الجزء الأول
سارعت معظم دول العالم، بناء على نصيحة منظمة الصحة العالمية، إلى تطبيق مبدأ التباعد الاجتماعي منذ الإعلان عن تفشي جائحة كورونا “كوفيد 19″، وما يقتضيه ذلك من إجراءات وتدابير، تصل في بعض الأحيان إلى العزل الكامل، سواء بالمنازل أوالمستشفيات أو مراكز الحجر الصحي المعدة لذلك. وللتخفيف من الانعكاسات الاجتماعية والاقتصادية بعد توقف العديد من الأجراء عن العمل، نتيجة تعليق جزء مهم من الأنشطة الإنتاجية، كان لا بد من تعبئة الصندوق الخاص بتدبير جائحة فيروس كورونا “كوفيد-19” المحدث لهذا الغرض.
وقد ألقى تطور هذه الجائحة بظلالها على كافة المرافق والخدمات والهيئات والمؤسسات. وألحقت بالغ الأثر بالاقتصاد العالمي، ومعه الاقتصاديات الوطنية بقطاعاتها العامة والخاصة، ولم تسلم المهن القانونية والقضائية بدورها من تبعات أزمة “كوفيد 19″، فكانت سببا في تعليق انعقاد الجلسات، وإحداث نظام للمداومة بين موظفي كتابة الضبط، منعا للمخالطة والتجمع، وللحيلولة دون تفشي هذا الفيروس بين القضاة والموظفين، ومساعدي القضاء والمرتفقين على السواء.
وإذا كان قطاع الخدمات عامة، قد نال النصيب الأوفر من أضرار هذه الأزمة الصحية، فإن الخدمات المقدمة من المهن القانونية والقضائية، لم تخرج بدورها عن هذه القاعدة، بعد توقفها اضطراريا تنفيذا للتدابير المعلن عنها في إطار المنظومة الوطنية لليقظة والرصد الوبائي. وهو ما انعكس سلبا على مركز هذه المهن، ضمن سلسلة الإنتاج وخلق الثروة (الفقرة الأولى)، ومقابل ذلك، تزايد النقاش حول البدائل التي من شأنها ضمان ديمومة هذه الخدمات في المستقبل، وتحييد أثر الأزمات عليها (الفقرة الثانية).
الفقرة الأولى: أثر” كوفيد-19″ على المهن القانونية والقضائية
إن من ضمن القطاعات الأكثر تضررا بجائحة “كوفيد-19″، المنشآت الصغيرة والمتوسطة، زيادة على المهن القانونية والقضائية، كالمحاماة، والتوثيق، ومهنة خطة العدالة والمفوضين القضائيين، والخبراء القضائيين، ومهنة النساخة، وغيرهم ممن يزاول في القطاع الحر، ويعتمد في إنجاز مهامهم على مختلف الإدارات الأخرى، وقصور العدالة بمختلف درجاتها، كالمحاسب المعتمد والخبير المحاسب كل في نطاق تدخله، واختصاصه بموجب القوانين الجاري بها العمل.
فبدون سابق إنذار، وكما لم يستأذن “كوفيد-19” أحدا، وجدت المهن القانونية والقضائية نفسها في مواجهة أزمة توقف اضطراري عن العمل، تنفيذا للتدابير المتخذة لمواجهة هذه الجائحة، والتي انخرطت فيها الهيئات المهنية بكل مستوياتها، من أجل تنزيلها بروح من المسؤولية، بالرغم من ثقل تكلفتها بالنسبة للكثير منهم، نتيجة فقدان الحاصلات العادية من الأتعاب المستحقة لهم في ظل ما استجد من الوقائع المرتبطة بإكراهات تدبير الأزمة الصحية الناتجة عن انتشار كورونا “كوفيد-19”.
