بعد باكورته الشعرية ” صوت التراب” عن منشورات اتحاد كتاب المغرب، وتجربة متميزة مشتركة مع الشاعر عبد العاطي جميل “حماقات السلمون”، يصدر الشاعر محمد بلمو لبنة جديدة وجميلة تنضاف الى مساره الشعري المتجدد وإلى تراكماته الابداعية النوعية “رماد اليقين”.
محمد بلمو شاعر يشتغل في صمت، بعيدا عن الأجواء المصطنعة والأضواء البراقة، واتق من خطاه المتزنة في مضمار الشعر، ومؤمن بصدقية ومسؤولية الشاعر اتجاه قرائه واتجاه القصيدة.
في هذا الحوار الخاص ببيان اليوم، يفتح لنا الشاعر الجميل محمد بلمو عوالمه الإبداعية الغنية والمتعددة، لنلامس جزء منها:
< بعد ديوان ” صوت التراب “، وديوان مشترك مع الشاعر عبد العاطي جميل ” حماقات السلمون”. أصدرت مؤخرا ديوانا موسوما بـ “رماد اليقين” في طبعته الثانية 2017 . ما هو السياق الشعري الذي يندرج فيه هذا الديوان؟
> أعتقد أن السياق الذي كان دائما يحكم تجربتي، هو البحث أو على الأصح مطاردة ذلك النص الشعري المثالي الذي لا يتحقق أبدا، أي ذلك النص الذي حين تنتهي من كتابته يداهمك شعور بالارتياح بأنك كتبت أجمل وأعمق وأبلغ نص شعري في تجربتك، فيغمرك شعور جميل بأنك قد تصلح لشيء إنساني نبيل في هذه الحياة الذئبية حد الوقاحة. في الواقع ليس ذلك السياق إلا وهما أو لنقل إمعانا في تصديق ومسايرة أسطورة الكتابة التي تبحث عن كمال لا وجود له، وعن امتلاء ليس فيه إلا الفراغ.
< بالرجوع إلى عنوان الديوان: “رماد اليقين”، من أي مشتل إبداعي قطفت منه هذا العنوان الموحي والدال؟ وما هي مرجعيته الفلسفية والفنية والدلالية؟
> لم يبرح اليقين رماده، ولم يبرح الرماد يقينه، لا يتعلق الأمر هنا بلعبة لغوية، ليس هذا أبدا ما أقصد، بل أقصد أن تلك الأسطورة (أسطورة الكتابة) تنبني على هذا التوالد اللا منتهي بين اليقين والرماد، بين التماعة النص الجديد وانطفائه، بين الإحساس بجدوى الحياة ومتعتها والانغمار بسلطة الموت وتفاهة العيش في ثغور الوحشية التي يقترفها جنود الحداثة كما يصنعها مريدو التقليد. إنه مسار “عنقائي” بكل تأكيد، يتحول فيه طائر الفينيق باستمرار من اليقين إلى الرماد إلى اليقين إلى.. ليس بشكل دائري ونمطي ولكن بشكل حلزوني متجدد.
< المتأمل في هذا الديوان، يقف عند توظيفك لمصطلحات تشير إلى الحزن، الكآبة، الخوف، الألم، الغضب.. أي أن هذا الديوان كل قصائده تحمل انكسارات داخلية موجعة تئن في صمت. لماذا هذه القصائد حزينة حد الأوجاع والصراخ والحلم الضبابي إلى المستقبل؟
> يبقى اختيار الشاعر لمعجمه مرهونا بواقعه، بتجربته، واقتناعاته، وأحاسيسه، فهو لا يتحكم في العملية بشكل كامل، ولكنه يعمل على ترويضها إن صح التعبير، فالواقع الذي نعيشه حاليا على الأقل، ليس فيه من إمكانية للفرح والبهجة والسرور إلا النزر الضئيل جدا، فأنت لا تكاد تمر عليك ساعة من الزمن إلا ويصدمك خبر محزن، وصورة مؤلمة، وفيديو يثير الغضب أو الغثيان، لقد كان الزمن أرحم بالمتنبي والمعري وأبي حيان التوحدي وغيرهم ممن داهمهم الحزن والغضب، واستوطن كتاباتهم، لأنهم لم يتجرعوا بالصورة والصوت وفي كل دقيقة وثانية ما نتجرعه من مظاهر الظلم والقتل والتعذيب والإهانة والحرمان عبر التلفزيون وشبكات التواصل الاجتماعي والواتساب، لدرجة تجعلني في الكثير من الأحيان أعتبر هذه الحضارات الإنسانية التي يتغنى بها العالم مجرد أكذوبة فجة، وأن ما راكمه الإنسان عبر تاريخه الطويل من وحشية لا تضاهيه حيوانية كل حيوانات الأرض عبر التاريخ.
