الشاعرة مليكة فهيم: أتفاوض مع الكلمات بحثا عن صوت خاص في الكتابة وعن معنى أكثر اتساعا

سنوات طويلة والشاعرة مليكة فهيم تصغي لهدير الشعر الدافق. كان ماء النص الشعري الجميل يلامسها بكثير من شغف قراءته حتى تولد لديها شغف الكتابة الشعرية، ونضجت تجربتها الشعرية في المرحلة الجامعية، حيث نشرت العديد من نصوصها الإبداعية في ملحقات ثقافية لجرائد متنوعة مغربية وعربية.

 لا تمتلك الشاعرة مليكة فهيم أي طقوس للإبداع، ولا تتحكم في اختيار زمنها، لكن حين يحضر هدير قلقها الداخلي، حينئذ تلزم عزلتها وتباشر فعل كتابتها. تكتب لكي تتحرر من ضجرها.

 تكتب لتنتصر على النسيان..

 فيما يلي نص الحوار.

* في البداية، الشاعرة مليكة فهيم، كيف ومتى تولد لديك شغف الشعر؟

 – سنوات طويلة وأنا أصغي لهديره الدافق، شلالات، وأنهار، وإشراقات، ونداءات، وحدوس، ونوتات وصمت. كان الشعراء يبدون لي مثل مخلوقات تنتمي إلى مجرات بعيدة المنال، وهي تخلق عوالمها السحرية باللغة. وكم كان يلامسني ماء النص الجميل المختلف.

 بالكثير من شغف القراءة، تولد لدي شغف الكتابة؛ كنت قارئة نهمة، رغم أنني لا أنحدر من أسرة لها تقاليد وطيدة بالكتاب. وأتذكر أنني كنت أحشو لائحة الكتب المدرسية بعناوين لروايات نجيب محفوظ وإحسان عبد القدوس وجبران خليل جبران وطه حسين، وكتب نوال السعداوي ونزار قباني ومحمود درويش والعقاد، وأسماء كتاب تنتمي إلى الحركة الأدبية المغربية المعاصرة بمختلف أجناسها. في الفترة الجامعية نشرت بعض النصوص الشعرية على صفحات بعض الجرائد المغربية  . كما شاركت بقراءات شعرية في الأسابيع الثقافية التي كانت تنظم برحاب كلية الآداب والعلوم الإنسانية بعين الشق/ الدار البيضاء. وتبعا لما سبق ذكره، لم يكن بالصدفة أن يتم اختياري لموضوع بحثي في سلك الاجازة عن الشعر المغربي المعاصر، تحت اشراف الشاعر المغربي محمد الشيخي، بحيث كان مناسبة لتعميق الدراسة حول التجربة الشعرية المغربية المعاصرة.

* متى تكتبين؟ وهل لك طقوس خاصة للكتابة؟

– لا أنتهج طقسا معينا عند الكتابة، ولا أتحكم في اختيار زمنها، خاصة أن الوظيفة تلتهم القسط الأوفر من وقتي. وكم أغبط الكتاب الذين يجعلون من الكتابة طقسا يوميا. لكن عندما يحضر هدير قلقي الداخلي، ألتحف عزلتي وأنزل سلم ذاتي العميقة وأكتب، سواء بالنهار أو بالليل. وأخط مسوداتي على الورق، قبل أن أنقل ما كتبت على حاسوبي، لتبدأ مرحلة الهدم والبناء. والأهم من كل ذلك، أن أستشعر حضوري وأتلقف شرارة / إشراقة الشعر في اللحظة المناسبة.

* لماذا تكتبين؟ ولم اختيار الشعر وليس جنسا أدبيا آخر؟

– أكتب لكي أتحرر من ضجري، لكيلا أصرخ .. أكتب لأنتصر على النسيان، لأدون خطواتي في هذا العالم وأنا أصطدم بمأزقي الأنطولوجي. أما عن سؤال لماذا الشعر وليس جنسا أدبيا آخرا، فأعتقد بأنه وحده بالشعر، باعتباره سفرا نفسيا وروحيا، وباعتباره إشراقا لغويا ورؤية، يُمَكِّنُنِي من تفجير مخاوفي واستلهام أفراحي وحدوسي التي تقودني إلى أمكنة ومغارات غامضة وسرية في أعماقي.

* هل تعتقدين أن زمننا زمن الشعر في عصر كثر فيه التهافت على الماديات، وتفجرت فيه عبقرية التكنولوجيا المعلوماتية بإثارتها المدهشة؟ 

 – الوجود لا يكون وجودا إنسانيا بغير الشعر. إنه ضرورة واحتياج. لذلك، يعلن حضوره في كل الجغرافيات وفي جميع اللغات. الشعر هو اللغة البدائية الأولى، هو أصل اللغة ومنبع الحضارة. وحده الشعر يجعل اللغة ممكنة، ولكي ننعتق من التأويل التقني للفكر، علينا بالتفكير في الشعر باعتباره تأسيسا للوجود، كما يقول هايدغر. بالشعر نكشف المجهول الذي نتخيله ونتوقعه ونحلم به ونستشرفه.  ورغم الطابع الاستهلاكي الذي يطبع حياتنا المعاصرة، ورغم انفجار الثورة الالكترونية، التي خلقت بدائل محل الكتاب، الشيء الذي كان له أثر سلبي على القراءة والكتابة، ورغم تدني مستوى التعليم وطنيا وعربيا وإكراهات دور النشر وتفشي الحروب والأوبئة، لا زال نهر الشعر يواصل جريانه ولا زال الشعراء يقترفونه وهم يقفون بابتهال وراء حضوره المدهش. ثم ان الشعر لم يكن يوما جماهيريا، بل كان نخبويا على الدوام.