ونتيجة إصدار المرسوم بقانون رقم 2.20.292 المتعلق بسن أحكام خاصة بحالة الطوارئ الصحية وإجراءات الإعلان عنها، واستمرار عملية إغلاق المكاتب المهنية لمدة تقارب ثلاثة أشهر في إطار تطبيق أحكام المرسوم 293 .2.20، المتعلق بإعلان حالة الطوارئ الصحية بسائر أرجاء التراب الوطني، لمواجهة تفشي فيروس كورونا –”كوفيد 19″ كما وقع تمديد العمل بها، كان طبيعيا أن تتعقد الوضعية المالية لدى الكثير من مزاولي هذه المهن، بل وستزداد مؤشرات الهشاشة خصوصا لدى شرائح واسعة من الشباب المزاول، نتيجة الصعوبات المالية التي قد تعترض الغالبية منهم من أجل الوفاء بالالتزامات الناتجة عن كراء المقرات المهنية، وأداء أجور المستخدمين، وصوائر التنقل، وغير ذلك من المصاريف التي لا يسمح الوقت للتفصيل فيها، باعتبارها إما من مستلزمات مزاولة المهنة، أو من متطلبات الوفاء بالتزامات أخرى ذات طبيعة أسرية.
والملاحظ غياب دراسات دقيقة معدة من طرف الهيئات المخول لها تدبير الشؤون المهنية، خاصة حول نسب التوقف الكلي أو الجزئي في كل مهنة، وعدد المستخدمين الذين وجدوا أنفسهم في توقف اضطراري، ونسبة التغطية الاجتماعية في هذه المهن لقياس وقع وأثر السياسة العمومية في الدعم على المنتسبين إلى هذه المهن، إضافة إلى الآثار النفسية للجائحة على المهنيين المنخرطين، واقتراحاتهم في الموضوع من أجل مواجهة مثل هذه الكوارث مستقبلا.
إن مثل هذه الدراسات جد مفيدة وأساسية للترافع في الشؤون المهنية لدى مختلف السلطات العمومية، خاصة وأن آثار كوفيد -19، ستظهر بالملموس في الفترة التي تعقب المرحلة الموالية لرفع حالة الطوارئ الصحية، أو لنقل إن تدبير نتائج كوفيد-19 ستكون ممتدة على المدى المتوسط، بالنظر إلى أن انحصار الأنشطة الاقتصادية والإنتاجية سيؤدي إلى ندرة في السيولة وارتفاع في معدل القروض البنكية، وبالتالي عجز زبناء المهن الحرة عن الوفاء وسداد الأتعاب المستحقة عليهم في مختلف العقود والاتفاقات، وهو ما سينعكس لا محالة على قدرة هذه المهن على الوفاء بجزء من الالتزامات المشار إليها أعلاه.
وللإشارة فقط، نذكر ببعض النتائج المقلقة للبحث الذي أوصى به المكتب الوطني لهيئات المحامين بفرنسا، والتي أشارت إلى أن أكثر من سبعة وعشرين ألف محام مرشحون لترك مهنة المتاعب في الشهور القادمة نتيجة تداعيات “كوفيد 19″، فيما عبر 28% عن استعدادهم لتغيير المهنة بعد أفول الأزمة، و6% ترى أنه حان وقت طلب التقاعد المبكر.
