مصطفى المنوزي: رئيس المنتدى المغربي من أجل الحقيقة والإنصاف
الرهان الحقيقي يظل هو محاولة إيجاد معادلة صحيحة بين ضمان الحق في الأمن
وبين حماية وتحصين الحقوق
اسمح لي أن أجيبك على سؤالك باعتماد مفهوم المخالفة وعبر طرح السؤال وفق مايلي: ما الذي لم يتحقق ؟، لا زال المفهوم الجديد للسلطة يتعثر بحكم ازدواجية المعايير داخل الدولة، فالملكية التنفيذية تتكرس يوما عن يوم في ظل عدم تحمل رئيس الحكومة لمسؤولياته كاملة في العلاقة مع ملفات حقوق الإنسان والحريات، وعدم انخراطه، هو وحلفاؤه في التكتل الأغلبي، ضمن الصيرورة الحقوقية العالمية سواء في المواثيق أو الممارسة الاتفاقية الدولية العملية، مما يطرح سؤال القيمة المضافة في وجود سلطة تنفيذية برأسين، الأولى حقيقية تمارس صلاحيتها الدستورية وكذا تلك التي تنازل عنها رئيس الحكومة صراحة وضمنا، بالقول بأن الملك هو الذي يحكم فعليا، رغم أن التعويل كان على هذه الرأس الثانية التي خولها الدستور بعض الصلاحيات لم تكن في ظل دستور 1962 / 1996 كتمرين وتجريب في اتجاه اختبار نواة الملكية الدستورية، مما يقتضي معه الأمر التفكير في ضرورة ربط الإصلاح المؤسساتي والتشريعي والسياسي بمفهوم جديد للعدل، خاصة في ظل غياب ضمانات حقيقية لعدم تكرار الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان. فرغم المجهود المبذول على مستوى إعلان النوايا وتقليص تدخل الدولة في العلاقة مع منهجية الانتهاكات خاصة في مجال الحراسة النظرية والاعتقال التعسفي والتعذيب ، فإن عدم مساءلة الموظفين المكلفين بإنفاذ القانون، ولو من باب تحميلهم المسؤولية الشخصية، يؤشر لاحتمال العودة القهقري إلى الماضي الأسود، فصحيح أنه لم تسجل حالات الاختفاء القسري والإعدام خارج نطاق القانون، لكن عدم التجريم الفعلي لحالات الاعتقال التعسفي والتعذيب وسوء المعاملة والتعنيف داخل مخافر الأمن، وبانعدام وسائل الحماية والوقاية والرقابة، يطرح افتراض وجود هذه الانتهاكات أمام وجود مسؤولية مفترضة. لذلك حان الوقت لكي تجهز المخافر بوسائل الرقابة، إخراج الآلية المستقلة للوقاية من التعذيب للوجود، وتجريم محاكمة سلوكات « الجلادين المفترضين » الذين يحرجون الدولة ويورطونها في إطار المسؤولية السياسية حول الشرعنة الضمنية لهذه الجرائم ويضربون عرض الحائط كل النوايا ولو كانت حسنة، وبنفس القدر على الدولة أن تلتزم بتنفيذ كافة تعهداتها سواء تلك المتعلقة بتوصيات هيأة الإنصاف والمصالحة أو تلك الواردة حرفيا في صك الحقوق والحريات موضوع الباب الثاني من الدستور، فلا حكامة أمنية بدون إقرار فعلي للأمن القضائي المؤسس على ضرورة تحلي منظومة العدالة بالاستقلالية عن السلطة التنفيذية وباقي السلط وعلى الخصوص سلطة المال، بغض النظر عن تمثل القضاء والقضاء لصفة وسمة السلطة.
قد يتساءل المرء هل هناك استجابة متدرجة لمطالب التغيير أم التفاف بدهاء عليها؟
مادام هناك تماهي في تحمل المسؤوليات، فالقرار الأمني والقرار السياسي المرتكز إليه لا يعرف مصدره ولا ينبغي أن نلوم « الدولة العميقة »، بل علينا أن نحاكم الأحزاب السياسية التي تعتبر أن الأمن ينبغي أن يظل فوق السياسي وداخل المجال المحفوظ للملك، والحال أن الحكومة بتنازلاتها تخلت عن المسؤولية الاجتماعية للدولة وتخلت عن البعد الحقوقي والاجتماعي في السياسات العمومية ، ليطرح السؤال حول جدوى الحكومة وبالأحرى انتخابها، خاصة هذه الأخيرة التي تم تعيينها لامتصاص النقمة والالتفاف على الحراك الاجتماعي والمطلبي ، ولا يمكن أن ننتظر من الدولة وحكومتها أن تنفتح ، بل المطلوب هو إجبارهما على تنفيذ الالتزامات الصادرة عنهما ، كل من موقعه الدستوري، أو على الأقل النضال من أجل تحصين المكتسبات والحيلولة دون الإجهاز عليها ، خاصة في ظل سياق دولي وإقليمي يتسم بتصاعد المد المحافظ وتدهور وهشاشة بنيات المقاومة والمعارضة المؤسساتية حتى، لذلك فالدور دور الأحزاب السياسية ذات الصلة بصناعة القرار الأمني والسياسي، وهذا لن يتأتي دون رد الاعتبار لمطلب استكمال التحرر الاقتصادي والثقافي، مع استحضار سؤال مهم جدا حول جدوى الديمقراطية التمثيلية في ظل وطن لازال الوزراء وحتى بعض القضاة يعتبرون أنفسهم مجرد موظفين لدى الدولة، وحول أهلية قوى المجتمع المدني لتحقيق « أحلام » الديمقراطية التشاركية.
