السياسات العمومية في المجال التربوي مطالبة بالمزيد من الالتقائية لمأسسة وترسيخ قيم المساواة

أكد رئيس المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي، الحبيب المالكي، أول أمس الثلاثاء بالرباط، أن السياسات العمومية في المجال التربوي حرصت على نهج مقاربة مندمجة تتوخى تحقيق تكافؤ الفرص بين الجنسين.

وقال المالكي، في كلمة خلال افتتاح يوم دراسي حول موضوع “مقاربة النوع الاجتماعي في المنظومة التربوية: نحو تحول يعزز المساواة وتكافؤ الفرص التربوية بين الجنسين”، إن “برامج السياسات العمومية في المجال التربوي حرصت على نهج مقاربة مندمجة تتوخى الدفع بالإنصاف والمساواة وتحقيق شروط تكافؤ الفرص بين الجنسين، مع نبذ كل أشكال التمييز ومظاهر العنف ضد العنصر النسوي”.

وأبرز في هذا الصدد، أن المغرب اتخذ مبادرات متعددة لتفعيل مقاربة النوع في المجال التربوي طبقا للالتزامات الوطنية الخاصة بالسياسات العمومية في هذا الشأن، موضحا أن هذه المبادرات تستند، فضلا عن الإطار العام الذي تحدده المقتضيات التشريعية ذات الصلة، إلى توصيات الرؤية الاستراتيجية للإصلاح التربوي 2015 – 2030، والقانون الإطار 51/17 الذي يحدد المبادئ الأساسية التي ترتكز عليها منظومة التربية والتكوين والبحث العلمي، وكذا الأهداف الأساسية لسياسة الدولة في هذا المجال، والتي اعتمدت كذلك في توجهات النموذج التنموي 2021- 2035.

وأضاف المالكي أن من جملة التدابير المتخذة في هذا الشأن، على الخصوص، الإجراءات الهامة المتخذة للرفع من نسب التمدرس عند الفتيات مع تقليص مؤشرات الهدر المدرسي في الوسط القروي، بالإضافة إلى القضاء على الفوارق بين الجنسين في الولوج إلى التعليم، مشيرا إلى أن هذه الإجراءات تشمل، كذلك، تحسين البيئة المدرسية وتقديم الدعم النفسي والبيداغوجي لصالح التلميذات، بالموازاة مع برامج الدعم الاجتماعي المخصصة للفتيات المعوزات.

وسجل أنه “اعتبارا لأهمية هذه التوجهات الرامية لتفعيل الاستراتيجية الوطنية للإنصاف والمساواة في المجال التربوي، فإن المجلس بصدد القيام بدراسة تقييمية لبحث مدى التطور الحاصل في المنظومة التربوية من منظور مقاربة النوع الاجتماعي”، لافتا إلى أن هذه الدراسة ستهدف بالأساس إلى تسليط الضوء على التقدم المحرز في العقود الأخيرة من حيث الإنصاف والمساواة بين الجنسين في النظام التربوي، فضلا عن تقييم مدى النقص ونوعية التعثرات التي تواجه التدابير المتخذة في هذا المجال.

وأوضح المالكي أن هذه الدراسة ستعمد لتحليل مقاربة النوع الاجتماعي في مجال التعليم، ومن ضمنها تحليل نظرة المجتمع للنوع الاجتماعي في التعليم وإشكالية الفوارق بين الجنسين في ما يخص الولوج إلى التمدرس، ونسب الهدر المدرسي ومحددات المناخ المدرسي، بالإضافة إلى مسألة تكافؤ الفرص في التعليم العالي ومؤشرات الأداء الخارجي للنظام التربوي، وتقييم المكتسبات ومستوى التحصيل، والأداء الخارجي لنظام التعليم من منظور النوع الاجتماعي.

من جهتها، أكدت وزيرة التضامن والإدماج الاجتماعي والأسرة، عواطف حيار، أن النوع الاجتماعي “بعد عرضاني” يحتل موقعا مركزيا في كل مجالات العمل الحكومي، بما في ذلك مجال التربية والتكوين والتعليم العالي.

