أكاديميون مغاربة يقاربون علاقة الفلسفة بالأدب

 نظم مختبر السيميائيات وتحليل الخطابات الأدبية والفنية مؤخرا بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بنمسيك بالدار البيضاء، بشراكة مع مختبر الفلسفة والشأن العام ندوة وطنية حول موضوع الفلسفة والأدب، وانطلقت الجلسة العلمية الأولى التي ترأسها الأستاذ عبد اللطيف فتح الدين بمداخلة الأستاذ توفيق رشد عن “ضرورة الأدب والفلسفة والفنون” عدَّ فيها المقاومة الوحشية للبشر، والدفاع عن الحياة وتحريرها من الاستبداد المبرر، الأساس لضرورة الفلسفة والأدب والفنون، معتبرا أن الفلسفة ضرورة ملحة، وصراعا ضد الانحطاط على مستوى الفكر والحياة المعاصرة، والحديث عن الأدب والفلسفة هو حديث عن إمكانات التقريب بين الاختصاصات، ذلك أن المشتغل بالأدب  يستعير أدواته من اللسانيات، وعلم النفسّ، وعلم الاجتماع.
 كما تحدث الباحث عن خاصتي الانغلاق والانفتاح في ما يتصل بالعلاقة بين الأدب والفلسفة انطلاقا من أنموذج ابن المقفع بوصفه مؤسسا لشخصية الأديب في الثقافة العربية الإسلامية؛ حيث عدَّ الأدب جوهر الثقافة، نافيا أن يكون ثمة فصل بين الأدب والفلسفة؛ لأن الفلسفة أصل الأدب، مؤكدا في السياق نفسه أن الفلسفة لا تحيى داخل الكتابة الفلسفية فقط، وإنما تتأصل في الكتابة الشعرية والروائية، مستشهدا بميشال سيرل الذي يرى بأن الفلسفة عميقة جدا إلى درجة أنها تدرك أن الأدب أعمق منها، وبهايدغر الذي ميز بين الوجود أو الكينونة وبين الموجود معتبرا أن تاريخ الفلسفة وتاريخ العلوم هو تاريخ نسيان الوجود، هذا النسيان الذي سيستدركه الأدب، وبخاصة الكتابة الروائية كما هو الأمر بالنسبة  لروايات سيرفانتيس وريتاردسون صامويل وبالزاك.
 هذا وقد اعتبر أن موطن الفلسفة هو الكتابة الروائية، لأنهما يشتركان معا في الدفاع عن الحياة، مؤكدا أن الأدباء الكبار هم دائما فلاسفة كبار، أمثال الفيلسوف رونو فيي  وفيكتور هيكو، ولافونتين. وخلص في الأخير إلى أن الأدب والفلسفة يرجعان معا إلى الكتابة باعتبارها تأسيسا لويغة داخل اللغة، مشيرا إلى أن الكتاب الكبار هم الذين صنعوا لأنفسهم  لويغة خاصة بهم.
 ثم أعطيت الكلمة للأستاذ عبد الباقي بلفقيه الذي قارب علاقة الأدب بالأنثروبولوجيا من خلال مبدأ الغيرية، الذي تتأسس عليه الأنتروبولوجيا، والذي يتعارض مع النزعة العلمية التي تتأسس على الموضوعية والجدية والكفاءة، والتي دفعت بالأنتروبولوجيا والإثنولوجيا إلى تجنب الأدب بحكم تواجدها في خانة العلوم، لكن هذا الحقل سيشهد ثورة وآخرها هي ثورة 1968 التي تفاعلت على إثرها الفلسفة الجديدة مع الأدب والفن، والأنتروبولوجيا مع الأدب، وقد ذكر في هذا الصدد مجموعة من الأسماء التي كان لها تأثير قوي على الوسط الذي كانت تتواجد فيه وتتفاعل معه، وفضل كبير في الابتعاد عن النزوع العلمي وإبراز العلاقة مابين الأدب والاستطيقا والأنتروبولوجيا أمثال جورج باتاي، روجي كايوا، وميشال موريس، مشيرا إلى أن هذه الانفتاحة ستخفت في نهاية السبعينيات، ليظهر منهج سيرة الحياة التي يمتزج فيها الفعل الذاتي مع ما هو اجتماعي، والتي ستخفت بدورها بسبب خضوعها لبعض الإكراهات.