تحيل هذه المعطيات إلى طرح السؤال الفرعي أو المتفرع، ألا وه كيف يمكن توصيف واقع الحقوق و الحريات بعد دستور 2011 أو على الأقل خلال هذه السنة الاجتماعية الجارية، وهنا أوكد بأنني لا أحبذ استعمال كلمة تراجع، لأن التراجع يعني أن الحقوق والحريات كانت في مستوى معين وتراجعت، لذلك أفضل القول بأن الحكامة والعقلانية لم تنضج بالقدر الكافي وبأنه لم يتم القطع بشكل نهائي مع ممارسات الماضي، وان كانت الانتهاكات لم تعد بنفس الخطورة والجسامة كما كانت في العهد ما قبل الحالي، وما يؤرقني أكثر هو أن حقوق الإنسان في وضع متردي جدا خاصة على مستوى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والتي في تماس مباشر مع الكرامة والحق في الأمن والحياة، وهو مجال لا تهتم به الهيئات الحقوقية بنفس القدر الذي تهتم فيه بالحقوق السياسية والمدنية، بصرف النظر عن عدم فسخ النقابات لعقد السلم الاجتماعي، وما يعوزنا ليس الحق في التعبير ولكن الحق في التقدير والتقرير، تقدير المطالب بكرامة وتقرير المصير، فقمع كل ما هو تفكير متنور وكل تعبير سلمي لدليل واضح ينذر بعواقب وخيمة، فالعنف لم يعد رمزيا بل ماديا يستهدف قيم التقدم ومشروع الديمقراطية الذي تمنى الجميع في بداية هذا العهد على أنه خيار لا رجعة فيه، وهنا أعيد ما قلت سالفا بأننا لم نحقق القطيعة وما بالك أن نحقق التغيير،
وكخلاصة ، لقد وجد العهد الجديد نفسه أمام عدة تحديات مطالب داخلية وطنية تؤطرها التزامات المؤسسة الملكية بصفة شخصية للقطع مع الماضي من خلال استكمال مسلسل الاصلاحات السياسية والمؤسساتية والتشريعية في أفق البناء الديموقراطي، ثم اكراهات دولية أي ما يمكن أن نصطلح عليه بالبيئة الحقوقية العالمية في زمن الرعب والإرهاب، والمرتبطة إلي حد ما بالالتزامات في الشأن الاقتصادي والمالي الدولي وكذا الأمني، وهو شق قد يثير حفيظة المكون الوطني في شخص أحزاب الحركة الوطنية والديموقراطية، ومن شأنه تبرير « فسخ » كل التسويات السابقة و « المصالحات » المبرمة سياسيا ، وما قد يترتب عن ذلك من اضطرابات داخلية ، فنعيش من جديد أزمة العلاقة بين مطلبي الأمن أو الاستقرار ؟
لذلك فإن أغلب الحقوقيين يراهنون على ضرورة إعمال الحكامة الأمنية كتعاقد توفيقي بين إلحاحية مطالب اللحظة الديموقراطية وبين جدوى مطالب اللحظة ما فوق وطنية، أي اللحظة الدولية ، حيث يتم التبجح بالدور الطلائعي للمغرب في « استباب » الأمن والسلام العالميين، هو في الحقيقة تمرين جد صعب، أي التوفيق بين المطلبين، ولكن الرهان الحقيقي يظل هو محاولة إيجاد معادلة صحيحة بين ضمان الحق في الأمن وبين حماية وتحصين الحقوق، فهل ستنجح الدولة والنظام السياسي بجميع مكوناته في هذا التمرين الوحيد المسموح به، من أجل تقليص تداعيات الخسارة « الحقوقية » بتفويت الفرصة مرة أخرى على اللحظة الديموقراطية المنشودة، هي فعلا موازين القوة مختلة لصالح القوى المحافظة ولكن لا ينبغي على العهد الجديد أن يرهن مصير الديموقراطية التي تتشكل ملامحها نحو المجهول، خاصة وأن الحكومة الحالية لم تؤسس بعد لضمانات عدم تكرار الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، وكم سيؤلمنا كثيرا أن تعيد الدولة ومهندسوها ما سبق أن قاله الراحل الحسن الثاني لصديقه جون دانييل، أياما قبل وفاته، عندما اعترف بوجود أخطاء خطيرة في تدبير القضايا الحقوقية في الماضي، وبأنه كانت هناك ظروف سياسية قاسية أدت إلى تغليب مصلحة أمن الدولة والنظام، على حساب أمن المواطنين والفاعلين السياسيين.
لذلك فحذار أن نضحي بقيمنا ونخل بالتزاماتنا القيمية ونحط من معاييرنا إزاء إرادة ومعايير الإرهابيين ومن يحالفهم موضوعيا.