الروائي وقفص الاتهام

تبقى الكتابة الأدبية تعبيرا عن الذات في علاقتها بالوجود الإنساني، لكن هذا التعبير ليس محاكاة أو عملية تصوير مكانيكية، بل صياغة للوجود الإنساني اجتماعيا وثقافيا وسياسيا ضمن عملية تخييلية تقتضي إضفاء الأبعاد الجمالية الفنية، علاوة على تأكيد الوجود القيمي للإنسان في علاقاته الإنسانية وتطعيم التصوير التخييلي باعتباره مجموع الطموحات والآمال والتطلعات التي يأملها الإنسان ويحلم بتحقيقها، ولا ننسى أن في الإبداع الأدبي مجموعة من القيم الإنسانية التي قد تدفع بالإنسان إلى الأمام من خلال عملها على التنوير الذاتي والتطهير النفسي. وبهذا فإن الأدب، كوسيط بين الذات والعالم الذي يتشكل عبر الآخر، يشكل منبرا لتمرير العديد من الخطابات التي تقطع أشواط عدة من الإبداع إلى القراءة إلى تشكل رد الفعل. وفي هذا الصدد نتساءل عن العلاقة بين الذات المبدعة/الساردة والعالم الذي يحتوي الصراع الوجودي؟ وإلى حد تم تشكل الإدانة كصورة من صور ردود الفعل؟ وكما نعلم أن من بين الخطابات التي تعتمر البناء التخييلي نجد السخرية، والتي تحبل بقاموس الهزل والضحك. فما مدى قدرتها على تمرير الأيديولوجيا تحت أوشحتها الفنية؟

التخييل بين الذات المبدعة والعالم

إن التفكير في الكتابة الأدبية بكل أصنافها؛ الروائية منها خصوصا،  يفرض استحضار عناصر أساسية متمثلة في العمل الإبداعي والموقف المعالج ضمنه وأخيرا المبدع. فالعمل الروائي يشكل انتقالا من الكائن إلى الممكن، هو تمثيل لواقع معاش وحيثيات اجتماعية، وبهذا يتوسل بالتخييل الأدبي الذي “يتقصد الكشف عن المتخفي أو المقصي أو المهمش، أو ما لا يمكن قوله خارج خطاب الأدب ذاته”1، فعبد الرحمان منيف يعرف الرواية بقوله “ربما تكون إحدى الأدوات المهمة في تصوير المجتمع والتعبير عن طموحاته وحشد قواه وزيادة وعيه” فإذا كان العمل الروائي هو أن “نستجمع الأشخاص والفضاءات والأحداث التي عايشناها، لنعيد ترتيبها وإدراجها في حالات وتجسيدات متباينة. قبيلة من الشخوص والسحنات والحوارات نعيد عجنها وتسويتها وفق ما يحلو لمخيلتنا، صانعين عالما موازيا يكون حقيقيا وتخييليا في الآن نفسه”2. فهو بهذا يضعنا أمام صياغة بانورامية للواقع الإنساني الذي يحمل في دواخله صراعات من خلال ما هو اجتماعي، فكري، سياسي وأيديولوجي، والرواية العربية عموما تعيش “رهانا جديدا بعد مرحلة التغيير الحاصلة في الوطن العربي لمرحلة جديدة لا وجود للطابوهات. والكتابة بين السطور، فقد ولى زمن الخوف إلى غير رجعة”3 فالمتأمل في الروائي يجده يتقلد دور المثقف في أوجهه المتعددة، فقد كان هناك المثقف العضوي الذي احتفى به إدوارد سعيد احتفاء بالغا لتدثر جهوده بنزعة راديكالية ثورية تطمح إلى الالتحام بهموم الطبقة الاجتماعية.
لقد عانى الكتاب منذ القديم من مشكلة الكتابة عن الواقع المعاش من خلال تعرية المجتمع وهدم أنساقه والكشف عن خباياه. هذه المعاناة تمثلت في اعتبار ما جاء في أعمالهم إهانة للأفراد المحكي عنهم وضرب من الهزل من الحياة التي يعيشونها. والكل يعلم أن علاقة الكاتب بالقراء تحصر في ثلاث كلمات: “محبوب” ، “مكروه” ، “مُدَانٌ”. وهذه العلاقة تشكل ردود فعل التلقي وأثره.

