لعنة البيروقراطية

الخذلان محرك جيد للتفكير، للتقدم، للكتابة وحتى للحرب.. وأحيانا لتغيير الحياة وما شابه ذلك.. لأنه يعطيك دافعا وغضبة أو الشعور بصدمة لم تنتظرها، تجعلك ترتقي أو ربما أكثر تحفزك للتمرد. وهذا تفسيري اليوم كي أثور على البيروقراطية التي تنخر إدارات المؤسسات، تلك البيروقراطية التي فقدت مفهوم التراتبية والهيكلة والتنظيم لتجسد مفهوم الفساد الإداري بتكريس الريع قانونيا ثم مسح وفسخ ومسخ الديمقراطية بشكل عام.

أكيد أن البيروقراطية ليست عائقاً أمام الديمقراطية، وإنما مكمل حتمي لها، وهذا ما يؤكد أن الديمقراطية الممنهجة تذيب مساحيق الديمقراطية المستعملة في أقنعة المسؤولين بمساحيق بيروقراطية هجينة، أو إن صح التعبير، بيروقراطية انتهازية تجسد الانحراف الإداري، وذات وجهين، ترتدي قناع القانون تارة حين يكون القانون مفيدا، وترتدي قناع الأعراف تارة أخرى لغرض في نفس يعقوب. ثم تستغل من طرف الموظفين الذين يلجؤون للاحتماء خلف مساطيرها مما يجعلنا نطرح سؤالا: هل نحن متساوون بيروقراطيا أمام الإدارة المغربية؟ هل البيروقراطية هي التي تطالب بالتوظيف بالزبونية؟ هل البيروقراطية تدعو إلى التمييز بين المواطنات والمواطنين؟

لا شك أننا أمام أكثر من تحد، إذ لا يمكن أن تعطى الإدارة سلطة التقرير في المسائل السياسية، التي يعهد بها إلى السلطة التنفيذية أو التشريعية. وهذا لا يعني الاستغناء عن الدور الكبير الذي تقدمه الإدارة لمتخذ القرار السياسي، على صعيد التزويد بالمعطيات الضرورية والخيارات الممكنة. وإذا كان هذا يعني علو «السياسي» على «البيروقراطي»، فإن هذا لا يعني تحكمه فيه. إذ تحتفظ الإدارة بمجالها المستقل (قواعد مستقلة؛ تراتبية خاصة؛ حقوق خاصة؛علاقات مع المحيط وفق ضوابط؛…).

لكن للأسف يظل البيروقراطي يؤمن بالديمقراطية المزعومة من السياسي المسؤول الأول عن الإدارة وخدمة أجندته في ظل إهمال تام لبرامج الإدارات وإغفال أدوارها المنوطة بها، ويظل ما يشغله هو الخضوع والخنوع ثم تلميع وجهه السياسي ليضمن بقاءه ويضمن منصبه أو بالأحرى مقعده المريح.. وهنا يتحول الفاعل الإداري إلى فاعل للثناء والولاء لسياسة المسؤول السياسي بدون جدال ولا سجال ضاربا عرض الحائط مصلحة المستخدمين ومصلحة البلاد. لا يبالي لا بضعف المنتوج الإداري وضعف المردودية، ولا بضعف الفعالية والنجاعة للبرامج والمشاريع التي التزم بإنجازها.

مثلا إذا ما نظرنا إلى المقاربة التواصلية داخل الإدارات، نجد أن التواصل لا يخدم تطوير البرامج والمشاريع ولا تغطيتها، بقدر ما يتم توظيفه في استنزاف كل أدوات وآليات الطاقات التواصلية في تلميع صورة المسؤول السياسي وتغطية تحركاته في كل خطوة يمد فيها ساقه ويحرك فيها يده أو ذراعه، أو ملامح وجهه أثناء الخطابات.. وهذا ما يتسبب في إضعاف المؤسسات والإدارات، ومن العواقب التي تنتج عن ذلك فقدان المصداقية وفقدان ثقة المستخدمين وضعف دعمهم لبرامجها وبالتالي تتولد عن كل ذلك مسافة سلبية بين الأهداف والنتائج.

من عوامل البيروقراطية الانتهازية الافتقار إلى العفة وإلى الثقة في النفس في ظل غياب قدرات وطاقات وكفاءات، وفي ضوء طبيعة البناء الحكومي الذي يشجع ويساعد على انتشار الفساد البيروقراطي. فضلًا عن ذلك، فإن الفساد يفرض على المجتمع تغيرات تؤثر سلبًا على القيم التي يعتنقها. أكثر من ذلك فالبيروقراطية تساهم في الاختلال على مستوى الأداء السياسي داخل الإدارة ما ينتج عنه علاقة غير متوازنة بين السلطة السياسية والسلطة الإدارية.

أغلب الدراسات والبحوث تبين بالدليل والبرهان أن ضعف الأداء الاقتصادي للمؤسسات الحكومية، وعدم التوزيع العادل للثروة بين أفراد المجتمع، وانخفاض الرواتب والأجور في ظل ارتفاع الأسعار، وانتشار الفقر، وارتفاع معدلات البطالة، ومحدودية فرص التوظيف، وسوء التخطيط في استخدام الموارد، كل ذلك يؤدي إلى تشجيع انتشار ظاهرة الرشوة، التباطؤ والتردي، ثم انتهاك القوانين والأنظمة والقواعد المالية التي تنظم وتحكم النشاط الإداري والمالي في المؤسسات الإدارية.

لطالما تساءلنا بحرقة ومرارة عن المحاصصة السياسية على مستوى المناصب، باعتبارها مسألة خطيرة تدفع باتجاه إضعاف أداء جهاز الإدارة، وهذه هي نتيجة تدنى الأداء بسبب انشغال الجهاز في تنفيذ مطالب الجهة السياسية التي ينتمي إليها المسؤول الأعلى، فضلا عن ضعف الأداء المهني لأن الاختيار لم يخضع لمعايير الجدارة والمهارة الأدائية والنزاهة.. بل وفي كثير من الأحيان يكون المعيار صنع على قد المقاس، مما سيؤدي إلى جهاز معتل بسبب اختلال أسس بنائه البعيدة عن الكفاءة والجدارة والاستحقاق والنزاهة.. مما يفرز جهازا إداريا غير مستقر بحيث سيتبدل كلما تغيرت التوازنات السياسية.

لكن يظل السؤال اللعين عالقا بين أيدينا مادمنا لا نتوفر على أي ضمانة لإنجاح الإصلاح الإداري لا في ظل السياسي ولا في ظل البيروقراطي. وماذا عسانا نفعل إذا استشعرنا أن التنمية الإدارية أصبحت أكثر ثقلا من التنمية في باقي المستويات الأخرى؟ لماذا لا نتوفر على قيادات إدارية نزيهة وشجاعة لمواجهة أخطار الفساد البيروقراطي والتسيب؟ وهل لنا إلا أن نؤيد المقولة التي ما فتئت تقر بأن فشل محاولات التنمية لا يكمن في ضعف البيروقراطيات العمومية بقدرما يكمن في قوتها المبالغ فيها؟

< بقلم: حسناء شهابي

Top