 ثم انتقل بعد ذلك إلى الحديث عن الكتابة الأنتروبولوجية، مختصرا العمل الأنتروبولوجي في إنتاجه لثلاثة أنواع من النصوص المترابطة والمتداخلة فيما بينها، الأول وصفي يسترجع الوقائع، والثاني يساهم في عملية فهم الوقائع والثالث يخص اللغة، مميزا في الأنتروبولوجيا بين نوعين من الكتابة: كتابة عالمة تكتسب من التعلم، وكتابة ذاتية تغرف من الخيال، معتبرا الرواية الأنتروبولوجية جنسا يتموقع في الكتابة الذاتية التي تغرف من الخيال الذي يعنى بالجزئية الملموسة التي ليس في متناول النص العالم الاهتمام بها، على عكس الرواية الإثنولوجيا التي يتحول فيها الكاتب أو الروائي إلى سوسيوغرافي أو اتنوغرافي والنص العالم إلى نص أدبي؛ ومثل لها هنا بدفاتر إميل زولا. ويعتبر المقالة من بين العناصر المؤثثة للكتابة الذاتية لأنها هي التي تمكن من عدم الخضوع للإكراهات التي يفرضها النص العالم على المتلقي، وتعطي إمكانية التعبير عن الحدوس والتأويلات اللانهاية، لأنه يتقدم بكتابته إلى النقاد. مؤكدا على أن هذه المقالة تقرأ في الغالب على أنها نص استشرافي يكشف عن قيمة وأهمية الكلمات وفكر الكتابة في نشر المعرفة خارج حدود أصحاب الصنعة، محددا وجهته في موارد الكتابة. ليخلص في الأخير إلى أن الأنتروبولوجيا لا تختلف عن الأدب، لأنها بحث مستمر ودائم عن التجديد فيما يخص التجربة الإنسانية في شموليتها وسيرورتها المستمرة.  
  وحاول الأستاذ عبد الرحيم جيران في مداخلته الموسومة ب “باشلار والذاكرة في الرواية” أن يعالج مسألة الذاكرة في الرواية انطلاقا من تصور باشلار، مشيرا إلى أن محاولته لا تهدف إلى البحث عن باشلار في الرواية، وإنما كيف حاورت نصوص الروائية علوية صبح بشكل مباشر أو غير مباشر تصور غاستون باشلار، الذي نظر إلى الذاكرة من وجهة نظر ماركسية تقول بعد استمرار الزمن وبكون الحاضر هو الزمن الحقيقي الذي ينبغي عده الأساس في تفكر الزمن والهوية وارتباطهما بالحلم، مؤكدا على أن الخلفية الزمانية الباشلارية حاضرة في رواية علوية صبح من خلال فعل الاستذكار الذي يقوم بشكل عام على اللحظة المكثفة للزمن التي تحضر فيها الجدلية التي تحدث بين الولادة والموت، والتي يعكسها زمن التلفظ الحاضر، فهذا الزمان يعبر عن حضورها الذاتي لكنها لا تستذكر الماضي، ولا تستجلبه انطلاقا من زمانها الحاضر هي، ولكن انطلاقا من زمان الآخرين الذين تلتقي بهم، إنها تعد زمانا مفتوحا على كل الذاكرة منظورا إليها من زاوية الغد بوصفه زمان القلق، ويشير في هذا الصدد جيران إلى أن هذا القلق هو ما يجعل من حركة الطرد التي تلحق بالماضي تتحول إلى جدب له على عكس ما ذهب إليه باشلار، بحيث تصبح الوحدة هي سمة المستقبل، التي يتم الهروب منها عن طريق البحث عن الآخر لاعتماد ماضيه وسيلة لواجهة هذا القلق. مؤكدا على أن مراجعة الماضي تقوم على محبة الماضي والانفصال عنه في آن واحد، وذلك من خلال جعله على مسافة تنتج عن طريق تخييل الماضي عبر فعل الاستذكار.
   ويقوم فعل الاستذكار أيضا على مبدأ الهوية الذي لا ينفصل عما تحاول الذوات في رواية علوية صبح القيام به من تجديد في علاقتها بنفسها ومع الآخر أو مع العالم، لكن لا يوجد أمام هذه الذوات بكثافة الحاضر ما يجعلها قوة متطلعة، فالتجديد كان من صفات الماضي فقط، وأغلقت ذاكرته نهائيا، ولا مجال لإعادة الكرة بغاية تجريب إمكاناته في الحاضر. ويؤكد جيران في هذا الصدد على أن الذاكرة في رواية علوية أصبحت تعاني من كون المعارف المكتتبة والتي تساهم في انقاد الذات من مخاطر الماضي والحاضر معا هي معارف غير متأكد من حقيقتها، مما يطرح مشكلة علاقة الشخصية بذاتها قبل أن تطرح مسألة حماية نفسها من الآخر، ومن الواقع، مما يفضي إلى افتقار الشخصية إلى سند ذاكراتي معرفي لمواجهة أخطار الحاضر.
