مع حلول فترة الدخول المدرسي، ترتفع أصوات العديد من الآباء والأمهات وأولياء أمور التلاميذ هذه الأيام، لاستنكار وإدانة الأسعار المهولة التي باتوا يكتوون بنارها، لا لشيء إلا لأنهم اختاروا تدريس أبنائهم في قطاع التعليم الخصوصي.
وعندما نقول “اختاروا” فإن التعبير يبقى جزافيا، لأن هؤلاء الآباء والأمهات يؤكدون أنهم لم يكونوا ليلجأوا إلى المدارس الخصوصية لو أن القطاع العمومي يضمن لهم أبسط الشروط للاطمئنان على المستقبل الدراسي لفلذات أكبادهم. فـ “كلنا خريجو المدرسة العمومية”، يؤكد هؤلاء المواطنون، المدرسة التي خرجت أجيالا من الأطر ونخبا من الكفاءات في جميع المجالات، لكن الأزمة الخطيرة التي يعيشها التعليم العمومي منذ سنوات عديدة، جعلت القطاع الخاص يبدو مثل متنفس للعديد من الأسر التي لجأت إليه لتدريس أطفالها بمنطق “مضطر أخوك لا بطل”.
هذا المتنفس أضحى اليوم بمثابة حبل ملتف على رقاب الأسر يخنق أنفاسها ويهدد استقرارها المادي والمعنوي، ويزداد الحبل التفافا مع حلول موعد الدخول المدرسي من كل سنة، حيث تفرض معظم المدارس الخاصة في جميع الأسلاك التعليمية زيادات صاروخية في أسعار التأمين وواجبات الدراسة، ناهيك عن لوائح المناهج والأدوات المدرسية التي تتضمن في غالب الأحيان مقررات مستوردة بمبالغ مرتفعة ومستلزمات مبالغ فيها كما وكيفا.
السيدة سميرة، على سبيل المثال، والتي التحق ابنها بالسلك الثانوي للمدرسة الخاصة التي درس بها السلكين الابتدائي والإعدادي، بمدينة الدار البيضاء، عبرت لنا عن استغرابها من إقدام إدارة المؤسسة هذه السنة على رفع رسوم التأمين والتمدرس بأزيد من 1000 درهم مرة واحدة، ودون إعلان مسبق. وعندما عبرت عن استنكارها لهذا الأمر أمام المسؤولين عن المؤسسة، كان الجواب الأول والأخير لديهم هو “إلا ما عجبكش الحال ألالة خذي ولدك لمدرسة أخرى”!
فاطمة مواطنة أخرى انتقل طفلها بدوره هذه السنة من مدرسة ابتدائية خصوصية إلى أخرى جديدة ملتحقا بالسلك الإعدادي. وبعد أن قامت الأسرة بأداء جميع الرسوم، واقتناء جميع الأدوات المدرسية، فوجئت بمطالبة الإدارة بأداء 400 درهم إضافية لاقتناء مقرر إضافي للغة الإنجليزية يتم توفيره من قبل المؤسسة نظرا لعدم وجوده في المكتبات. فاطمة عبرت لنا عن امتعاضها من الأمر قائلة: “أتمنى على الأقل أن يستفيد ابني من هذا المقرر الجديد وألا يكون مصيره مثل عدد من المقررات الإضافية التي نقتنيها بأسعار مرتفعة كل سنة بحجة تعزيز تكوين التلاميذ باللغة الفرنسية في مواد كالرياضيات والفيزياء مثلا، لكنهم لا يدرسون منها سوى درس أو درسين، بينما يتم التركيز على مقررات اللغة العربية بحجة أنها لغة الامتحانات”.
مواطن آخر عبر لنا كذلك عن استغرابه من كون لائحة الأدوات المدرسية لابنته التي تدرس في السلك الابتدائي تضمنت هذه السنة أيضا ما لا يقل عن 10 عبوات لصاق، ومقلمتين مزودتين بجميع الأدوات لتبقى إحداهما في الفصل، فضلا عن عدة علب للمناديل الورقية وغيرها من الطلبات المبالغ فيها.
