الدكتور أحمد بورة.. من ذاكرة مناضل تقدمي

الحلقة18

شهد مغرب ما بعد الاستقلال وقائع سياسية كبرى مست الدولة والمجتمع، وأحداثا مؤلمة ميزت التاريخ السياسي للمغرب المعاصر، ومحطات كان لها تأثير كبير على ما نحياه اليوم من حراك لا يختلف في أهدافه، برغم اختلاف الأسلوب والأدوات المستعملة فيه، عن حراك أشد وأقسى كان فاعلوه مناضلين من طينة متميزة، استماتوا من أجل حق الشعب في إسقاط الفساد وفي نظام ديمقراطي وفي عيش كريم. فظلت أعينهم على الدوام شاخصة نحو وجه مغرب مشرق وجميل.
ليس كل تاريخ هذه المرحلة من مسار الوطن مدونا. فمن المؤكد أن تفاصيل بقيت مخبأة تنتظر منا النبش في الركن الخفي من الذاكرة السياسية لرجالات رسموا بنضالاتهم أخاديد شاهدة على معلومات تفيد في إزالة بعض العتمة المحيطة بكثير من التفاصيل الغائبة.
في حياة هذا الرعيل الأول من زعماء وقادة سياسيين أحداث مختلفة، فردية وجماعية، لا يمكن الاستهانة بأهميتها، لأنها تشكل عناصر من شأن إعادة قراءتها وترتيبها تسليط أضواء كاشفة على صرح الحدث أو الأحداث التي كانوا شهودا عليها أو اعتبروا جزء لا يتجزأ منها.
لم يكن لنا من خيار للإسهام المتواضع في قراءة مرحلة ما بعد استقلال المغرب سوى طرق ذاكرة شخصية سياسية من الشخصيات التي راكمت خبرة سنين طويلة من النضال الملتزم، وما تعنيه من نضج ودراية وصدق في استحضار معطيات هامة ومثيرة يحصرها البعض في خانة «واجب التحفظ».
وقع اختيارنا على الدكتور أحمد بورة كذاكرة مفتوحة على أحداث النصف الثاني من القرن الماضي وعلى عقد من هذا القرن الجديد عاشها أو عايشها. لم يكن هذا الاختيار اعتباطيا. فالرجل لازالت شرايينه تنبض بالوطنية وبالأفكار التقدمية، يتابع عن قرب وعن كتب أخبار الوطن وقضايا الشعب. لا يختلف في ذلك عن أي  قائد سياسي تمتزج بين طيات شخصيته المتناقضات والمتآلفات.
يفتح لنا الدكتور أحمد بورة، طيلة هذا الشهر الفضيل، صفحات سجل حياته بنوع من الحنين لتلك الأعوام التي عاشها أو عايشها والتي يمكن أن تشكل بالنسبة إلى الباحثين والقراء  مرتعا خصبا  لكل من يريد البحث عما تختزنه الذاكرة من رؤى ومواقف وآراء ومعطيات….
أحمد بورة شخصية بارزة في حزب التقدم والاشتراكية العريق. حزب  ناضل، منذ أربعينات القرن الماضي، بتميز وبصدق وإصرار، رغم المنع والقمع، وذلك تحت يافطات متنوعة، فرض تغييرها صموده من أجل الأفضل للبلاد.
أحمد بورة، ابن الطبقة الشعبية التي ظل ملتصقا بها، بهمومها ونضالاتها وأحلامها، بادلا لها من ذات نفسه كل ما يستطيع أن يبذله المواطن الصالح لوطنه، وجاعلا من صدر الطبقة الكادحة، في أشد لحظات النضال قتامة، متكئا لينا يلقي رأسه عليها فيجد فيه برد الراحة والسكون.
من معين هذا المناضل، ومن  تفاصيل حياته الشخصية، نقدم لقرائنا هذه الحلقات التي حاولنا صياغتها على شكل قصص وروايات وأحداث، وأحيانا طرائف ومستملحات، لتعميم الفائدة ولتسجيل أوراق شاهدة على مرحلة من تاريخ ما بعد استقلال المغرب.