< “رماد اليقين” ديوان يجسد ما تبقى من اليقين، أي ما لا يمكنه الاحتراق. هل قصائد الديوان قابلة للاحتراق؟
> إن الرماد الذي نتج عن عملية احتراق اليقين وانهدام أساساته وأطروحاته، هو الحضن والسماد الذي منه ينبع وتنبت سنابل اليقين من جديد، ليس بالضرورة نفس اليقين، ولا هو قطيعة نهائية مع يقين سابق، بل هو بالضبط يقين قابل للاحتراق مرة أخرى. الرماد غير قابل للاحتراق ولكنه قابل ومتهيئ ليصير يقينا قابلا للاحتراق. و بهذا المعنى فإن قصائد الديوان غير قابلة للاحتراق، ولكنها قابلة لتصنع يقينا يكون قابلا بالضرورة للاحتراق.
< هل يؤمن الشاعر محمد بلمو بأن أي حلم لا يحضن في دواخله أحزانا وانكسارات، هو حلم غير مرغوب فيه، خاصة بالنسبة إليك في ديوان “رماد اليقين” ؟
> ليس الحزن اختيارا ولكنه واقع، أما الحلم فإنه لا يكون حلما ما لم يكن مفارقا للواقع ومضادا له، لذلك فهو يحمل في طياته أحزانا وانكسارات، كما أن قابلية تحققه تكون دائما محفوفة بالأحزان والانكسارات. لا أعتقد أن هناك بشرا يريد أن يكون حزينا رغبة في الحزن، ولكن الفرح نفسه يتحول إلى حزن، بحكم الزمن، وكذلك الانتصارات تتحول إلى انكسارات، لذلك فالحلم بدون حزن غير ممكن، وليس غير مرغوب فيه.
< في إحدى قصائد الديوان الموسومة بـ “عودي أريج كي نرقص”، تمد يدك الى الجميلة / أميرتك أريج، وتدعوها كي ترقص فوق ربوة ربيع تفوح منه روائح أريج ، ما أجملك …ما أجملك ..أريج الطفلة وأريج نفس العطر الذي يحرسكما معا ، ما أوجه التشارك بين الأريجين؟
> أريد أن أوضح فقط قبل الجواب عن سؤالكم عزيزي، أن قصيدة “عودي أريج كي نرقص”، يوجد مقطع منها فقط على غلاف الطبعة الثانية من “رماد اليقين”، أما القصيدة كاملة فستنشر ضمن مجموعة جديدة تصدر قريبا بعنوان “طعنات سحيقة”، بعد ذلك، يمكن القول لكم بكل صدق إنني أهاب كثيرا الاقتراب من هذه القصيدة التي تؤرخ لتجربة رهيبة لي مع الألم والحزن والضياع، حتى إنني أتهيب وأتهرب كثيرا من قراءتها، لأنني لا أقوى على ذلك، ولأن إلقاءها يجرني حتما إلى تخوم موحشة، من خلال استرجاع الذكريات المؤلمة التي ولدت فيها. بهذا المعنى فإن أوجه التشارك بين الأريجين الهشين هو قابليتهما السريعة للضياع، أي قابليتي للمزيد من الضياع الروحي والفكري.
< أعود معك إلى الشعر، إلى هذا السر المفتوح الذي أسميه القصيدة، إلى هذه اللغة الجميلة. داخل اللغة ما الذي يؤسس القصيدة؟
> باللغة ومن خلالها تحيى القصيدة، إنها وسيلتها الأساسية، لكنها في نفس الآن لا تنوجد إلا من خلال صراع ما مع هذه اللغة، حمولات وصيغا وتراكيب، فالقصيدة وهي تتشكل، لا تطمئن للجاهز والدارج والنمطي من اللغة، إنها تحاول قدر الإمكان صياغة لغتها الخاصة ومعجمها الأكثر استجابة لحاجاتها في لحظة الانبعاث والوجود.
< بم تشعر بعد كل هذه الأيام المليئة بالقصائد .. أي لحظة روحية تعبر الآن؟
>كما قلت سابقا، لم يبرح اليقين رماده ولم يبرح الرماد يقينه، الإنسان الآن يخلق جرعات إضافية من الاحتراق، من الحزن، من القلق، من التشظي والضياع. يكاد ذلك يكتسح الصورة تماما، لولا قطرات الضوء الضئيلة التي تلمع هنا وهناك في القلب.
< بماذا يحلم الشاعر محمد بلمو ؟
> ما أحلم به هو أن أستأنف، رفقة أخوتي من قصبة بني عمار وأصدقائنا عبر العالم، تنظيم مهرجان الحمير، وأن نحوله حقيقة إلى قاطرة لمشروع ثقافي تنموي أكبر، يستطيع استيعاب طموحات وأحلام العشرات من سكان قصبة بني عمار والمنطقة، من خلال “مركب بيو- ثقافي” يقدم بشكل يومي منتوجا فلاحيا وثقافيا وسياحيا طبيعيا، ويخلق فرص شغل ويثمن المنتوج المحلي ذي الجودة العالية، ويستقطب الكثير من الزوار.
لقد رفعنا تحدي تحقيق هذا الحلم من خلال تنظيم الدورة 12 للمهرجان صيف السنة القادمة، في إطار جديد ومضمون منسجم ومنتج، رغم استمرار حاجتنا إلى الإمكانيات المادية واللوجستيكية، التي كان لغيابها الدور الحاسم في تأخر تحقيق هذا الحلم. هذا هو حلمي.
حاوره : محمد معتصم