  ويرى في الأخير أن الذاكرة وحدها المتمثلة من دون وجود، ما يجعلها منفتحة على الآتي، وما يمكن أن يصطحبه هذا الأخير معه من إضافة، مشيرا إلى أن التأويل الذي يمكن أن نسنده لهذا الانسداد في الحلم أي التجديد، يعد تعليقا للزمن الحاضر بوصفه لحظة، وتعليقا للوعي بانفتاحه على الآتي، فهو يتخذ صفة ثغرة في الزمان من أجل إتاحة الفرصة أمام القوة الخلاقة لكي تجرب نفسها في بناء تاريخها الماضي لا لاستشراف الممكن في بناء الغد.
  وقد ترأس الجلسة المسائية الأستاذ أحمد التوبة، الذي أعطى الكلمة في البداية للأستاذ عبد العلي معزوز ليقدم مداخلته الموسومة بـ “كافكا: من أجل أدب الأقلية”، منطلقا فيها من مفهوم الكتابة بعده منظورا جديدا للإنتاج الأدبي والفلسفي، استعمل من طرف جاك ديريدا من أجل تقويض الميتافيزيقا، أي إن الكتابة لا يمكن أن تتم إلا بتغليب الحرف على الصوت، عكس الأفلاطونية التي تكرس هيمنة الصوت على الحرف. والأفلاطونية كلها استذكار أو حضور يتم عن طريق الصوت، في مقابل النسيان الماثل في دهاليز الحرف أو الكتابة. وتتوهم فلسفات الحضور أن هناك أصلا بدئيا، في حين يعتبر ديريدا أن تاريخ الفلسفة هو تاريخ النسيان، ومن تم تكون الطريق سالكة لتفكيك الهوية والمركزية، ومنها نشأت المركزيات الثلاث عند ديريدا. والكتابة بهذا المعنى هي لعبة لانهائية للعلامات تولد الفوارق والاختلافات وتكسر سياج الميتافيزيقا، ويمهد لظهور نوع جديد من المفكرين لا هم فلاسفة خالصين ولا هم أدباء خالصين بل في تخوم بين الأدب والفلسفة، وأن الكتابة تتيح ما أسماه الأستاذ بالتجارب الحدية. انتقل بعدها الأستاذ معزوز إلى تحديد مفهوم الأدب حسب موريس برونشو، بعده تجربة حدية وانخراط في مخاطرة تفضي بصاحبها إلى العزلة والغرابة، حيث تقع الكتابة بين اللذة والألم، بين الممكن والمستحيل، بين الحد العاثر والحد السعيد. وانطلق الأستاذ في شق ثالث من مداخلته من ملاحظة تهم أبرز الأعمال التي أنتجها كافكا، حيث إنها مبنية للمجهول، نحو رواية المحاكمة والحكم والمسخ. جعل كافكا من ذاته ضميرا غائبا لكي يصل إلى موضوعية المشاعر التي لا تقبل التواصل أو التبليغ، ففي رواية المسخ تمثل الحشرة شخص كافكا، أي إن ضمير الغائب مكن كافكا من بناء عوالم غريبة غير معتادة: واعتبر الأستاذ معزوز أن كافكا فهم معنى الكتابة حين اعتبرها صلاة بما أننا نعثر في الكتابة على المقدس. انتقل بعدها الأستاذ إلى تحديد مفهوم أدب الأقليات، وهو أدب مكتوب من طرف فئات تقع على هامش الثقافة الرسمية، الشيء الذي ينطبق على كافكا، لأنه ينتمي إلى الأقلية اليهودية التشيكية، الذي عمل في مجموع أعماله على إغناء اللغة الألمانية بمدلولات جديدة وإفقارها من المدلولات القديمة وتحويلها إلى لغة قابلة للدلالة على الحدود الدنيا في إطار منطق التوترات.
