منذ مئة عام انصرمت، اقترح ثوري فرنسي أن يكون الأول من ماي/أيار عيدا للعمال، يوما أمميا للتضامن مع كل العاملين في كل البلدان، إحياء لذكرى مذبحة عمال شيكاغو، واستذكارا لدروسها البليغة، وشحذا للهمم البروليتارية ضد المستغلين وحكوماتهم وأساليبهم، وبعد عامين من الاقتراح أقر أن يكون الأول من ماي/أيار من كل عام يوما عالميا للعمال.
ومنذ ذلك اليوم، في الأول من ماي/أيار تحتفل الطبقة العالمية العالمية، وتجدد العزيمة على مواصلة العمل والنضال من أجل مستقبل عمالي عالمي.
من عمال شيكاغو، من مصنع ماك كرومك، ومن مجزرة هاي ماركت، اندلعت الإضرابات العمالية، وعرفت الطبقة العاملة معنى التضامن العمالي، والإضراب وسيلة الكفاح، وأدركت بحسها الطبقي عمق الهوة بينها وبين الذين يكنزون الذهب والفضة، ويدسون جواسيسهم بينها، ليلقوا بالقنابل الموقوتة وغيرها، وليكسروا الإضراب، وليدمروا وسائل النضال، وليشوهوا الحركة وليزيدوا أعمارهم وثرواتهم.
ومنذ ذلك اليوم، ومازالت القصة متواصلة، صورة وتفاصيل، نضالا متواصلا وعملا مثمرا وكفاحا لن يلين، في شيكاغو الأمريكية وهنا وهناك.
في عالمنا العربي أيضا، احتفل العمال والثوريون بهذا العيد العالمي، وتصدروا مع الحركة العمالية العالمية، وأنشدوا النشيد الأممي، ورفعوا الرايات العمالية واللافتات والزهور الحمراء.
لقد كان للاحتفال بعيد العمال تاريخ، أو مر بتاريخ طويل من فرح الحفل إلى غرف الزنازين والسجون والمعتقلات الرهيبة، من توزيع منشورات سرية أو طبع صحيفة إلى أعواد المشانق والموت تعذيبا تحت مقصلات المستعمرين وصنائعهم. في نور شمس، وعكا، وأبي زعبل، والحراش، والجفر، ونقرة السلمان، وغيرها الكثير… في البر والبحر والسماء، من أغنية عذبة إلى مسيرة جماهيرية إلى نقابة علنية، إلى اتحاد عمالي، من اجتماع سري، إلى تجمع عمالي، إلى اتحاد عمالي، مؤتمر عام، اتحاد عربي.
وعلى ذمة الرواة، فقد كان أول احتفال بعيد الأول من ماي/أيار، عيد العمال العربي، كان العام 1907 في لبنان، في ذلك الزمان، في سنة 1907، كما يروي يوسف ابراهيم يزبك، والبلدان «العثمانية» بأسرها رازحة تحت نير الحكم الأوتوقراطي، تئن من جور عمال السلطان عبد الحميد، وكان يعيش في بيروت قبضة من الشباب المستنيرين، الفرسان الشجعان، الشبيبة الحرة، وفي محلة الروشة ببيروت، على رمال الشاطئ، بعيدا عن عيون الرقباء، هيأوا الشارات الحريرية الحمراء، وعلقوها على صدورهم احتفالا وابتهاجا، وكان ذلك الاحتفال أول احتفال في عالمنا العربي، وتلته الاحتفالات و»الاحتفالات»!.
نمت وتصاعدت الحركة العمالية وتشكلت منظماتها السياسية والثقافية، جرت أيضا الاحتفالات بعيد العمال العالمي. فنشطت الأحزاب والنقابات إلى نشر بيانات بالمناسبة، وإلى النضال من أجل تحقيق المطالب السياسية والاقتصادية للعمال وللشعب العربي الفلسطيني.
وكانت الصحف العمالية واليسارية في فلسطين تشيد بالعمال والحركة العمالية في كل ماي/ ايار من كل عام. فقد نشرت مجلة «حيفا» الأسبوعية في عددها الصادر في 30 نيسان/ أبريل 1925 كلمة عن معنى أول ماي/أيار وما يعانيه العمال في العالم الرأسمالي من اضطهاد، ودعت إلى الاحتفال به وإلى وحدة صفوف العمال، وتحت عنوان «أيارنا المحبوب» كتبت تقول: «لم يسبق أن رأينا عيد عمال فلسطين عيد العمال العظيم (اول ايار) قبل اليوم لأن حياتنا اليومية الشقية كانت تحول دون الاجتماع المنظم في هذا العيد للتفكير بالجهاد في سبيل نوال حقوقنا.»..
لغاية يومنا هذا كانت جماعات قليلة تتوقف عن العمل في مثل هذا اليوم في فلسطين قائمة بعيد أول أيار، إنما في هذه السنة سينضم إلى هذه الجماعات جماهير ليست بقليلة».
