الاتحاد الأوروبي ينتقل من الدفاع إلى الهجوم

انتقل الاتحاد الأوروبي من حالة الدفاع عن مصيره المهدد منذ تصويت البريطانيين للانفصال عن التكتل، إلى الهجوم الواسع نحو تعزيز التقارب الذي أصبح يسير باتجاه واحد نحو قيام اتحاد شامل يمكن أن يصبح ذات يوم “الولايات المتحدة الأوروبية”.
فقد طفا أمس الحديث الواسع المنتشر في الأوساط الأوروبية عن تعزيز السلطات الأوروبية وتسريع الاتحاد المالي والمصرفي وتعيين وزير موحد للمالية والتقارب بين قوانين الدول ليصل إلى إعلان رسمي على رؤوس الإشهاد.
وجاء ذلك من أعلى سلطة تنفيذية في التكتل وهو رئيس المفوضية الأوروبية جان كلود يونكر الذي دعا أمس إلى تطبيق عملة اليورو في كافة أنحاء الاتحاد الأوروبي، بما فيها الدول الأكثر فقرا في شرق أوروبا.
ولم يكتف بذلك بل ذهب إلى قضية الحدود المثيرة للجدل بسبب أزمة الهجرة ليغامر بالدعوة إلى توسيع منطقة الانتقال الحر (شينغن) لتشمل كافة الدول الـ27 الأعضاء في الاتحاد، إذا سلمنا بأن بريطانيا ستخرج رغم أن ذلك ليس مؤكدا وسنأتي إليه لاحقا.
كما وسع يونكر طموحات توسيع الاتحاد الأوروبي ليشمل 30 عضوا بحلول عام 2025، حيث تنتظر بعض دول البلقان الانضمام إلى التكتل.
وإذا استرجعنا أزمة برامج إنقاذ 4 دول أوروبية في منطقة اليورو، فإن المقترحات ستثير حتما خلافات بين قادة الدول الكبرى في الاتحاد عند الحديث عن انضمام دول ناقدة للاتحاد الأوروبي مثل المجر أو بولندا للعملة الموحدة، أو انضمام دول فقيرة مثل رومانيا وبلغاريا لمنطقة اليورو.
لكن يجب أن نذكر أن 3 من الدول التي تعثرت خرجت من الأزمة وهي أقوى وأكثر صحة في المعايير المالية من الدول التي لم تتعثر، في حين أن اليونان التي طال مخاضها المؤلم تستعد للخروج بقوة من أزمتها في العام المقبل.
كما أن منطقة اليورو اكتسبت خبرة كبيرة من الأخطاء ويمكن أن تقدم العلاج واللقاحات الآن قبل أن تقع المشكلة.
ويبدو أن أوروبا أصبحت مجبرة على الهروب إلى الأمام منذ صدمة البريكست من أجل إغلاق الأبواب أمام احتمالات تفكك الاتحاد الأوروبي، ولذلك بدأت بالبحث عن سبل الدخول في طريق اللاعودة بزيادة التقارب الذي يجعلها بمثابة كيان سياسي واحد.
وقد أدركت أوروبا أنها لا يمكن أن تمضي إلى الأمام في ظل القيود التي تتطلب إجماع الدول الأعضاء على كل خطوة تتخذها، وهو ما كان يؤكد على مشاكسات ومطالب لا تنتهي من بعض الدول ويعرقل في النهاية معظم خطواتها.
ولذلك أعلنت في قمة في مارس الماضي عن مشروع “أوروبا بسرعات متفاوتة” الذي يعني أن قطار التقارب الأوروبي سيتحـرك ولن ينتظر أحدا، ومن شاء فليركب ومن شاء فليبقى على الرصيف.
ويفتح المشروع الباب أمام الراغبين بتعزيز التقارب ودمج السياسات، وترك المترددين جانبا ليختاروا بأنفسهم سرعة الانصهار في كيان سياسي أوروبي، كي لا يعرقلوا عزم الراغبين بالاندماج.
ويبدو أن أوروبا التي تعرضت لضربات شديدة بدأت تجد أن ضربة البريكست القاسية يمكن تحويلها إلى مكسب بإقصاء العضو المشاكس، وأن قطار الاندماج ما كان لينطلق لولا البريكست.