   التلقي وتشكل الإدانة    

   ” نحن نسمح للدعارة أن تكون في الشارع ولا نسمح لشخصية أن تعهر”4 هذا ما جاء على لسان عبد الكبير الخطيبي، وبهذا القول ستتم إدانة الأدب الفاضح للمجتمع. ومنه
للقول افتراضا أن تكون كاتبا، يعنى أنت منذ الوهلة الأولى، أنت إنسان مدان. والإدانة هنا ناتجة عن الممارسة الروائية،
هذه الإدانة التي تحبل بقاموس الرفض تجاه الكتابة الأدبية، إذ يصبح الكاتب مدانا من نسقين هما: المجتمع والسلطة الحاكمة. إذن فهو في صراع وجودي أوله مع الذات (تأنيب الضمير) والثاني مع الآخر في شخصيتي المجتمع والسلطة، فالكاتب يخشى السلطة الحاكمة ويخشى أهله وكل من يتكلم عنهم ومن أصبح لسانا لهم ويكتب عنهم. والأمر الذي يسترعي التنبه هو أن الكاتب متهم بالرغم من أنه الحامل لهموم الآخرين وتجاربهم وهو الذي يسعى بعمق تجربته إلى الوعي بالمجتمع عبر تعرية واقع القمع والتدمير وكل أشكال القهر والمعاناة الإنسانية. وبالتالي لماذا يدان الروائي مجتمعيا، وهو يسطِّر “تاريخ الذين لا تاريخ لهم، تاريخ الفقراء والمسحوقين، والذين يحلمون بعالم أفضل. وسوف تقول الرواية كيف عاشوا وكيف ماتوا، وستفضح  الجلادين والقتلة والسماسرة والمخربة نفوسهم”5. والأدب بصفة أساسية مهمته “الاستنكار والاحتجاج والتمرد على كل واقع مسكون بالبؤس والعفونة والاستغلال البشع”6  فمثلا،  في قضية كشف عورة المجتمع والقسوة عليه تكون مهمة الرواية استفزاز للقارئ، ليس بمعنى الإهانة والاحتقار، وإنما لكي يكشف لهم الكاتب وبوضوح أكبر في أي مستنقع يعيشون وبالتالي يكون انتهى بطرح السؤال، أي ما هو المطلوب منهم للخلاص من هذا الظلم7.  ويمكن أن نذهب مذهب عبد الرحمان منيف بقوله أن “الإشارة إلى اللواط أو السحاق إذا وردا في رواية فلضرورات أساسية، لكن يجب أن لا تحجب عنا المشاكل الأكثر أهمية والأجدر بالمعالجة، فقط من أجل إدهاش الآخر، أو استعراض جرأتنا أمامه”8. فكما تمت الإدانة مجتمعيا ففي نفس الوقت، تتم من طرف السلطة الحاكمة. فالمعرفة التي يتم إنتاجها من طرف الروائي معرفة مضادة لخطاب السلطة، والتي تعمل على التنوير والتحريض على عدم قبول الأكاذيب السلطوية. مما يفرض على السلطة الحاكمة أن تتدخل للقمع والإسكات والتهميش، وذلك من “أجل تسهيل حسن قيام السلطة بخدمة مصالح الأيديولوجيا المهيمنة”9، والإدانة هنا في صلبها هي رد فعل تجاه الروائي، والعمل على إنتاج الهيمنة. أو بتعبير فوكو: “القوة الحاضرة في كل شيء ليس لأنها تنبع من كل شيء بل لأنها تشمل كل شيء”10لنأخذ النص التالي لمحمد شكري، كشهادة على العصر: “لقد حاكمت نفسي وأسرتي والمجتمع، في هذا السن، بقانون الشيطان الذي جعلني أعي باكرا معنى الاستغلال والقمع اللذين أيقظا فيَّ التمرد والحرية. لقد قال ألبير كامو: لم أتعلم الحرية من كارل ماركس ولكنني تعلمتها من البؤس”11.
يكلف الروائي نفسه عناء منح الوقائع الإنسانية هوية سردية، إذ يعمل على حبك المتواليات السردية وذلك عبر التخييل الذي يعد “تكثييفا للواقع باشتراعه عالما ممكنا يستطيع التقاطع مع عالم القارئ”12 وإن قلنا أنه يكلف نفسه عناء الكتابة فهو راغب في الخروج من نسق الصمت وإنتاج السرد المتخيل. فالروائي رغم شعوره بالإدانة بسبب كتاباته، فهو يرغب في الخروج من مؤامرة الإسكات التي تحاك لإقبار ما قد وقع وما يقع.

