وأنا أتواجد في العاصمة الإيطالية روما لتمثيل البرلمان المغربي في ندوة دولية حول الهجرة واللجوء والإرهاب، داهمنا زلزال عنيف ليلة السبت 26 أكتوبر الماضي، لكن الصدمة كانت آنية ومحدودة. وما كنت أتوقع وأنا ألتقط أنفاسي أن أجد زلزالا أقوى وقعا وأشد أثرا وأنا أعود إلى بلدي المغرب.
لقد كانت وفاة الشاب محسن فكري في ظروف مأساوية وقاسية زلزالا نفسيا وسياسيا قويا ومدويا، وكانت صورة موت الشاب ذي الثلاثين ربيعا بطريقة مأساوية مضغوطا بين فكي شاحنة لجمع النفايات في مدينة الحسيمة أثناء مصادرة شحنة سمك غير مرخصة، مثيرة للاشمئزاز وتعتبر عارا على جبيننا جميعا، محدثة برمزيتها زلزالا عاطفيا مدويا بالفعل، مما حرك مشاعر المغاربة وأثار موجة كبيرة من الحزن والغضب والاستنكار الشعبي العفوي والواسع.
إن تعبير “طحن مو” والذي تداولته تغريدات تويتر ومواقع التواصل الاجتماعي ومختلف وسائل الإعلام الوطنية والدولية بشكل واسع – حتى ولو لم يثبت أن أحد المسؤولين قد تفوه به حقيقة – هو في حد ذاته رسالة مدوية وقوية، والأكيد أنه سيبقى شعارا راسخا في ذاكرة المغاربة، وسيصبح بعد ليلة الجمعة 28 أكتوبر 2016 رمزا للحكرة والاحتقار والإهانة، وسيصبح يوم 30 أكتوبر 2016 مثله مثل يوم 20 فبراير 2011، مؤشرا إلى موعد تاريخي ونقطة حاسمة في طريق الإصلاح وبناء الوطن والمواطنة ودولة الحق والقانون والمساواة وتكافؤ الفرص، لكي لا تذهب الروح الراحلة هباء وسدى.
إن التنديد الشعبي العفوي الواسع والحضاري والمسؤول بالجريمة التي وقعت في مدينة الحسيمة أمر صحي، ويؤكد بحق نضج المجتمع المغربي وحسن تقديره لحساسية المرحلة، وهو كذلك تأكيد على محورية معركة “الكرامة” ضمن المطالب الشعبية الأساسية، والتي أصبحت معطى بنيويا يتعين على الإدارة المغربية بمختلف مستوياتها، سواء تعلق الأمر بالمصالح المركزية أو بالإدارة الترابية أو بالمجالس المنتخبة أو بالمصالح الجهوية للقطاعات الوزارية، أن تتعامل معه بالجدية والحزم والانخراط القوي اللازم.
فدستور 2011 يؤكد بأننا بصدد بناء دولة ديمقراطية يسودها الحق والقانون، تواصل بعزم مسيرة توطيد وتقوية مؤسسات دولة حديثة، مرتكزاتها المشاركة والتعددية والحكامة الجيدة، وإرساء دعائم مجتمع متضامن، يتمتع فيه الجميع بالأمن والحرية والكرامة والمساواة، وتكافؤ الفرص، والعدالة الاجتماعية، ومقومات العيش الكريم، في نطاق التلازم بين حقوق وواجبات المواطنة.
والمطالبة بكفى من “طحن مو” هو مطالبة صريحة بأن لا تتكرر المأساة مرة أخرى، وهو تذكير للحكومة المقبلة بأن مهامها جسيمة، ومن ضمنها تفعيل الدستور الذي يؤكد في فصله 22 بأنه لا يجوز المس بالسلامة الجسدية أو المعنوية لأي شخص، في أي ظرف، ومن قبل أي جهة كانت، خاصة أو عامة، ولا يجوز لأحد أن يعامل الغير، تحت أي ذريعة، معاملة قاسية أو لا إنسانية أو مهينة أو حاطة بالكرامة الإنسانية.
كما جاء الخطاب الملكي الأخير ليوم 14 أكتوبر 2016 ليؤكد بأن “الهدف الذي تسعى إليه كل المؤسسات هو خدمة المواطن، وتمكينه من قضاء حاجته في أحسن الظروف والآجال وتبسيط المساطر وتقريب المرافق والخدمات الأساسية”.
وبالتالي فإن الفهم الصريح لفحوى ودلالات ومعاني الخطاب الملكي السامي يقتضي الكف عن كل تصرفات التعالي والعجرفة والإهانة التي تواجه بها الإدارة المواطنين أحيانا، وأن التقدير الصحيح لهذه المسؤولية الوطنية والأمانة الجسيمة لا يقبل التهاون ولا التقصير ولا الاستخفاف بمشاعر المواطنين.
وكثير من التقصير والتهاون والاستخفاف بالمسؤولية أدى إلى هذا الفعل الشنيع والمخجل، عندما علقت الضحية في مطحنة حاوية لنقل النفايات، وانكسرت عظامها بين فكي طاحونة فولاذية، بينما كان يحاول على ما يبدو اعتراض عناصر شرطة في المدينة ومسؤولين في الإدارة سعوا إلى مصادرة بضاعته وإتلافها.
إن المطلوب اليوم هو تفعيل الخطاب الملكي، واتخاذ تدابير جريئة وحازمة لجعل المواطن المغربي حاضرا بقوة في معادلة الإدارة ومؤسسات الدولة، وتفعيل القوانين والاحتكام إليها واعتماد المساواة ما بين المواطنين كيفما كان موقعهم أو ثروتهم أو سلطتهم…
ومسؤولية السلطات العمومية قائمة في هذا المجال، والمواطن المغربي ينتظر موقفا حازما وقويا، لكي نحتكم كلنا بدون استثناء لأحكام الدستور ولمقتضيات القانون، ولا شئ غير القانون.
رحم الله الفقيد محسن فكري وتعازينا الحارة لعائلته ولأصدقائه وأقاربه.
إنا لله وإنا إليه راجعون…
رحم الله الفقيد محسن فكري
الوسوم