الحكرة في الحراك المغربي

ترمز مفردة «الحكرة» في العربية المغربية إلى الاحتقار والاستعلاء من قبيل «حنا لمغاربة حكارة»، «كنس حكار»، «حكرتيني»… انتقل معنى المفردة إلى معنى «اللامساواة الاجتماعية» و»الظلم الاجتماعي» عبر انزلاق دلالي «glissement sémantique» هم قنوات التداول الخاصة «sociolecte» داخل شبكة المجتمع المدني. يرمز مفهوم الحكرة في هذا الحقل الدلالي إلى الحقوق المدنية المرتبطة بالمطالب المادية والمعنوية مثل الحق في الصحة، في الشغل، في التمدرس، في اللغة، في المساواة، في الاحترام، في الكرامة…
ليست الحكرة شعورا يعبر عنه أو يكشف عنه من خلال حالات البوح الفردية أو الجماعية، إنه أساسا «مشهد حدث» يتم التقاطه وتوزيعه وتشاركه. كما يمثل توظيف هذا المفهوم شحنة ناقلة للتعبئة المواطنة والفعل النضالي المزمع القيام به: مسيرة، وقفة، اعتصام.. وهكذا تحول المفهوم من ساحة عامة يشغلها فاعلون غير منظمين إلى ساحة خاصة يِؤطرها فاعلون منظمون ينتمون إلى المجتمع المدني (الحركة الأمازيغية، المغاربة القاطنون بالخارج، الصحافة، الجمعيات النسائية، حركة 20 فبراير، جمعيات الدفاع عن حقوق الإنسان…)
ينتج عن الشعور بالحكرة توجه ضمني وشكلي إلى عنف خطابي، لذا وجب التمييز بين «الحكرة الكلامية» «hogra dite» التي تخص الخطابات حول اللامساواة الاجتماعية و»الحكرة المتحركة»«hogra agie» التي تترجم عبر حراك المجتمع المدني من قبيل المسيرات والوقفات والاحتجاجات. فلفظة «الحكرة» تكاد تكون الكلمة الموحدة (leitmotiv) لجميع الأطياف (السلفيون، الأمازيغيون، اليساريون، الإسلاميون ومواطنون من مشارب مختلفة). من هذه الزاوية، يمكن كذلك التمييز بين مفهوم ينطبق على حالة داخلية من اللامساواة الاجتماعية تتحدد ملامحها داخل حدود الوطن: «حكرة داخلية» أو حكرة مغاربة المغرب ومفهوم آخر يرصد حكرة يمتد مداها خارج الوطن (أوربا وأمريكا): حكرة خارجية أو حكرة مغاربة الخارج.
أدى اعتماد الحركات الاجتماعية لحلبات واقعية وأخرى افتراضية إلى ظهور أنساق مفاهيمية جديدة مثل مفهوم «الحكرة» الذي عرف استعمالا متميزا في كل من المغرب والجزائر. سنحاول أولا رصد الإرهاصات الأولية للمفهوم، ثانيا إبراز أشكال التعبير عن الشعور بالحكرة أو اللامساواة الاجتماعية من خلال بعض نماذج حراك المجتمع المدني، لننتهي إلى اقتراح مقاربة نظرية لنسق مفهوم الحكرة من زاوية العلوم الاجتماعية.

الإرهاصات الأولية للمفهوم

في سنة 2001 وظفت مفردة «الحكرة» في سياق الحراك المجتمعي من طرف الحركة الديمقراطية الجزائرية للدلالة على سلوك ‹›الاستعلاء» الذي تنهجه السلطة الجزائرية تجاه الطبقات الشعبية. أما في المغرب، فقد استعمل المفهوم سنة 2004 للتعبير عن حالة المنع الذي تعرضت له بعض الجرائد الجهوية مثل «Ici et maintenant» بمدينة ورززات أو «منبر بني ملال» بجهة تادلا أزيلال. وفي 22 يناير من سنة 2007 دعت الحركة الأمازيغية إلى وقفة احتجاجية ضد «الحكرة» أمام مبنى البرلمان بالرباط تضامنا مع الضحايا الثلاثين لأنفكو وأنمزي وتونفيت.
أما في ما يتعلق بجمعيات المغاربة القاطنين بالخارج، فقد تقرر تاريخ 26 أكتوبر يوما عالميا ضد «الحكرة»، حكرة المغرب للمغاربة القاطنين بالخارج. كما اعتبرت سنة 2009 من طرف جميع الفاعلين في الحقل الإعلامي سنة «حكرة» الصحافة المغربية قياسا على الدعاوى المرفوعة ضد عدد من الصحف: أخبار اليوم، الجريدة الأولى، المشعل، Economie&Entreprises، المساء، الأحداث المغربية، Tel Quel ونيشان.
وفي سنة 2011 اندلعت موجة من التوتر الاجتماعي بالجزائر أسفرت عن اشتباكات عنيفة بين قوات الأمن والمحتجين. رفع فيها الشباب المؤطرون من طرف جمعيات المجتمع المدني شعارات منددة بحالة «الحكرة» التي يعيشونها.
وفي نفس السنة كان المغرب على موعد مع موجة من الاحتجاج بدأت في 20 فبراير ضمت غالبية مكونات المجتمع المدني وبعض التكوينات السياسية والجماعات الإسلامية. وقد تميز هذا الحراك المجتمعي بتبنيه لخطابات وشعارات ترمي في مجملها إلى المجاهرة باللامساواة وانعدام العدالة الاجتماعية. فتم تنصيب مفهوم «الحكرة» ككلمة مفتاح لحركة شباب 20 فبراير في الفضاء الواقعي (المسيرات والتجمعات) والفضاء الافتراضي (الفايسبوك والتويتر والمواقع الخاصة بالحركة).