روعة فوائد المِحن ومنافعها

إن المتتبع لشخصية أحمد بورة منذ الطفولة، والقارئ لسطور حياته أيام الاغتراب وهو لايزال مراهقا متشبثا بحب والديه وراغبا في التضحية من أجلهما، يلمس روعة فوائد المِحن التي لاقاها هذا الفتى ومنافعها. محن ومصاعب تكشف لنا قدرات أحمد بورة وتوضح كيف كانت هذه العقبات تحشد طاقاته. كان لشخصيته قيمة حقيقية، فاحت بعبق شذاها عندما تعرّضت للضغط، شأنها في ذلك شأن الأعشاب العطرية.
واجه بورة الشدائد والمحن فاكتسب منها القدرة على المضيّ قدماً وتحقيق أهداف عظيمة. بينما سمح الآخرون للشّدائد أن تغرقهم في الوحل.
كل يواجه الإخفاق بطريقته الخاصة.. يتماسك وينطلق ثانية على طريق النجاح، قاهرا الفقر والمحن، متعلما من أخطائه متابعا مسيرته الظافرة. عندما ترهف السمع لأحمد بورة وهو يتحدث عن حياته، تدرك منه المعنى الحقيقي للشدائد التي تجعل الإنسان يتذمر تحت وطأتها. هذه الشدائد بالنسبة له لا تعدو أن تكون مثل الألم الناجم عن ثقب أذن الحسناء، حيث تّعلَّق الجواهر الثمينة مكان الجرح.
دروب الحياة جمعته بمشيئة من الله برجال علموه ألا يدير ظهره للمستقبل مهما بدا الأمل في بلوغه ضعيفا، وأفهمته الأيام أن كل أشواط التحصيل التي قضاها بعيدا عن الأهل والأحباب لا يجدر به أن يلقي بها للرياح بمجرد مواجهته للحظة انكسار أو تعثر.
بالنسبة لأحمد بورة، تُخاض معركة الحياة على طريق صاعد، وأن نربح هذه المعركة من دون صراع قد يعني أن نربحها بلا شرف. لو لم توجد المصاعب لما وُجِد النجاح ولو لم يكن هناك شيء ما نكافح من أجله إذن لا يوجد شيء ننجزه. قد تثير المصاعب هلع الضعفاء، يقول أحمد بورة، لكنها تشكّل حافزاً مفيداً لأصحاب العزيمة والشجاعة. متى اعترضت هذا الفتى المصاعب، كان يقول أن عليه الخروج لمواجهتها مهما كانت الظروف. لأنَّ مواجهتها تمرّن قواه، وتصقل مهاراته، وتزيده صلابةً من أجل حياته المستقبلية.
كانت منحته بالكاد تكفينه من أجل تغطية مصاريف حياته اليومية، ورغم ذلك اعتبر نفسه محظوظا جدا لأنه وفق في الحصول على بعض المال مقابل خدمات المداومات الليلية بالمراكز الصحية والتي كانت تذر عليه شهريا ضعف منحته الجامعية .
وحتى بعد نيله دكتوراه الدولة الفرنسية في الطب، كان يعوض أطباء القطاعين الخاص والعام بالمستشفيات والمصحات، زيادة على استمراره في القيام بفترات مداومة ليلة بأقسام المستعجلات، وتمكن من الحصول على دبلوم مسعف وخضع لتكوين في الإسعاف والإنعاش الطبيين وهي شواهد رفعت من مستوى عيشه بديار الغربة لأن خدمات الإسعاف الليلة مجزية جدا، ولولا تلك العائدات الموازية لوجد صعوبة كبيرة في متابعة دراسته التخصصية.
قضى أحمد بورة السنة الأولى والثانية منكبا على الدروس التي تقدم له من طرف هيئة تدريس عالية المستوى، وما إن ينتهي بروفيسور من تقديم عرض من العروض التي دونها حتى ينهمك، بورة وزملاءه طلبة دفعته في مراجعتها وتدقيق تفاصيلها، ولا يشغله عن أداء واجبات مذكراتها أي شيء عداها.