وعلى مستوى مهنة التوثيق، فإنه من أجل التخفيف من تداعيات الجائحة على المهنة، فقد حرص المشرع الفرنسي على تفعيل العقد التوثيقي عن بعد، على غرار العمل عن بعد المطبق في بقية القطاعات الأخرى باستخدام تكنولوجيا الاتصال والمعلومات، فأصدر المرسوم 2020-395 بتاريخ 03 أبريل 2020، كضرورة حتمية بعد إقرار حالة الطوارئ الصحية، وهو ما مكن من الاستجابة لتطلعات المهنيين في قطاع التوثيق، بعد السماح لهم بإبرام العقد على دعامة إلكترونية، دون حضور أو تمثيل الأطراف أمام الموثق، والاستعانة فقط بخدمة التداول بالفيديو، أو المناظرة المرئية، شريطة تبادل المعطيات اللازمة لإبرام العقد وتحصيلها عن طريق نظام للتواصل ونقل المعطيات، قادر على تأمين كل ما يتعلق بمضمون العقد، لا سيما تصريحات الأطراف وسريتها، وهوياتهم ورضاهم، وتوقيعاتهم الإلكترونية، وهو ما يشكل خروجا عن المقتضيات العادية المنصوص عليها في المادة 20 من مرسوم 26 نونبر 1971 المتعلق بالعقود المبرمة من طرف الموثقين.
ولا شك أن تطبيق الحلول التقنية لتأمين التوقيع الإلكتروني، ومنظومة التشفير من طرف المتعهدين المخول لهم إصدار شهادات التصديق المطلوبة في هذا الشأن، تحت إشراف ومراقبة المديرية العامة لأمن نظم المعلومات، تطبيقا لأحكام القانون رقم 53.05 المتعلق بالتبادل الإلكتروني للمعطيات القانونية، ليعتبر بحق خطوة مهمة في اتجاه تفعيل العقود الإلكترونية عن بعد، سواء في الحالات العادية، حيث أطراف العقد لا توجد بالضرورة في المكان نفسه، أو في الحالات الاستثنائية، كما هو الشأن بالنسبة للأزمة الصحية الناتجة عن انتشار كوفيد-19.
الفقرة الثانية: الرهانات المطروحة على المهن القانونية والقضائية في الفترة ما بعد “كوفيد-19”
إن منطق تدبير الأزمات يفرض الحرص على استمرارية الخدمة العمومية، ودوام سير العمل بالمرفق العام دون تعطيل، ولا ضرر في ذلك إذا اقتضى الأمر تخفيض مستوى هذه الخدمة، نتيجة التعديل في وسائل وآليات أدائها، بما يراعى الظروف الاستثنائية الناجمة عن حالة الأزمة. فالمبدأ القانوني المؤطر للخدمات العمومية، هو استمرار ودوام سير المرفق العام. وهذا المبدأ واجب التطبيق، سواء في الأحوال العادية أو في الأحوال الاستثنائية.
وارتباطا بالمهن القانونية والقضائية، باعتبارها هي الأخرى تقدم خدمات عمومية، فإن كسب الرهانات التي طرحتها جائحة كورونا كوفيد المستجد، يتوقف على ضرورة الجواب على سؤالين، مركزيين وحاسمين بالنسبة لوظيفة هذه المهن ومستقبلها وهما كالآتي:
ما هو موقع الهيئات المهنية في المشاريع الكبرى للتحول الرقمي الذي يشهده القطاع العمومي؟
وأي نموذج مستقبلي لهذه المهن في ظل هذا التحول؟
إن محاولة الإجابة على السؤالين، تستدعي الوقوف عند دور الشراكات في تأهيل المهن القانونية والقضائية، إضافة إلى أهمية التحول الرقمي.
أولا: ضرورة تقوية وتنويع أساليب الشراكة
إن تقوية الشراكات وتنويعها مع مختلف القطاعات العمومية ذات العلاقة بمجال تدخل المهنيين في مختلف المهن القانونية والقضائية، من شأنه اختصار الجهد والوقت من أجل حسم العديد من الخيارات الرامية إلى النهوض بالمهن القانونية وتحديثها. فأسلوب الشراكة يسمح بتقاسم تفاصيل مشاريع التحديث في كلياتها، ومن ثمة إمكانية الانخراط مبكرا في الترافع لفائدة مصالح المهنة، وأخد المبادرات لتحسين العروض التقنية المقدمة أو تعديلها إيجابا بعد استصدار حلول فنية من طرف ذوي الاختصاص في بناء وتطوير المواقع والبرامج والأنظمة المعلوماتية، مما سيمكن من تفادي الاقتصار على مناقشة مخرجات هذه المشاريع التي تظهر في شكل نصوص قانونية.