 السخرية واشتغال الأيديولوجيا
    
تبقى الممارسة الروائية تشكيلا لخطابات عديدة، حيث إن ما يهمنا استدعاؤه هو الخطاب الأيديولوجي وعلاقته بالسخرية. هذه الأخيرة تخدم إرادة المبدع عبر تمرير الأيديولوجيات بشكل متواري عن القراء وجعل الشريحة الاجتماعية المحكي عنها موضوعا للسخرية والضحك فأن تضحك، معناه أن تستهزئ. وهنا لا يمكن التحدث عن سخرية بدون أيديولوجيا فوراء كل خطاب توجد سلطة تريد الهيمنة، ونخلص إلى أن “العلاقة بين الأدب والأيديولوجيا عضوية، لا أدب بريئا من الأيديولوجيا”13         ينقسم الخطاب الروائي إلى قسمين: التقرير والإيحاء، هذا الأخير يعد “إشارة خفية لموضوع ما، ومهما تسترت هذه الإشارة فإنها لا  تكون غامضة، كما أنها لا تصل إلى الوضوح التام”14، وهو ما يهمنا في دراسة النسق المضمر بكونه عرقا ينبض تحت وشاح الجماليات الروائية، والذي بدوره يعمل فعله من خلال احتواء خطاب السخرية في الجانب المتعلق بالأيديولوجيا، وبهذا المعنى “تشتغل الأيديولوجيا بوصفها تحريفا أو قلبا لحقائق الواقع”15. هذا القلب للحقائق يتم عبر جمالية الضحك، بحيث يصبح الضحك/السخرية تعمية لحقيقة الخطاب، فتتم عملية تسويق السخرية، “وتحت كل ما هو جمالي هناك شيء نسقي مضمر”16.
تبقى عملية تعرية المجتمع فعلا تخييليا؛ تصويرا للقضايا الاجتماعية التي تم النبش عنها في الكينونة الاجتماعية المتوارية أخبارها عن الآخر. فالتعرية هنا هي مثال لتجريد الإنسان من لباسه وإبقائه عورا وسخرية أمام الناظرين إليه من طرف الروائي، والناظرون هنا هم القراء. فردود الفعل هي المجسدة للموقف الاجتماعي من العمل الروائي الذي يحكي عنهم.
كان التاريخ دائما هو من ينصف رجاله في آخر الأمر، فمثلا “المعري، بشار، الحلاج، دوستويفسكي، لوتر يامون، ولت ويتمان،   لعنهم زمانهم لأن أفكارهم كانت أكبر من أن يستوعبها واقع مجتمعهم، ولكن هذا لا يعني أن الإنسان لا يؤثر في عصره”.17   فحينما سئل محمد شكري ما موقف المهمشين من كتاباته التي كشفت المسكوت عنه في حياتهم، أجاب بقوله: “طبعا لم يرضوا عن كتاباتي وشتموني لأنهم اعتقدوا أنني كشفت الستار عن واقعهم، وعريت حياتهم للأجانب. حتى إخوتي قاطعوني وتعرضت لغضبهم وسخطهم منذ صدور الخبز الحافي، وزمن الأخطاء، فقد اعتبروني منبوذا لأني كتبت أشياء مشينة عن الأسرة وشوهت صورتها..”18. وبهذا يكون العمل الإبداعي وصمة عار وإهانة للشريحة المحكي عنها واعتباره كذلك سخرية لاذعة من الحياة الاجتماعية للطبقة المسرود عنها وعن عاداتها وتقاليدها انتهاك لسترة المجتمع.
إذا كان ردود الفعل من المجتمع حقا مشروعا فيجب أن يكون فعلا مؤطرا برؤية عقلانية راقية لا كما سمعناه عن قضية الكاتب بيار جورد، صاحب كتاب “البلد المفقود”، بحيث أن المحكمة قامت بمقاضاة مواطنين من قرية “لوسو” التي ألف عنها الكتاب المذكور. وفي ثنايا القضية تبين أن بيار جورد تعرض للضرب والشتم بسبب مؤلفه “البلد المفقود” الذي يتحدث عن القرية التي اعتدى بعض أهلها عليه  كرد فعل لما قام به الكاتب.
ختاما، أمكن القول بأن مهمة الكتابة والرغبة في البوح مهمة يتم استنكارها وإدانتها بعمق، وإن كانت غاية الأدب في ارتباطها بالواقع هي التنوير وفضح الظلم وأشكاله، فهي بالكاد غاية يصعب تحققها في ظل صراع الأنساق المتضاربة التي تمثلت في نسق الروائي (المثقف) ونسقي النظام الحاكم والمجتمع. فكما اتضح أن السلطة تكرس كل أشكال القمع على المجتمع وتطلق سلطتها لإسكات صوت الحق الذي يظهر بطلان خطابها وسياستها.