وعند اقتراب مواعيد الامتحانات، تراه يستعد لصولاتها وجولاتها بكل ما أوتي من قوة حفظ وتخيل وفهم لجزئيات مقررات الاختبارات، وإعداده لها يبدأ من منافسته الشريفة لزملائه على احتلال المراكز الأولى كخيول السباق التواقة للتميز.
امتحانات هذه المرحلة كانت تبرمج ويجتازها أحمد بورة بمدينة ليل لأنها مقررة فقط على المستوى المحلي، وخلال السنتين كان الأستاذ كلود هورييز، عضو الأكاديمية الطبية الفرنسية، مصرا على إلزام أحمد بورة وزملائه بالحضور والمشاركة في جميع المؤتمرات الطبية التي تعقد بكل من فرنسا وبلجيكا، للنهل من زاد علمي متين وتكوين أكاديمي صلب، ما يسهل عليهم اجتياز امتحانات السنة الثالث التي تنظم على المستوى الوطني.
لم يكن لكلمة الحظ مكان بقاموس أحمد بورة الذي أدرك منذ صغره أن التقدم يتحقق من خلال السلوك الجيد الثابت والحماسة الصادقة، والنشاط والمثابرة من خلال توطيد العزم على التغلب على المصاعب ومواجهة الحظ العاثر. الإرادة والمثابرة وقوة الإيمان وحدها كانت مرادفات مسيرة النجاح. وبفضل هذه القناعات تمكن أحمد بورة من إحراز المرتبة الخامسة وسط الفرحة الكبرى لعرابه الأول الأستاذ هورييز، وما كان توفيقه إلا بالله ورضا الوالدين، فما أصابه من خيره ونعمته ما كان ليخطئه. وما تجاوزه من فشل ورسوب ما كان ليصيبه. فلله الحمد الذي يوافي نعمه ويوازي كرمه و “اللهم لك الحمد حتى ترضى ولك الحمد إذا رضيت ولك الحمد بعد الرضى” .
على هذا المنوال انتقل لسنوات التخصص، فقد كان مسموحا أيامئذ للحاصلين على دكتوراه الطب الشروع في مرحلة التخصص مباشرة بعد مناقشة الأطروحة. وفضل أحمد بورة  حينها أن يتدبر مصادر دخل شريفة أخرى تتيح له فرصة عيش كريم وتساعده على توفير بعض المال للأيام العصيبة.
ومن أحداث المرحلة الجديرة بالتسجيل أن ولوجه مرحلة التخصص جاء متقدما بسنة عن حصوله على شهادة دكتوراه الطب. ولما نالها، كان أستاذه كلود هورييز هو المسؤول الأول عن قسم الأمراض الجلدية والتناسلية، وبما أن المنحة كانت قد توقفت بمجرد نيله شهادة الدكتوراه فقد اقترح على البروفسور هورييز أن يجتاز اختبار رئيس مصحة ليلحقه بالقسم الذي يرأسه.
بعد شهر من القرار كلل اختبار أحمد بورة بالنجاح، وسعد بانتسابه لفريق قسم الأمراض الجلدية كرئيس مصحة و 8000 درهم كراتب شهري، وحتى يتأتى له مواجهة مصاريف الحياة اليومية الآخذة في الازدياد، اقترح عليه رئيسه أن يقدم دروسا ومحاضرات في الأمراض التناسلية يخص بها الجالية المغاربية المقيمة بمنطقة نوربادوكالي Nord pas de calais، المعروفة بكثافتها السكانية، وارتفاع عدد العمال الأجانب خاصة منهم المغاربيين الذين جذبتهم إليها مناجم هذه الناحية منذ بداية القران الماضي.

 إعداد: مصطفى السالكي

Related posts

Top