أعاد اجتياح أنصار دولاند ترامب الرئيس الأمريكي المنتهية ولايته لمبنى الكونغريس بواشنطن، إلى الأذهان سوابق مماثلة، وإن اختلفت سياقاتها وحدتها وتداعياتها أيضا على الممارسة الديمقراطية، لكن ما كان يجمعها يتمثل في ممارسة العنف والتهديد في محاولة الالتفاف على الديمقراطية وتقويضها، وعم الامتثال إلى ما تفرزه صناديق الاقتراع خلال الانتخابات.
وإذا كانت الأوساط السياسية الامريكية والدولية قد أجمعت على إدانة اجتياح العشرات من المتظاهرين من أنصار ترامب للكابطول “بيت الأمة” بواشنطن في الوقت الذى كان مجلسا النواب والشيوخ يعقدان جلسة مشتركة للمصادقة على انتخاب جو بعد فوزه رئيسا جديدا للولايات المتحدة الأمريكية، فإن هذا السلوك الغير مسبوق منذ سنة اجتياح القوات وصف بأنه يشكل تهديدا للديمقراطية الأمريكية العريقة التي مر عليها لحد الآن أزيد من مائتي سنة لم يقع منذ اجتياح القوات البريطانية في 1814
بيد أن السلطات الامريكية تمكنت من إعادة النظام والسيطرة على الوضع حيث لم تمر إلا بضع ساعات على اقتحام الكونغرس، ومنعت إصابة الديمقراطية بـ “الضربة القاضية”، وعاد مجلسا النواب والشيوخ الى الانعقاد وصادق بأغلبية 306 ومن هنا على ما يبدو تأتى قوة تجذر المؤسسات الديمقراطية الأمريكية، على خلاف البلدان المتخلفة.
وإذا كان هذا الأمر يطرح من جديد أزمة الأداء الديمقراطي، ببلد أكبر اقتصاد عالمي، فإنه تمت إعادة الأمور الى نصابها في بلد “العم سام” العضو الدائم بمجلس الأمن و”صاحب القلم” به، وإن كانت نتائجها وتداعياتها المستقبلية، لا يمكن الحكم عنها في المرحلة الراهنة.
وتمكن أعضاء مجلس الشيوخ والنواب من جمهوريين وديمقراطيين، بعد فترة قصيرة لم تدم إلا ساعات فقط، من إعادة الديمقراطية إلى سكتها، وهو ما يؤكد قوة المؤسسات والرأي العام اليقظ والتوفر على طبقة سياسية ملتزمة بمقتضيات الدستور، ووجود فصل للسلط حقيقي وقضاء مستقل، ووسائل إعلام من صحافة مكتوبة وسمعي بصري ووسائط اتصال رقمية تمارس دورها كسلطة حقيقية.
ويحتفظ التاريخ الحديث، بأحداث شبيهة، وإن كانت أشد ضراوة من بينها ما وقع في عام 1814 في مبنى الكابيتول الذى كان لا يزال في طور البناء، عندما تم إحراقه من قبل القوات البريطانية لدى اجتياحها واشنطن العاصمة. وبألمانيا على عهد حكومة فيمار سنة 1933، التي عرفت سيطرة ادولف هتلر الذى بسط سيطرته على الحكم عبر صناديق الاقتراع تم إحراق الريخستاغ (البرلمان).
وتختزن الذاكرة أيضا ما حدث بإسبانيا في 23 فبراير 1983، إذ اقتحم أفراد من القوات العسكرية بقيادة المقدم أنطونيو تيخيرو الكورتيس خلال حفل تنصيب رئيس الحكومة ليبولدو كالفو سوتيلو، واحتجزوا النواب كرهائن، لكن العاهل الاسباني خوان كارلوس مدعوما بالطبقة السياسية، تمكن من إفشال هذه المحاولة الانقلابية التي كانت تستهدف الديمقراطية الناشئة التي شرع فيها بنائها ما بين سنة 1975 و1978، بعد مرحلة الجنرال فرانكو الديكتاتورية.
وإذا كان عدم نجاح الديمقراطية في بعض البلدان، يرتبط بصفة عامة بعوامل متعددة، يأتي في مقدمتها غياب الثقافة الديمقراطية، خاصة لدى المؤسسات السياسية ومؤسسات التنشئة الاجتماعية (الأسرة والمدرسة والنقابة والحزب) فضلا عن ما يلاحظ من أن انتشار النظم الديمقراطية، أدى في الوقت الراهن إلى تحول الصراعات الأيديولوجية إلى صراعات طبقية ديمقراطية. إلا أن أحداث الهجوم على الكونغريس، تطرح اشكاليات التحولات السلبية التي يعرفها المجتمع الأمريكي في المرحلة الراهنة، خاصة خلال الأربع سنوات التي قضاها دولاند ترامب بالبيت الأبيض، والتي تكرست خلالها حالات من الانقسام الحاد داخل المجتمع الأمريكي الذي أضحى منشطرا الى معسكرين متصارعين، مما ساهم في تكريس نوع من “الهشاشة الديمقراطية” عمقها تواتر أعمال العنف وسيادة الكراهية وتفشي العنصرية وصعود الخطاب الشعبوي لدى الفاعلين السياسيين، وغابت فيها تقاليد الحوار الديمقراطي.