  وانطلق الأستاذ أحمد الصادقي في مداخلته: “عن العلاقة بين النص والخطاب في الفلسفة والأدب”من سؤال: هل يكتب الفلاسفة والأدباء نصوصا تحمل في ذاتها حقائق ينبغي للمتلقي أن ينصاع لها، أم إنها نصوص تحمل في ذاتها خطابا يثير اهتمامهم؟ يؤكد الأستاذ الصادقي أن كل نص يرغب في أن يفهم من طرف الآخرين، وأن يصير خطابا، يدفع القارئ نحو الانخراط فيما يقوله النص ويرغب فيما يرغب فيه، وهذه الرغبة تجعل من القراءة تتميما للنص، يتم في وعي القارئ ذاته الذي يريد أن يعمق فهمه لذاته من خلال هذه القراءة. وانتقل الأستاذ في نقطة ثانية إلى تحديد العلاقة بين النص والخطاب، فإذا كان الوضعيون يختزلون الخطاب في النص، فإن المدرسة الفرنسية تجعل الخطاب أهم من النص، ومع مانكونو وكوسيط. وتم التفكير في أجناس الخطاب، والأشكال الأكثر عمومية للخطابات التي بفضلها تثير روابط فيما بينها، وذلك بمفهومهما  الخطابات التأسيسية والمؤسسة الخطابية، وهما يسعيان إلى تجنب الخلط بين الآليات التي تشتغل بها الخطابات، وما تقوله الخطابات عن نفسها، وفهم آليات الاشتباك والاستبعاد بينهما، ومع غريماس وكورتيس يتعارض النص باعتباره ملفوظا مع الخطاب، وتبعا لغريماس ينتمي النص إلى نظام التعبير، وينتمي الخطاب إلى نظام المضمون، فالنص من اللسانيات والخطاب من السيميائيات، ويصعد عمل اللسانيات من النص إلى الخطاب، ويصعد عمل السيميائيات من الخطاب إلى النص، إلى شروط إنتاجه وتلقيه. والمهم حسب الأستاذ الصادقي هو أن السيميائيات تهتم بما قبل اللساني واللساني، بخلاف اللسانيات التي تقتصر على اللساني فقط، والحال أن الفلسفة لا تقبل أن تعالج كخطاب ولا كنص نظرا لزعمها التأسيس الذاتي لنفسها قبل أي تحليل يأتيها من الخارج، ونظرا لانشغالها بقول الوجود وقول الحقيقة. وتطرق الأستاذ في نقطة ثالثة إلى تاريخ العلاقة بين الخطابين الفلسفي والأدبي، حيث كانا في الأصل متحدين، يقومان في شكل حكايات وقصائد، فلقد استعمل هرقليتس الاستعارة للتعبير عن فكرة فلسفية تتمثل في صراع الأضداد المولد للانسجام، وقدم بيرمينيدس عرضه عن وجود الوجود وعن عدم العدم شعريا، وقد حصل الانشقاق بين هذين الخطابين مع أفلاطون الذي طرد الشعراء من الجمهورية، لأنهم يقوون الانفعال وهو الجانب الضعيف في الإنسان، ويضعفون العقل وهو الجانب القوي في الإنسان، كما اعتبر أفلاطون الأدب سما يدفع النفس إلى النسيان، كل هذا كان أفلاطون يقدمه في خطاب فلسفي مليء بالاستعارات. وقد أعاد أرسطو للقول الشعري وظيفته في كتابه فن الشعر، وستعرف العلاقة بين الخطابين الفلسفي والأدبي تصدعا عندما تدخل الدين ليجعلهما معا في خدمته، وكان الدين أكثر رفضا للغة الشعر والأدب نظرا لتنافسهما حول الأصل، حيث التزم الشعر، باعتباره كلاما أصليا، بالذاكرة القائمة في خزانة الإلهام. ولما تخلصت الفلسفة في عصر الحداثة من خدمة الدين سعت في ما بعد الحداثة نحو التخلص من العقل التقني مع مدرسة فرانك فورت، ومع غريماس على الخصوص، واتجهت الفلسفة نحو الأدبية، وهو اتجاه سيطغى عليها حتى صار ينظر إلى الفلسفة كشعبة أدبية.
وفي مداخلة الأستاذ عبد اللطيف محفوظ الموسومة بـ ” الفلسفة الذريعية وتأويل النص الأدبي”، عرض في الشق النظري تصور بورس الذريعي،  في شقه الخاص بتمثيل وتمثل الأدلة، وتأويل الأدلة، هذه الفلسفة الظاهراتية التي تنبني على المقولات الفانيروسكوبية المعمول بها في الرياضيات، والتي تمفصل قدرات العقل على إحلال الموضوعات محل الأدلة. عرض بعدها الأستاذ المقولات البورسية، مقولة الضروري ومقولة الوجود ومقولة الممكن أي مقولة الاحتمال التي يمفصلها بورس إلى ثلاثة أنواع: احتمال الاحتمال، ووجود الاحتمال، وضرورة الاحتمال، أو الصورة والرسوم البيانية والاستعارة، وبين الأستاذ محفوظ أن هذه التفريعات، الأخيرة، تتماشى مع التأويل الأدبي؛ ولذلك ركز عليها أثناء قراءته للأعمال التحليلية التي قدمها أبرز المحللين المغاربة، من بينهم محمد مفتاح وعبد الفتاح كيليطو.. موضحا، بالأدلة، الأهمية القصوى للفلسفة الذريعية في إنتاج نقد النقد الواعي بحقيقة صنيعه.

 متابعة: محمد العناز – خديجة السويـــدي

Related posts

Top