حيت صحيفة «إلى الأمام» في عددها الصادر في أيار/ مايو 1930 عيد العمال العالمي. كاتبة: «يقترب يوم أول أيار (مايو) وتقترب معه أوقات التظاهر والكفاح والتضحية، يقترب يوم أول أيار وتقترب معه العواصف الثورية والفورات البركانية، يقترب يوم أول ايار والنفوس هائجة ممتلئة حماسا، أجل، يصادفنا أول أيار هذه السنة ونحن في أحوال وظروف عالمية عصيبة جدا.. يصادفنا وإخواننا ورفاقنا الثوار يعانون أنواع الظلم والاضطهاد في السجون الانكليزية. يصادفنا وكثير من العمال والفلاحين ينتظرون الأحكام القاسية على أيدي الجلادين الانكليز سفاكي الدماء البريئة. يصادفنا والصهيونيون أعوان الاستعمار وجنوده يستمرون في سياستهم.. المجرمة المؤدية إلى إفقار الجماهير العاملة.. يصادفنا والزعماء الوطنيون الارستقراطيون يتمادون في الخيانة والتضليل وذر الرماد في عيون الشعب العامل. إذن فأول أيار سنة 1930 سيكون له أهمية عظمى في تاريخ حركة العمال الثورية الدولية في فلسطين».
ويعقد اجتماع شعبي في الأول من أيار 1944 تحضره جموع غفيرة، وتقول الكلمات أشياء كثيرة، عن العيد، والعمال، والاضطهاد، والمشاريع الاستعمارية والصهيونية ويختتم الاجتماع باتخاذ القرارات التالية:
1- باسم الجماهير العربية التي تحتفل في يوم أول أيار، عيد الشعوب وذكرى كفاحها البطولي، تستنكر عصبة التحرر الوطني قرار لجنة التحقيق الاستعمارية وتجدد مطالبها العادلة لإلغاء الانتداب وإنشاء حكومة وطنية ديمقراطية في فلسطين، وهي تناشد القوى الشعبية والأحزاب الوطنية أن تتحد في وحدة وطنية ديمقراطية متينة لمتابعة قضيتنا أمام مجلس الأمن ومنظمة الأمم المتحدة.
2- باسم الجماهير العربية المحتفلة بأول أيار تستنكر عصبتنا سياسة الحكومة الاستبدادية وتطالب الإدارة لأن تلبي مطالب العمال والموظفين، وأن تشيع الحريات الديمقراطية.
وفي يافا، يحتفل العمال، ويجتمعون ويتخذون قرارات يوجهون فيها تحياتهم إلى عموم أبناء الطبقة العاملة في مختلف بلاد العالم، وإلى جميع العمال العرب في فلسطين طالبين إليهم أن يعملوا لتحقيق الوحدة، وإلى الشعب العربي طالبين إيجاد هيئة وطنية عليا تنطق باسمه وأن تكون منتخبة انتخابا.
بعد الحرب العالمية الثانية، في أيار 1945، العمال العرب يحتفلون بذكرى أيار تحت شعار «الانتصار للعمال الكادحين والموت للطغاة الظالمين» يمجدون العمل والعمال ويهيبون بنصرة قضاياهم، والنضال معهم لنيل حقوقهم الوطنية والطبقية.
ويواصل العمال الفلسطينيون احتفالاتهم في عيد العمال العالمي. ومنذ أول تشكيل نقابة عمالية في سكك الحديد، والموانئ والمواصلات، أضرب العمال في فلسطين، وأعلنوا مطالبهم، وفي كل هبة شعبية وانتفاضة يسهمون بدورهم فيها… ومن انتفاضة إلى انتفاضة، من ثورة البراق إلى انتفاضة كانون، يجدد العمال الفلسطينيون بطولاتهم ونضالهم من أجل القضية والوطن.
ويصادف أيار هذا العام ، كما صادف في الأعوام المنصرفة، كفاحا شعبيا متصاعدا، كفاحا دمويا، يوميا، بل كل ساعة، سلاحها الحجارة والمولوتوف والإيمان بالنصر وعدالة القضية.. ويسهم العمال الفلسطينيون فيها، فيترك حوالي مئة ألف عامل أعمالهم في مشاريع العدو ليقودوا اللجان الشعبية ويواصلون الانتفاضة، ويشاركون أشقاءهم في المدن الأخرى، وليعلنوا سوية الإضراب عن العمل، والاستمرارية، والجرأة في المقاومة والنضال، وتلك شعارات العمال في عيدهم، وهم يستقبلون أيار القادم لهم بالنصر والمستقبل المنتظر.
——————————————————————
* هذه الكلمات نشرتها في مجلة فتح الفلسطينية بعددها 159 بتاريخ 14/5/1988 وأعيد نشرها الآن، نصا، لما لها من استمرارية في معانيها ودلالاتها، يومها واليوم وغدا، في عيد العمال والانتفاضات في فلسطين وغيرها، وأهمية دور العمال وحركة العمال في التغيير والبناء، في وطننا العربي عموما. ولعل ما ورد فيها يذكر بتلك الأيام وتلك البطولات والتضحيات، ويقدم تجربة وعبرا يستفاد منها ويتم التعامل بموضوعية معها في النضال المستمر والتواصل تاريخيا في كفاح الشعوب وحركة التحرر الوطني والقومي.
* كاتب عراقي مقيم بالمهجر
> بقلم: كاظم الموسوي *