هوامش

1- عبد الحميد عقار: (تقديم الكتاب) الأدب المغاربي اليوم، منشورات كتاب المغرب، 2006، ص:6  2- محمد برادة: ‘بعيدا من الضوضاء قريبا من السُكات’، نشر الفنك، الدار البيضاء 2014 ص: 136 3- دبي الثقافية: سيف المري: الرواية العربية ورهان التجديد د. محمد برادة، ع49، دار الصدى، ط1، 2011، ص:4
 4- محمد شكري: (مفهومي للسيرة الذاتية الشطارية)، مجلة الآداب: الرواية العربية الجديدة، ع:2-3 فبراير ? مارس  1980 ص:111  
 5- عبد الرحمان منيف: الكاتب والمنفى، المركز الثقافي العربي، ط4، 2007، ص: 44
 6- المعيش قبل المتخيل- حوارات مع شكري:  حسن بيريش، ومضة للنشر، طنجة 2013 ص: 22
 7- عبد الرحمان منيف: الكاتب والمنفى، مرجع مذكور ص:283
 8- نفسه: ص: 47  
9- لحسن أحمامة: (التاريخانية الجديدة والنص المخاتل”البخلاء نموذجا”) مجلة النبوغ، عدد: 1 ربيع 2011، ص:42
 10- نفسه، ص: 42
 11- محمد شكري: (مفهومي للسيرة الذاتية الشطارية)، مرجع مذكور، ص: 111  
 12- عبد الله بريمي: (هيرمينوسيا الزمن والمحكي في فلسفة بول ريكور)  فلسفة اللغة قراءة في المنعطفات والحدثيات الكبرى، تأليف مجموعة من الأكاديميين العرب، ابن النديم للنشر والتوزيع، ط1، 2013 ص:175
 13- نيبل سليمان: حوارات وشهادات، دار الحوار، ط1، اللاذقية 1995 ص: 143
 14- عبد المجيد العابد : سميائيات الخطاب الروائي، دار الثقافة والإعلام الشارقة، ص:117  
15- عبد الله بريمي: (هيرمينوسيا الزمن والمحكي في فلسفة بول ريكور)، مرجع مذكور، ص: 187  
 16- عبد الله الغدامي وعبد النبي أصطيف، نقد ثقافي أم نقد أدبي، دار الفكر 2003، ص:30
– 17- محمد شكري: (مفهومي للسيرة الذاتية الشطارية)، مرجع مذكور، ص:11118- حسن بيريش: المعيش قبل المتخيل- حوارات مع شكري، مرجع مذكور، ص:22

بقلم: عبد اللطيف الدادسي   

Related posts

Top