يوميات نادل.. -الحلقة 6-

غير سوي

يتوقف المهدي عن نقاش الماركسية وأدبياتها، ليضع حدا لهذيانه الصارخ، بعدما تذكر أمه التي لفظت أنفاسها تحت الأنقاض، ورحلت إلى وطن النائمين طويلا، في حادث مأساوي لازالت ذاكرة سكان بلدة دبدو تحتفظ به.

اغرورقت عيناه، وأجهش بالبكاء، داعكا علبة السجائر بين أنامله بمرارة ذاك الذي خسر كل شيئ.

“صعب هو فراق الأم، والأصعب هو أن لا تجد من يقاسمك هذا الألم، ويخفف عنك قسوته، ومن المستحيل أن تنسى أما كنت تحبها، وتعتبرها سببا لسعادتك يوما ما.”، هي الكلمات التي انسابت بصدق وفي لحظة وعي عابر من بين شفتي المهدي.

أعلم أن غياب أمه لا يقتله، بقدر ما يعذبه تمرد قلبه بالحنين إليها، لذا ومن باب التفاعل معه ومواساتي له، نصحته أن لا يحاول البحث عن حلم خذله يوم ظن أن أميرته ستلازمه ما عاش، وأن يحاول أن يجعل من حالة الانكسار هاته، تأسيسا لحلم جديد.

لم يعر إسهامي المتواضع هذا أي اهتمام، ولم يكلف نفسه عناء التعليق على ما اعتبرته نصيحة أقدمها له، علها تخفف من وطأة القسوة التي غدت عنوانا له.

جرعه فقدان والدته ألما عظيما، كيف لا وهي التي حضنته ونشأ في ظلها، حتى اشتد عوده .

تراجيديا، جعلتني أغفل عن خدمة الزبناء، شاردا وأنا أتتبع فصول تلك الدروس القاسية التي لقنتها الحياة للمهدي، الذي تنكر له الكل.

أتركه يسبح في مستنقع شجنه، لأغادر الطاولة التي جمعتني به لوقت ليس بالقصير.

وأنا أسعى بين الكراسي طائفا من ركن إلى آخر، أخدم الرواد، يناديني.. أتجاهله دون أن أنظر إليه.

يكرر النداء لمرات دون كلل، وبطريقة أثارت الزبناء، الذين أيقنوا أن ذاك الذي يعرفني غير سوي.

تجاهلي له، وأنا منهمك في الخدمة، لم يثنه عن القيام والقعود خالقا لشوشرة ملحوظة، غير مبال بأحد.

قائما تارة، وقاعدا أخرى يصارع ذاته.

من محفظته الأشبه بالسمل، يسحب المهدي كومة من الجرائد القديمة، وشطائر بيتزا تبدو من مظهرها أنها قد خزنت منذ زمن بعيد.

يقضم من زاده، ثم يعيده من حيث سحبه، يلوكها بفمه الجاف ثم يلفظها في حركة أثارت أعصابي، ودفعتني لأتقدم نحوه طالبا منه الانسحاب في صمت، حتى لا يفرض علي إيقاعه .

يستجيب دون أية ردة فعل، معتذرا عن حركته الشاذة.

لملم جسده المتهالك، وتأبط محفظته التي لا يغفل عنها وكأن بها وثائق حساسة أو كنز ثمين.

غادر بخطوات مبعثرة، وهو يخنق آخر ما تبقى من أنفاس سيجارة.

“موعدنا في دبدو رفيقي “.

 كانت هي الكلمات الأخيرة التي قالها “الزائر الضوضاء”.

مستعجلا رحيله، لم أكن أرغب أن أفسح له المجال من جديد ليبدأ شوطا جديدا من الجنون عابثا بأعصابي.

بقلم: هشام زهدالي

 كاتب وإعلامي

Related posts

Top