العديد من المواطنين ما فتئوا يعبرون أيضا عن استيائهم من المستوى التعليمي المتردي للكثير من المؤسسات التعليمية في القطاع الخاص، والتي تعاني مشاكل عدة على مستويات أخرى كتوفير الموارد البشرية الكفأة سواء في مجال التدريس أو الإدارة التربوية، وعدم احترام المقررات الدراسية، وسوء التسيير والتدبير، مما ينعكس سلبا على التحصيل الدراسي للتلاميذ، ويجعل الأسعار المرتفعة التي تطالب بها تلك المؤسسات غير متناسبة مطلقا مع مستوى جودة الخدمات التي تقدمها، وذلك في غياب كبير للمراقبة والمتابعة من قبل المسؤولين عن القطاع، ورفض جل تلك المؤسسات لتأسيس جمعيات لآباء وأولياء التلاميذ.
إنه غيض من فيض معاناة الآباء والأمهات مع التكاليف المرهقة لدراسة أبنائهم في المدارس الخصوصية، مما يجعلهم يتساءلون أين دور الدولة في كل هذا؟ فإذا كانت الوزارة الوصية قد جاءت هذه السنة بخطة إصلاحية أشاد بها الجميع في مجال إعادة تأهيل وتحسين فضاءات ومناهج التعليم، إلا أن الاهتمام انصب بشكل أكبر على التعليم العمومي، وهو اختيار مفهوم نظرا لحجم المشاكل التي يعرفها القطاع… لكن القطاع الخصوصي الذي ترك له المجال مفتوحا لسنوات عديدة بدعوى تشجيعه على تقديم بدائل أفضل لفائدة فئات واسعة من التلاميذ، صار في نفس الوقت يتحول سنة بعد أخرى إلى “غول” كبير يستغل التسهيلات التي تمنحها له الدولة ويمتص دماء المواطنين الذين أصبح الكثيرون منهم مضطرين إلى الاستدانة من أجل تدريس أبنائهم، وهو سبب آخر من أسباب استنزاف فئات عريضة من المواطنين البسطاء وحتى أولئك المنتمين للطبقات الوسطى.
وفي هذا السياق، جاء طرح المجموعة النيابية لحزب التقدم والاشتراكية، مؤخرا، لسؤالين كتابيين على وزير التربية الوطنية والتكوين المهني والتعليم العالي والبحث العلمي، نشرتهما بيان اليوم في عددها ليوم أمس، بشأن ما يمكن اتخاذه من إجراءات وتدابير لوضع حد لمعاناة الأسر مع الأسعار المرتفعة في مدارس التعليم الخصوصي.
ولاحظ النائب جمال كريمي بنشقرون، عضو المجموعة النيابية لحزب التقدم والاشتراكية، في سؤال كتابي حول ارتفاع رسوم التأمين بالمؤسسات التعليمية الخاصة، أنها تفوق بكثير نظيرتها في مؤسسات التعليم العمومي، وتنضاف إلى عبء الواجبات الشهرية للدراسة التي تتحملها الأسر؛ لتتحول بذلك مؤسسات التعليم الخاص، يقول كريمي بنشقرون، من شريك أساسي للقطاع العام في تمدرس أبناء المغاربة وتربيتهم، إلى شركات ومؤسسات للتأمين هدفها الربح والاغتناء السريع.
كما تساءل كريمي بنشقرون عن التدابير التي يمكن اتخاذها من أجل سعر مرجعي موحد لكل مؤسسات التعليم الخاص، بغض النظر عن مبرر اختلاف الخدمات من مؤسسة إلى أخرى، خاصة في ظل الزيادات الصاروخية التي تفرضها أغلب المؤسسات التعليمية في القطاع الخاص، دون خضوعها لأي مراقبة أو مساءلة من قبل الوزارة الوصية.
سميرة الشناوي