وأوضحت حيار في كلمة تلتها بالنيابة عنها مديرة المرأة بوزارة التضامن والإدماج الاجتماعي والأسرة، سلمى التازي أن المكانة التي أضحت للنوع الاجتماعي في العمل الحكومي جاءت بناء على ما راكمه المغرب، بفضل العناية الخاصة لصاحب الجلالة الملك محمد السادس، من مكتسبات مهمة في مجال الرقي بأوضاع المرأة على كل المستويات، الحقوقية منها والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية، وذلك بمشاركة وانخراط كل الفاعلين في الإصلاحات المتواصلة التي تشمل التشريع والسياسات العمومية والاستراتيجيات القطاعية بمستوييها المركزي والترابي.

من جانبه، قال منسق اللجنة المؤقتة لإعداد التقرير السنوي للمجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي، محمد غيات، إن تنظيم هذا اليوم الدراسي يأتي تأكيدا للإرادة القوية للمجلس ولالتزامه بالإسهام في تعزيز مبادئ المساواة والإنصاف والجودة للارتقاء الفردي والمجتمعي، وترسيخ قيم التضامن والعدالة الاجتماعية بين جميع مكونات المجتمع. وأوضح السيد غيات أن المغرب يعرف، اليوم، تحولات عديدة في كافة مناحي الحياة، حيث ينخرط المجتمع بكافة مكوناته في نقاش بناء حول قضايا متعددة، تندرج ضمن مسار تحول امتد أكثر من عقدين، ويهدف إلى جعل المساواة وتكافؤ الفرص بين الجنسين في صميم التنمية المستدامة للمملكة، مشيرا إلى أن “ما نعيشه اليوم من مستجدات وإحراز مكتسبات، هو بمثابة لحظة حاسمة للمضي قدما في مواصلة أوراش الإصلاح التربوي وبناء تنمية قاطرتهما المنظومة الوطنية للتربية والتكوين والبحث العلمي”.

وأكد أن هذه اللحظة “البارزة، والغنية بالدلالات والمنجزات المحققة”، تستلزم المزيد من تعميق النقاش الفكري بكافة روافده الأكاديمية والبحثية والخبراتية والمجتمعية، والسياسية أيضا، حول مسألة النوع الاجتماعي التي “باتت مكونا ثابتا في السياسات العمومية للمغرب”، وكذا ابتكار السبل الكفيلة بإزالة كافة العقبات التي تحول دون تحقيق التكافؤ الفعلي بين الجنسين في العديد من المجالات الحيوية وفي مقدمتها التربية بمدلولها الشامل.

المدرسة ودورها في التنشئة والتغيير الاجتماعيين

وعلاقة بموضوع هذه الندوة، وكما جاء في كلمة الحبيب المالكي، فإن تنظيمها جاء في إطار التساؤل حول الرؤى والمفاهيم المتعلقة بتحقيق الإنصاف والمساواة وتكافؤ الفرص بين جميع أفراد المجتمع علاقة بمنظومة التربية والتكوين، انطلاقا من سؤال محوري، حول قدرة المدرسة المغربية على القيام بوظائفها في التنشئة الاجتماعية وترسيخ قيم الإنصاف والمساواة وتكافؤ الفرص بين الجنسين، مشيرا إلى أن هذا الموضوع يكتسي أهمية خاصة بالنظر للعلاقة الوطيدة والمتعددة الجوانب بين المدرسة والمجتمع.

وأبرز رئيس المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي أن مسلسل الإصلاحات المؤسساتية والاقتصادية والاجتماعية والحقوقية التي انخرطت فيها المملكة منذ عدة سنوات، يعطي لهذا الموضوع أولوية خاصة، نظرا لراهنيته، ليس فقط بالنسبة للمنظومة التربوية، بل للمسار التنموي ككل.

واعتبر أنه على الرغم من كل الجهود المبذولة على المستوى القانوني والتنظيمي وحتى الإجرائي في إطار مقاربة النوع الاجتماعي، “تبقى النتائج المحققة في هذا المجال محدودة نسبيا، باعتبار الفجوة التي ما تزال قائمة بين مقتضيات النصوص القانونية وإكراهات الواقع المجتمعي بكل تجلياته”، لافتا إلى أن الدعوات إلى تفعيل مبادئ الإنصاف والمساواة وتكافؤ الفرص غالبا ما تواجه جملة من المعيقات ذات الطابع الثقافي أو السوسيو- اقتصادي، والتي تحد من الفرص والإمكانيات المتاحة للمرأة داخل المجتمع.