وفي هذا الصدد، أبانت نتائج الانتخابات الرئاسية التي فاز بها جو بايدن مرشح الحزب الديمقراطي بـ 306 من أصوات المجمع الانتخابي، مقابل 232 صوتا حصل عليها غريمه من الحزب الجمهوري ترامب، بالملموس جانبا هاما من الانقسام المجتمعي، وصعود ملحوظ لتيارات اليمين المتطرف، الذي يتغذى بالخطاب “الترامبي” الذى يمرره باستمرار في وسائط التواصل.
فعلى الرغم من ثقتهم بقوة المؤسسات والديمقراطية في الولايات المتحدة، أعرب العديد من قادة العالم عن مشاعر الذهول والصدمة لصور اقتحام مقر الكونغرس، في هذه الاحتجاجات الغير مشروعة. وطالبوا في هذا السياق باحترام الديمقراطية وضمان الانتقال السلمي للسلطة والعمل على استعادة الهدوء والديمقراطية والعدالة. كما أجمعت ردود الفعل على إدانة اجتياح مبنى الكابتول الذي يشكل “اعتداء متعمد على الديمقراطية” محملين ترامب وأنصاره، مسؤولية هذه الأحداث العنيفة التي ستظل عالقة في الأذهان لعقود.
ومن بيم أبرز الأوصاف التي أطلقت على اجتياح مبنى الكونغرس تلك التي جاءت على لسان الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن الذي شبه ما وقع بالممارسات التي تعرفها جمهوريات الموز وذلك في إشارة إلى بعض دول أمريكا اللاتينية التي كانت تعرف انقلابات عسكرية متكررة. وقال بوش في تصريح له ” إنه مشهد مقزز ويحزن القلب.. هذه هي الطريقة التي يتم بها الخلاف على نتائج الانتخابات في جمهوريات الموز، لا في جمهوريتنا الديمقراطية”. كما اعتبر أن “الهجوم العنيف” على مبنى الكابيتول قام به “أناس أضرمت عواطفهم بالأكاذيب والآمال الزائفة .. يمكن أن يؤدي التمرد إلى إلحاق ضرر جسيم بأمتنا وسمعتنا”.
وتسارعت الأحداث في أعقاب اجتياح مبنى الكابتول، حيث طرحت رئيسة مجلس النواب الديمقراطية نانسي بيلوسي مساءلة وعزل الرئيس ترامب، على الرغم من أنه لم يتبقى سوى أيام قليلة (20 يناير الجاري)، على مغادرته البيت الأبيض، الأمر الذي قد يجعله أول رئيس يخضع لهذا الإجراء الذي عرفه التاريخ الأميركي مرتين فقط، وهو ما يقضي على أي آمال قد تكون لديه، للترشح مرة أخرى لشغل المنصب الرئاسة في انتخابات سنة 2024.
وكان الرئيس الأمريكي المنتهية ولايته دولاند ترامب قد دشن عهده سنة 2016، بهجوم عنيف على وسائل الإعلام خاصة الصحافة المكتوبة والتلفزيون، الذى ظل يتهمها بأنها “عدو الشعب، وتمارس التزييف والتضليل”، ويسيطرعليها اليسار، لكن في ذات الوقت ركب في صهوة الإعلام الجديد خاصة التويتر وقناة فوكس نيوز، للترويج لمواقفه وأفكاره. وأظهرت نتائج الانتخابات في الثالث من نونبر 2020، أن بايدن، الذي شغل في السابق منصب نائب الرئيس الأمريكي باراك أوباما، حصل على 306 أصوات في المجمع الانتخابي، متجاوزاً حاجز 270 صوتاً اللازمة للفوز بمقعد الرئاسة.
السؤال المطروح هل يتمكن الرئيس الجديد جو بايدن، بخبرته السياسية في مواقع القرار والتي راكمها مند أزيد من أربعين سنة، من تجاوز الانقسام الحاد القائم بين مكونات المجتمع الأمريكي، وبالتالي ترجمة وعوده التي قطعها على نفسه خلال حملته الانتخابية، خاصة عندما أعلن عند فوزه التاريخي بأنه سيكون رئيسا لكل الأمريكيين سواء من الذين صوتوا لفائدته أو لفائدة منافسه ترامب الذي تمكن رغم خسارته ولاية ثانية من حصد أكثر من 70 مليون صوت.
> بقلم: جمال المحافظ