المجتمع المدني والتجليات العامة لمفهوم الحكرة

يتجسد مفهوم الحكرة في منظومة المجتمع المدني من خلال عدة تنويعات شكلية منها النداءات (نداء تيموزغا من أجل الديمقراطية بتاريخ 20 أبريل 2011 …)، المذكرات، الشعارات («مكافحة الحكرة» «الاستمرار في درب النضال ضد غلاء المعيشة، البطالة التهميش، الحكرة»…)، التعددية اللغوية (الدارجة، الأمازيغية، العربية، الفرنسية، الانجليزية) التكتلات الافتراضية، المظاهر الاحتفالية (وصلات مسرحية أمام مبنى البرلمان …).
ويمكن إيجاز الحقول المطلبية التي تبنت مفهوم الحكرة في ما يلي: الحقل اللغوي والثقافي الأمازيغي (المأسسة والدسترة)، حقل العدالة الاجتماعية (الحق في الحماية الاجتماعية، في الصحة، في المدرسة، في الشغل…)، الحقل الهوياتي (إشكالية الانتماء إلى مجموعات ومنظومات بعينها)، الحقل الشخصي والفردي (الكرامة، الإنصاف، مصادرة الألقاب الأمازيغية…)، حقل التهميش الترابي والمحلي (التجاهل الرسمي لبعض المناطق القروية والجبلية)، حقل العلاقة مع الدولة (التمييز، الريع، التشنج والصدامية…)، حقل حقوق الإنسان (حرية التعبير، الصحافة، المناصفة…).
يتبين بموازاة هذه الحقول المطلبية أن اعتماد مفهوم الحكرة يمثل صيرورة للرفض وعدم قبول التوافقات إلى حد إعادة النظر في بعض المسلمات مثل تغييب العلم الوطني في بعض المسيرات (مسيرتا 5 يونيو بالناضور وطنجة). كما تجدر الإشارة إلى أن مفهوم الحكرة كمحرك لدينامية المجتمع المدني يتسم بالتباين حيث يمكن أن نميز بين مواقع الإصرار «Territoires de persistance» مثل طنجة والدار البيضاء ومواقع التلاشي «Territoires de dissolution» مثل الناضور ومدن أخرى. في المقابل يمكن كذلك رصد التداعيات التنظيمية داخل مكونات المجتمع المدني من خلال التطورات الميدانية، تراجع واستقالة بعض المجموعات وبعض الأفراد (العدل والإحسان، براكا، بعض اللجن المحلية للمجلس الوطني لدعم حركة 20 فبراير…).

