبي”،  ط2/ 2000، الدار البيضاء ? بيروت ص: 190
3-وردة سلطاني، “النص بين سلطة الكاتب والقارئ”،  مجلة المخبر، وحدة التكوين و البحث في نظريات للقراءة ومناهجها جامعة بسكرة، قسم الآداب والعلوم الإنسانية والاجتماعية، ص: 106
4-فولفغانغ ايزر، فعل القراءة ” نظرية جمالية التجاوب في الأدب، ترجمة حميد لحميداني ود. الجيلالي الكدية، منشورات مكتبة المناهل، مطبعة النجاح الجديدة – البيضاء  
5-الدكتور عبد القادر علي باعيسى، في مناهج القراءة النقدية الحديثة ،  ط1/ 1425 هــ/ 2004م، ص: 91
6-روبرت سي هول،  نظرية  الاستقبال  مقدمة نقدية، ترجمة  عبد الجليل جواد، ط1/ 1902م، دار الجوار النشر والتوزيع  ص: 7
7-الأصول المعرفية لنظرية التلقي ، ص: 76
8-بشرى موسى صالح، نظرية التلقي أصول تطبيقات،  المركز الثقافي العربي، بيروت- لبنان، ط 1/ 2001، ص: 52
9-بشرى موسى صالح، م.  س. ص: 38
10 – 10-نفسه ص: 341
11 – 11-نفسه ص: 35
12 12-ناظم  عودة خضر، الأصول المعرفية لنظرية التلقي، الطبعة العربية الأولى، الإصدار الأول 1997، مركز اليرموك للتوزيع –عمان-الأردن، ص: 79
13-بشرى موسى صالح، نظرية التلقي، أصول .. وتطبيقات، المركز الثقافي العربي بيروت- لبنان، ط1/ 2001، ص: 37
14-أحمد بو حسن، نظرية التلقي إشكالات وتطبيقات، ” نظرية التلقي والنقد الأدبي الحديث، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، سلسلة ندوات ومناظرات رقم 24 ص: 30
15-أحمد بو حسن، نظرية التلقي إشكالات وتطبيقات، نظرية التلقي و النقد الأدبي العربي” ص: 21
16-نفسه ص: 104
نفسه ص: 105.17-
18-ناظم عودة خضر، الأصول المعرفية لنظرية التلقي، ص: 109
19-نفسه ص: 109
نظرية التوصيل وقراءة النص الأدبي ، ص: 73.20-
21-ناظم عودة خضر، الأصول المعرفية لنظرية التلقي ، ص/ 113
نفسه ص: 113.22-
23 – 23-ناظم عودة خضر، الأصول المعرفية لنظرية التلقي، ص: 117
24-نفسه ص: 118

Related posts

Top