وإذا مضت أكبر اقتصادات أوروبا مثل ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وإسبانيا في طريق الاندماج بالسرعة القصوى، فستجد البلدان المشاكسة مثل المجر والتشيك وبولندا نفسها أمام خيار ركوب القطار أو التخلف عن الركب. وقد تقفز إلى القطار في اللحظة الأخيرة كي لا تصبح أعضاء من الدرجة الثانية.
وحين ينصهر فريق المتحمسين للاندماج ستزول الفوارق الاقتصادية بين الدول، وسيكون ذلك الكيان قادرا على مواجهة أي أخطار اقتصادية حين تتوحد سندات جميع تلك الدول في سندات أوروبية واحدة ولن يجرؤ المضاربون في الأسواق على تحدي تلك القوة المالية الجبارة.
في الماضي كانت هناك نداءات لترك بريطانيا خارج خطوات الاندماج، لكن لندن تمكنت من دحرها وعرقلة الاندماج الأوروبي. لكن يبدو أن أوروبا تعلمت درس البريكست جيدا ولن تسمح بعد اليوم لأي دولة مشاكسة بمنع انطلاق القطار.
وأصبحت أغلب الدول الأوروبية على قناعة بضرورة عدم انتظار ركوب الجميع في القطار والغرق في المناكفات والمشاكسات التي منعت انطلاقه سابقا وقد تمنعه إلى الأبد. وهي تبدو عازمة على أن ينطلق قطار الاندماج دون انتظار أحد، فمن شاء فليركب ومن شاء فليبقى خارج الركب.
لا يمكن لأي كلمات أن تصف أهمية اندماج ما يصل إلى 23 دولة في كيان سياسي واحد. ومن المرجح أن تسقط الدول المشاكسة اعتراضاتها لتلتحق بالركب المستعد للمغادرة دونها لتشكيل أكبر اقتصاد في العالم يضم ما يصل إلى 500 مليون نسمة.
وفي سيناريو غير مستبعد قد لا تقوى بريطانيا على آلام البريكست، حين تقترب اسكتلندا وايرلندا الشمالية من الانفصال وتبدأ الكثير من المصارف والشركات بمغادرة البلاد. وقد تندم على البريكست بعد فوات الأوان وانطلاق قطار الاندماج الأوروبي.
ويبدو للوهلة الأولى أن التقارب الأوروبي سيزيد ابتعاد وانفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي، إلا أن تعزيز تماسك الاتحاد الأوروبي وإصلاح مواطن الخلل قد يرفعان الثمن الباهظ للبريكست ويوسعان قاعدة الرافضين للانفصال داخل بريطانيا.
فتزايد قوة الاتحاد الأوروبي، الشريك الاقتصادي الأكبر الذي لا يمكن لبريطانيا التخلي عنه، سيجعل موقف بريطانيا ضعيفا في مفاوضات الطلاق القاسية.
وفي هذه الأثناء يقود الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بـدعم ألمـاني جهود إصلاح قوانين العمل داخل الاتحاد الأوروبي الذي تقوده فرنسا وألمانيا للحد من إغراءات انتقال العمال من شرق أوروبا إلى غربها.
وتتيح قواعد حركة العمالة في الاتحاد الأوروبي حاليا إمكانية انتقال الأشخاص للعمل من دولة إلى أخرى في نطاق الاتحاد الأوروبي دون أي قيود وهي من أكبر هواجس مؤيدي البريكست.
وتسعى مقترحات ماكرون لمكافحة إغراق الأجور في دول الاتحاد الأوروبي من خلال وضع تشريعات تزيل الإغراءات والحوافز التي تدفع العمال للانتقال من بلدان شرق أوروبا إلى بلدان غرب أوروبا مثل بريطانيا وألمانيا وفرنسا وهولندا للحصول على أجور أعلى.
ومن المتوقع أن يؤدي تقليص إغراءات انتقال العمال إلى تعمق الجدل في بريطانيا وإطفاء هواجس مؤيدي البريكست من تبعات الهجرة الكثيفة، ما يؤدي إلى انحسار قاعدة مؤيدي الانفصال وحدوث انقلاب في الرأي العام البريطاني والعودة إلى البيت الأوروبي.
بقلم: سلام سرحان* *كاتب عراقي

Related posts

Top