المقاربة المنهجية المقترحة

من بين التساؤلات النظرية المطروحة يمكن التركيز على نوعية الأنساق التي يستدعيها مفهوم الحكرة، هل يمكن اعتبار حراك المجتمع المدني مع انطلاق حركة 20 فبراير نوعا من المطالبة بالعدالة الاجتماعية و»مكافحة الحكرة» بعيدا عن أي مشروع سياسي بديل؟ هل الحكرة كمفهوم وصفي ينطبق على الأفراد أم على الجماعات؟ إلى أي حد يمكن توطين (territorialiser) مفهوم الحكرة، هل لكل جهة أو منطقة «حكرتها» الخاصة؟ ما هي علاقة دينامية المجتمع المدني بمفهوم الحكرة وحدوده وتأثيره ونوعيته وطبيعته؟ إلى أي مدى يمكن اعتبار مفهوم الحكرة مفهوما توصيفيا للحالة المغربية والحالة الجزائرية؟ كيف يمكن استشراف تحليل وتوظيف المفهوم في خضم التغيرات الاجتماعية والسياسية لا سيما في حالة المغرب (الدستور الجديد، الجهوية الموسعة..)؟
للجواب على هذه التساؤلات يستحسن استحضار نوعية المتن والصيرورة التي تتولد عن اعتماد المفهوم موضوع البحث ونهج تحليل خطابي ودلالي يسهل تعميق الأسس المنهجية لفهم الأنساق المفاهيمية الناتجة عن فعل المجتمع المدني. لهذا يمكن للألفاظ والمفاهيم أن تتشابه (الجزائر والمغرب) أو تختلف لكن الوقائع الميدانية تتطلب مقاربة مقارنة للإحاطة بمدى موضوعية توظيف مفاهيم وتمثلات نظرية من قبيل مفهوم الحكرة لتحليل واستنباط الحالة العربية وبالخصوص حالة المغرب الكبير وبالتالي تداول إشكالية راهنية ربيع المجتمع المدني المغاربي,
من هذا المنطلق فإن مقاربة دينامية المجتمع المدني من وجهة منهجية تدمج بعض المصطلحات (مثل مصطلح الحكرة) تبدو صعبة التنميط والوصف وذلك لراهنيتها وحاضريتها (présentisme) ولحركيتها المتغيرة وتموجها وتنويعاتها. كما أن رصد المضمون الخطابي للمفهوم يلزم الباحث تتبع أجندة حراك المجتمع المدني عبر مواقع وأماكن مختلفة. وهذا ما يمكن ملاحظته من خلال تحيين الأجندات «Mises à jour des agendas» وكمثال على ذلك تحيين الأنشطة والفعل الاحتجاجي لحركة 20 فبراير عبر بوابة العالم الافتراضي اعتمادا على عدد كبير من المواقع منها «mamfakinch» و»[email protected]».
كيف يمكن إذن تحديد مقاربة ملائمة للمفاهيم الناجمة عن حراك المجتمع المدني؟ هل هي ذات طبيعة كمية أم كيفية؟ يمكن مقاربة النسق المفاهيمي ضمن إطار كيفي لاسيما أن الإشكال المنهجي يتعلق بفهم «الشعور بالحكرة» وتحليل التمثلات والسلوكيات الناتجة عن هذا الشعور الذي يستعصي على الكمي ويستلزم آليات بحثية أساسها الصورة السمعية البصرية ومقاطع الفيديو والاستجوابات والملاحظة التشاركية والمجموعات البؤرية… مثل هذه الآليات تساهم في الوقوف على جدوى توظيف المفهوم في تحليل العلاقة بين المجتمع المدني والحركات الاجتماعية. في هذا السياق يعتبر إدراج مقولات مثل مقولة الحكرة انتقالا من «إيديولوجيا شعبوية» إلى «صورلوجيا افتراضية» (Imageologie virtuelle).
من هذا المنظور يمكن التعاطي مع المفاهيم المرتبطة بالظلم الاجتماعي وانعدام العدالة الاجتماعية من زاوية نظرية تتقاطع فيها التخصصات: اللسانيات الاجتماعية، السوسيولجيا، الأنتربولوجيا وعلم السياسة.
تهدف هذه التقاطعات إلى التركيز على العناصر الاجتماعية والثقافية والسياسية للحركات الاجتماعية التي تحدد وترسم دور وتأثير المجتمع المدني في توجيه مستقبل السياسات العمومية.
خاتمة
إن التحول السياسي والمدني والسوسيوديموغرافي للمجتمعات في ظل سياق العولمة يستلزم إيلاء الأهمية لإشكالات الترابط الاجتماعي وتدبير التنوع الثقافي والتعددية الهوياتية والفوارق والتهميش وذلك من أجل تطوير مجتمع مدني منسجم ومسئول ومتضامن يعمل على ترسيخ مبادئ ومرتكزات الطمأنينة والعدالة الاجتماعية مثل الشعور بالانتماء والتعاطي الهوياتي «تمغربيت»، إرساء مبادئ حقوق الإنسان، المشاركة في إنتاج وتفعيل صيرورة المأسسة والدسترة لاسيما في ما يخص الجانب اللغوي والثقافي وأوضاع بعض الفئات المجتمعية على ضوء ما جاء به الدستور الجديد…
هل ستكون مكونات المجتمع المدني في ظل موجة الحراك المجتمعي الذي يشهده المغرب الكبير أول المستفيدين من الهامش الديمقراطي لتصبح شريكا مباشرا في القرار السياسي؟ لمقاربة هذا الاحتمال يتوخى اعتماد مفاهيم نظرية وآليات كيفية مناسبة لاستشراف مجتمعات مدنية متحركة ذات هويات ومرجعيات مختلفة تنشط في حلبات ذات طبيعة متنوعة منها الواقعي ومنها الافتراضي.
في هذا السياق يشكل مفهوم الحكرة النقيض الأمثل لمفهوم «الكرامة» و»الاحترام» وكذلك لمفهوم المساواة المرتكز على مبدأ المواطنة بدون تمييز أو إقصاء بالنظر إلى اللون أو العقيدة أو العرق أو اللغة أو الجنس أو المستوى التعليمي أو التراب… يتضح جليا أن المفهوم سابق الذكر يؤثث إلى جانب مفاهيم أخرى مثل الاستبداد والفساد والرشوة والمحسوبية… الحقل النسقي للظلم الاجتماعي في خطاب المجتمع المدني.

عن مجلة «أبحاث» العدد 61 -62  السنة 2015  
ملف العدد: «الفعل الاحتجاجي بالمغرب مقاربة الأنساق والسلوكات والقيم»
 مطبعة النجاح الجديدة – الدار البيضاء. ص. 3-11

Related posts

Top