* لكل كاتب أو كاتبة قدوة في مسيرته الإبداعية فبمن تأثرت الشاعرة مليكة فهيم؟

– دوما كنت مندهشة من قدرة الكلمات على صنع الحياة، بكل تلويناتها الأجناسية، وكنت أغبط الشعراء بشكل خاص، وهم يطرزون مسكنهم الشعري بلغة مثخنة بالتخييل والهشاشة والعمق والطفولة، حسب ذائقتهم الشعرية وحسب حساسية عصرهم، وحسب فرادة تجربتهم الشعرية؛  من امرئ القيس، تأبط شرا، الخنساء، أبو نواس، أبو تمام، المتنبي، المعري، وفي العصر الحديث، من بودلير إلى رامبو، ملارميه، إليوت، إدغار آلن بو، هولدرلين، سيلفيا بلاث، جويس منصور، أبو القاسم الشابي، السياب، أدونيس، محمود درويش، أنسي الحاج….والتجربة الشعرية المغربية من خلال أسمائها المضيئة التي تركب صهوة الينابيع التي لا تنتهي. أظن أن كل هذه الأسماء تفتح الطريق لاكتناه ضوء اللغة الشعرية في جريانها الممتد دائما وأبدا، تركت شذى عطرها الجمالي والمعرفي على ذائقتي، باعتباري قارئة بطريقة أو بأخرى.

 * ما رأيك في دور المثقف سياسيا داخل بلده؟ 

 – المثقف مفهوم لا يتسم بالسكون والتحجر، بل هو مفهوم مرن، متغير وزئبقي. عموما، كان المثقف دائما يشكل فئة ضئيلة، تمثل ضمير الإنسانية، تعمل كل ما في وسعها للمحافظة على القيم المطلقة، هو المندفع نحو مبادئ الحق والعدل، يسعى على الدوام إلى فضح الفساد والدفاع عن المستضعفين ومواجهة السلطة عند الضرورة. وكان الهدف من ذلك ترسيخ مجتمع العدالة الاجتماعية والسياسية والثقافية. لكن بظهور المثقف المتخصص بدل المثقف العالمي تغيرت الأمور.

 اليوم، تضاءل الالتزام السياسي. كان المثقف بالمغرب بشكل خاص، تابعا للحزب السياسي، باعتباره خيارا ثوريا تمليه طبيعة صراع اليسار مع النظام، أيام كان هدير الفكر الماركسي قويا، وعندما شاركت أحزاب اليسار في تجربة التناوب، أنتجت الفترة مثقفا يحس بالاغتراب لأنه لم يكن يملك قراره المستقل. خاصة بعد فشل الحزب في تدبير الحكم، فاسحا المجال للفكر الأصولي للمشاركة في تدبير الشأن العام.

 مفهوم السلطة كان يستدعي مفهوم المقاومة كما نظر له إدوارد سعيد ” لقد كان المثقف يقول الحقيقة للذين لم يكونوا يرونها، ويتحدث باسم الذين لا يستطيعون قولها”. ورغم خفوت صوت المثقف الذي لم يستطع أن يهزم الاستكانة والتطبيع، أنا مقتنعة بأن المثقف ليس تصويبات وتنويعات لغوية فقط بل هو حضور واع في الزمان والمكان، وموقف ورأي وفعل ثقافي متجدد حامل لقوة اقتراحية ومشاريع وأفكار تتوجه نحو المستقبل بثقة.

* ماذا عن المواكبة النقدية للأعمال الأدبية وخاصة الشعر؟ 

– بعد انقراض صفة الشاعر الذي يحظى بالشهرة الإعلامية من مشهدنا الثقافي الراهن، نلاحظ بأن دائرة الكتابة النقدية تضاءلت، ولم تستطع تسليط الضوء على ما يكتبه جل الشعراء اليوم، هناك فقط بعض القراءات التي تغلب عليها اللغة الانطباعية، ولا تقارب ماء التجربة الشعرية بشكل عميق. هي مقاربات يمكن تطبيقها على الشعر العربي المعاصر برمته، مع استثناءات ضئيلة. هناك تجارب شعرية قيمة، زاوج أصحابها بين متعة ودهشة المكون الجمالي وبين المكون المعرفي الفكري والصياغات المبتكرة. أستطيع أن أقول بأن هناك تجارب شعرية مغربية وعربية لا تقل أهمية عن التجارب العالمية، والتي تتشكل وفق حساسية كتابة جديدة ووعي جديد، مدرك لمرحلته التاريخية رغم كل ما يروج له.

* كيف تلامسين اليوم تجربتك الشعرية، بعد مسار متميز لتوقيع حروف كتابة إبداعية؟ 

– تجربتي الشعرية تجربة، أحاول الإنصات إلى دبيبها، قصد تشذيبها وإغنائها بالقراءة المتواصلة والمعرفة والتجربة. أحاول أن أتفاوض مع الكلمات، بحثا عن صوت خاص في الكتابة وعن معنى أكثر اتساعا، يكتبني ويكتب نشيد الوجود البعيد، ويجدد نسوغ جريان الحياة بألمها وفرحها ودهشتها. هي كتابة تنتصر لقيم الجمال والحب والحرية. الكتابة عملية شاقة جدا ومنهكة، كلنا صغار أمامها، وواهم من يستسهلها.

حاورها: عبد الله مرجان 

Related posts

Top