إن من ينتحر ليس بالضرورة إنسانا يكره الحياة، بل إنه يحبها بشدة، غير أنه لم يجدها كما كان يتمناها. العديد ممن اختاروا أن يضعوا حدا لحياتهم تركوا رسائل ذات معنى بليغ، ومنهم من لم يترك أي رسالة، لكن انتحاره كان في حد ذاته خطابا
. بليغا إلى من يهمه الأمر
العديد من الأدباء والمبدعين المغاربة والعرب وجدوا أنفسهم ذات لحظة يأس
. وإحباط؛ مرغمين على توديع الحياة رغم حبهم الشديد لها
ضمن هذه الفسحة الرمضانية، سيرة لمجموعة من هؤلاء المعذبين على الأرض، إلى
جانب نماذج من إنتاجاتهم الإبداعية، تكريما لأرواحهم الطاهرة
الشاعر نضال غريبي : تفصلني خطوة عن اللاشيء
مساء الثلاثاء 27 مارس 2018 انتحر شنقا في منزل عائلته بمعتمدية بوحجلة التابعة لولاية القيروان.
ترك الشاعر التونسي نضال غريبي، الحاصل على شهادة جامعية والعاطل عن العمل، على صفحته بموقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك” رسالة وداع مؤثرة لحظات قبل إقدامه على الانتحار، فيما يلي نصها:
“أنا الآن لا شيء، تفصلني خطوة عن اللاشيء، أو فلنقل قفزة، غريب أمر الموت ما أبخس ثمنه، دينار ونصف الدينار ثمن الحبل، وبعض السجائر، غريب أمر الحقيقة، ما أبخسها ثمنها لكننا لا نرى، نملأ أبصارنا وبصائرنا دومًا بالأوهام، حتى تصير الحقيقة تفاصيل لا نراها.
نحن لا نرى غير ما نريد رؤيته، لا نرى من الأخضر غير يابسه حتّى تختلط علينا الألوان، ومفاهيمها، شأننا شأن أحبّتي، الذين رغم تواضعي يظنّون أنّني عيسى، فإذا ما صدّقوا ما ادّعوا، اختلط عليهم الأمر، فراحوا لا يفرقون بين القلب والمعصم، وصارت أوتادهم تنهمل على صدري كسهام الوغي.
غريب أمرهم، بل غريب أمركم جميعًا إذ تظنُّون بموتي أنّني أناني، لكنني في الحقيقة أبعد ما يمكن عن الأنانية، دققوا في التفاصيل، لو كنت كما تدّعون لكنت التهمت ما استطعت من أدوية أمي المريضة ورحلت، لكنني أعلم على يقين أنّ عائلتي المسكينة ستنصرف إلى مراسم دفني وقبول التعازي، وسينسون بالتأكيد أن يشتروا لها دواء بدل الذي دفن في معدتي، لكنني لم أفعل، لو كنت بالأنانية التي تدّعون، لكنت رميت بنفسي أمام سيارة على عجل، أو من فوق بناية عالية، لكن، حرصًا مني أن لا تتلف أعضائي، التي أوصي بالتبرع بما صلح منها، لم أفعل.
سادتي، أحبّتي، عائلتي المضيّقة والموسّعة، أوصيكم بأنفسكم خيرًا، وبأولادكم حبّا، أحبّوهم لأنفسهم، لا تحبّوهم لتواصل أنفسكم فيهم، اختاروا لهم من الأسماء أعظمها وأرقاها، وكونوا شديدي الحرص في ذلك فالمرء سادتي رهين لاسمه، شأني، أمضيت عقودي الثلاثة بين نضال وضلالة وغربة، علّموا أطفالكم أنّ الحبّ ليس بحرام، وأنّ الفنّ ليس بميوعة، لا تستثمروا من أجلهم، بل استثمروا فيهم، علموهم حب الموسيقى والكتب. السّاعة الآن الرابعة بعد الظهر، من السابع والعشرين من مارس ثمانية عشر وألفين، أفارقكم عن سن تناهز أسبوعين وأربع أشهر واثنين وثلاثين سنة، أحبكم جميعًا دون استثناء، وأخص بالذكر هيرا، تلك العشرينية. إيناس، تلك البريئة التي شيطنتها الحياة وحبي”.
***
مقاطع من إبداعاته
قالت الخيبة ذات موتٍ
أوصيك بالموت خيْرَا، مادُمتَ حيَّا
أوصيك بفرحك، بحرفك
اعصر من مدامعه لونًا للحجارة
مُرِ الزمان أن لا يلتفَّ، علينا
مُرِ المكان أن لا يلفَّ، إلينا
اسكب من كأسك يأسك صباحًا
ولا تخف
في المسا، جد أناكفي المسا، جد مناك.
***
أنا والقليل مني
أُلَمْلِمُ الكثير من الشوق وأناجي المساء
أبكيه وأحكيه
عن سقوطي خوفًا من ثرثرة الأنفاس
أعاتبني، كيف لي بالسقوط وأنا لم أغِبْ عن ناظري برهة؟
وأبتسم
سحقا لعالم حَمَّلَني البعض مني
حَمَّلَني أحلاَمًا ثمَّ جعلني أبصر
فأحمل أمتعتي وأرحل
آهِ يا مساء.
***
من سوء حظّيَ أَني نجوت مرارًا
من الموت حبًّا
ومن حُسْن حظّي أنّيَ ما زلت هشًّا
لأدخل في التجربة
يقول المحبُّ المجرِّبُ في سرِّه
هو الحبُّ كذبتنا الصادقةْ
فتسمعه العاشقة وتقول:
هو الحبّ، يأتي ويذهبُ
كالبرق والصاعقة.
***
وقفتُ أمام منفايَ
مرتبكًا
أرقُبُ ظلَّها الذي يتعقَّبُني
من وراء نجواي
يلُفُّ معي الطُّرُقات
يقاسمني بارًا في أقصى المدينة
والرَّتل الخفيف
والأزقَّة
حتَّى انتهينا إلى شقَّتي
قاسمته وجلي في قصيدة.
> إعداد: عبد العالي بركات