وخلص المالكي إلى أن المجلس الأعلى دائما ما يدعو إلى ضرورة الإدماج الفعلي لمقاربة النوع الاجتماعي بشكل فعال على أرض الواقع، وتوفير الشروط الملائمة لإعمال هذه المقاربة، وخاصة الشروط الكيفية التي توظف بها مسألة النوع الاجتماعي في الأنظمة والبرامج التربوية، إضافة إلى طريقة تناول إشكالية المساواة والإنصاف في المناهج والأدوات البيداغوجية، فضلا عن السلوكيات ونوع العلاقات التي يجب أن تسود داخل الفضاء التربوي.

يشار إلى أن الهدف من تنظيم هذا اليوم الدراسي يصب في اتجاه تقييم قدرة المدرسة المغربية على القيام بوظائفها في التنشئة الاجتماعية والتثقيف والتربية على قيم المساواة وتكافؤ الفرص والعيش المشترك بين الجنسين، تماشيا مع الرؤية الاستراتيجية للإصلاح التربوي 2015 -2030، التي جعلت من التربية على قيم المساواة وتكافؤ الفرص إحدى الرافعات الأساسية لترسيخ البعد القيمي وثقافة الحقوق والمساواة بين الجنسين.

وقد انكب المشاركون على مناقشة محاور “الفتاة والمرأة في المنظومة التربوية: المكتسبات، الإكراهات، التحديات والفرص المتاحة”، و”وجهات نظر متقاطعة حول مسألة المساواة وتكافؤ الفرص في المنظومة التربوية: تجارب دولية”، و”مكانة الفتاة والمرأة في المناهج والبرامج الدراسية”، فضلا عن “الشروط القانونية والمؤسساتية للمساواة وتكافؤ الفرص التربوية بين الجنسين”.

توصيات اللقاء

وأكدت توصيات هذا اليوم الدراسي، التي عرضتها المفتشة التربوية وعضوة بالمجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي، مليكة الدعفوز، على ضرورة إعادة النظر في الموروث الثقافي التمييزي، وإعادة الاعتبار للفتاة والمرأة ومساعدتها على إدراك استقلاليتها والحفاظ عليها.

وأبرزت ضرورة إطلاق وتنظيم حملات وطنية تستهدف مكافحة الصور النمطية، وإنجاز دراسات ميدانية سوسيولوجية وأنثروبولوجية لتحديد العوامل المتدخلة في ترسيخ الاختلاف والتباين في الأداء الدراسي، وأنه ينبغي للجهات المسؤولة عدم جعل المدرسة فضاء ومجتمعا مصغرا إقصائيا ومكرسا لثقافة التمييز، بل أداة لخلق التغيير الاجتماعي الذي من شأنه محاربة إعادة إنتاج نفس القوالب النمطية.

وعلى المستوى القانوني والمؤسساتي، شددت التوصيات على أنه “بالرغم من وجود نصوص قانونية وتنظيمية تنص على العمل بمبدأ المساواة وتكافؤ الفرص، إلا أن مأسسة المساواة تستدعي مزيدا من الجهود للنهوض بهذا المبدأ كقيمة مهيكلة”، داعية إلى الاشتغال على إرساء إطار مرجعي عام لمنظومة القيم ومجالات التربية عليها في المنظومة المغربية، وضرورة وضع آليات للتنسيق وتحقيق الالتقائية بين مختلف السياسات العمومية في هذا المجال.

ولفتت إلى أنه على الجهات الوصية بالقطاع التفكير في خلق مرصد يقوم بتسجيل كل الإشكاليات التي يعاني منها كلا الجنسين، واتخاذ إجراءات ملموسة والعمل على تطبيقها على أرض الواقع، مسجلة أن “تكييف النموذج المغربي مع التجارب الدولية سيساهم بشكل كبير في تطوير المنظومة التربوية وتعزيز مقاربة النوع في المجال”.

كما دعت إلى الاستثمار في مجال التربية وتمدرس الفتيات لأهميته في تطور المجتمعات من الناحية الاقتصادية، والاجتماعية، والبيئية، وذلك عبر محاربة زواج القاصرات، والعمل على التوعية الصحية، وتعزيز السلوكات الإيجابية، فضلا عن تعزيز دور الإعلام من أجل الاضطلاع بمهمته في تكسير الصور النمطية السائدة في المجالين الحضري والقروي.

Top