ولهذا ينبغي للأجهزة التقريرية في الهيئات المهنية، أن تنصرف إلى التفكير الاستراتيجي في شؤون المهنة للوقوف عند التجارب المهنية الفضلى على المستوى الدولي، الشيء الذي يفرض تعديل القوانين الحالية المؤطرة للمهن، والتي تهتم بتدبير المسارات المهنية قبل وأثناء وبعد الالتحاق بالمهنة، أكثر ما تهتم بالمهنة ذاتها كرصيد مشترك، لها تاريخ عريق، ولكن كذلك كمستقبل قابل للاستشراف.
انسجاما مع هذا التوجه، فإن الهيئات المهنية باختلافها مطالبة بإجراء استشارات فنية من أجل الرقمنة الشاملة للشؤون المهنية، وإيجاد مستويات التفاعل والتبادل مع المنصات الإلكترونية التي تعدها القطاعات العمومية ذات الصلة بالمهنة، بل والكشف عن الوظائف والمزايا التي تتيحها تلك المنصات، ذات الطبيعة الإحصائية، أو الإخبارية، أو المرجعية، أو التوثيقية، وغير ذلك من الوظائف.
والأهم من هذا كله، وجوب تفعيل وتعميم التبادل اللامادي للمعطيات والطلبات، عن طريق المنصات الموضوعة حاليا، بحيث تغني عن تقديم الوثائق على دعائم ورقية بمناسبة مباشرة الإجراءات التمهيدية لتحرير العقود مثلا، إما من أجل الحصول على شهادة الإبراء الضريبي طبقا للمادة 95 من قانون 15-97 المتعلق بمدونة تحصيل الديون العمومية، أو لتنفيذ بعض الإجراءات اللاحقة على ذلك لدى إدارة التسجيل التابعة للمديرية العامة للضرائب، أو المحافظة العقارية، أو بالمحاكم التجارية في الشق المتعلق بالتقييدات والتعديلات والتشطيبات التي ترد على السجل التجاري.
واستشرافا لمستقبل المهن القانونية، فإنه لا مناص من الحرص على تطوير مدارك المهنيين في مجال أنظمة المعلوميات، عن طريق برامج التكوين توجه خصيصا من أجل التحكم في أدوات ومداخل الرقمنة وتوظيفها للاستفادة من مزاياها في الجوانب المهنية، لا سيما في كيفية إجراء مختلف المساطر القضائية بشكل الكتروني مؤمن، وفي احترام تام للأعراف المهنية.
الخلاصة، أن بناء علاقات مهنية لامادية، يستدعي توسيعا للتشاور مع مزاولي هذه المهن، باعتبارهم من الفاعلين المعنيين باستعمال وتزويد المنصات الإلكترونية المعدة لهذا الغرض بموارد رقمية في شكل مقالات ومذكرات ومستنتجات ومختلف الطلبات القضائية بالنسبة للمحامي والخبير، وفي شكل عقود ومحررات وطلبات إيداع وإشعارات مختلفة بالنسبة لمهنيي التوثيق.
يستتبع ذلك، أن الرقمنة الشاملة لمختلف المساطر، كفيلة بالرفع من جودة الخدمات المقدمة من طرف مختلف المرافق العمومية، وهو ما سينعكس لا محالة على بقية المهن القانونية الأخرى، ليس فقط من زاوية الاقتصاد في النفقات والوقت، ولكن أيضا من خلال الرفع من نجاعة التدبير، والتحكم في عنصر الزمن كمحدد أساسي لتحقيق خدمة عمومية بجودة عالية للمرتفق.
> بقلم: ذ. ابراهيم أحطاب
أستاذ باحث كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بأكادير