هاهي توقعات حكام العرب بامتناع المواطنين عن الاحتجاج على الفقر والفساد والمظالم المجتمعية وانتهاكات الحقوق والحريات تسقط مجددا في الساحات العامة وفي مواجهة حشود أمنية تهدد بالقمع والتعقب أو تمارسهما بالفعل.
فالإخفاقات الكثيرة التي منيت بها انتفاضات 2011 الديمقراطية، من الفشل المصري في التأسيس للتداول السلمي للسلطة ومواطنة الحقوق المتساوية بعيدا عن شري الاستبداد الديني والاستبداد العسكري إلى العجز عن إزاحة المستبد وشيوع الصراعات المسلحة والفوضى في سوريا مرورا بنشوب الحروب الأهلية في ليبيا واليمن، رسخت لدى حكام العرب انطباعا زائفا مؤداه قوتهم غير المحدودة إزاء المواطنين وقدرتهم غير المتناهية على تفريغ الاحتجاجات الشعبية المطالبة بالتخلص من الفقر والفساد والظلم من المضمون.
توقع الحكام، ومن خلفهم نخبهم العسكرية والأمنية والطائفية والمصالح الاقتصادية والمالية المتحالفة معهم، أن تباعد إخفاقات2011 بين الناس وبين معاودة الخروج إلى الساحات العامة دفاعا عن حقوقهم وحرياتهم وبحثا عن التغيير السلمي. توقعوا ذلك، وعملوا على جعله «الواقع العربي الجديد» من خلال التهديد الدائم للمواطنين بالعنف والقمع والتعقب حال الابتعاد عن طاعة «أولي الأمر» والترويج الممنهج للمرادفة بين الاحتجاجات الشعبية وبين استثارة الفوضى وإحداث الخراب وترتيب الدمار. وظف حكام العرب أدوات العنف، رسمية (الأدوات الأمنية النظامية) وغير رسمية (شبكات الشبيحة والبلطجية والميليشيات المعسكرة) لتهجير المواطن بعيدا عن الساحات العامة، ووظفوا أدواتهم الإعلامية التقليدية (الصحف ومحطات التلفزة والإذاعات) والحديثة (الجيوش الإلكترونية الفاعلة على مواقع التواصل الاجتماعي) لإخافة الناس من الديمقراطية وتخوين دعاتها وتسفيه المطالبة بالقضاء على الفقر والفساد والظلم لكون الأول واقع مجتمعي لا فكاك منه، والثاني مرض عضال لا يقدر على مجابهته غير الحكام أنفسهم، والثالث هو أمر لا وجود له إلا في رؤوس دعاة الفوضى والخراب.
توقع حكام العرب أن يعود المواطنون إلى الاستكانة والخنوع بعد فورة انتفاضات 2011 الديمقراطية. وعزز من ذلك التوقع تواكب مشاهد التراجع والانكسار وفقدان الأمل في التداول السلمي للسلطة والتخلص من الاستبدادين الديني والعسكري الواردة من مصر من جهة مع انتشار خرائط الدماء والدمار واللجوء في سوريا وليبيا واليمن، ومن جهة أخرى مع الاستقرار الظاهري لأوضاع البلدان التي لم تمسها على نحو مباشر انتفاضات 2011 من دول الخليج (باستثناء البحرين) إلى الجزائر والمغرب مرورا بالعراق والأردن ولبنان والسودان. وتلاقت تلك المشاهد الإقليمية مع المصالح الدولية غير الممانعة في دفع المواطنين العرب إلى مصائد الاستكانة والخنوع، والراغبة في الترويج للمقايضة السلطوية «إما ضمان الخبز والأمن والاستقرار مع حكام مستبدين أو شيوع الفوضى على وقع الاحتجاجات الشعبية وطلب التحول الديمقراطي». فقد هددت انتفاضات 2011 المصالح الأمريكية والأوروبية وواجهتهم بأخطار الإرهاب والهجرة غير الشرعية، وسرعان ما استعاد الغربيون توظيف مقولات متهافتة من شاكلة عدم ملائمة الديمقراطية للمجتمعات العربية لتبرير دعمهم للمستبدين وتجاهلهم لانتهاكات الحقوق والحريات وتوافقوا في ذلك مع السياسات الروسية والصينية التي لم تخف منذ البداية العداء لانتفاضات 2011 ولم تعتبرها غير مهددة للاستقرار.
بين 2012 و2018، بدت شؤون السياسة في بلاد العرب وكأنها عادت إلى مآلاتها قبل 2011. هنا ملكيات غير دستورية وهناك جمهوريات غير ديمقراطية، هنا حكام يستندون إلى مؤسسات عسكرية وأمنية وحلفاء بين النخب الاقتصادية والمالية وهناك حكام تأتي بهم ترتيبات طائفية لاقتسام السلطة ونظم فاسدة لمحاصصة المناصب العامة وللهيمنة على موارد البلاد تعتاش عليها النخب الاقتصادية والمالية، هنا حكومات توظف أدوات العنف الرسمي وغير الرسمي لقمع وتعقب المواطنين وهناك حكومات وقوى غير حكومية وميليشيات توظف ذات الأدوات للقتل والتصفية. وهنا وهناك، مواطنون تعاني أغلبيتهم من الفقر والفساد والظلم ومن الانتهاك الممنهج لحقوقهم وحرياتهم، مواطنون توقع منهم الحكام العودة طويلة المدى إلى مصائد الاستكانة والخنوع وقبول المقايضة السلطوية والابتعاد التام عن تكرار انتفاضات 2011 الديمقراطية. غير أن توقعهم هذا ها هو يسقط مجددا في الساحات العامة لبلدان لم تمسسها على نحو مباشر فورة 2011 وفي سياق احتجاجات شعبية عنوانها الوحيد هو رفض الفقر والفساد والظلم وتحميل الحكام المسؤولية الكاملة عنها.
فمنذ خواتيم 2018 وبدايات 2019، والمواطنون في الجزائر والسودان ثم في العراق ولبنان يخرجون إلى الساحات العامة مطالبين بالقضاء على الفقر والفساد والظلم، وباحثين عن استعادة حقوقهم وحرياتهم المهدرة، ومعبرين عن فقدانهم للثقة في الحكام ونخبهم ورغبتهم في تجاوز الاستبداد والطائفية ورفضهم للمرادفة الزائفة بين الاحتجاجات الشعبية وبين الفوضى.
أجبرت احتجاجات المواطنين الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة على الاستقالة، ورتبت محاسبة بعض الفاسدين في نخبة الحكم، وشرعت أبواب البلاد لمفاعيل سياسية جديدة تسعى للتأثير عليها من جهة المؤسسة العسكرية ومن جهة أخرى جموع المواطنين الذين يواصلون الاحتجاج بدون انقطاع (للأسبوع الـ 36). أما في السودان، فقد أطاحت الاحتجاجات الشعبية بالرئيس السابق عمر البشير وأفشل وعي المواطنين محاولات بعض الأطراف داخل المؤسسة العسكرية والأجهزة الأمنية إجهاض الثورة السودانية من خلال ممارسة العنف الرسمي وغير الرسمي واستدراج المواطنين المحتجين إما إلى مغادرة الساحات العامة خوفا أو إلى التورط في العنف الشعبي المضاد.
ثم انتقلت الاحتجاجات الشعبية خلال الأسابيع الماضية إلى العراق ولبنان للخلاص من نخب حكم طائفية أفقرت الناس وأهدرت الموارد العامة وقوضت المؤسسات الدستورية في البلدين لمصلحة هيمنة ملوك طوائف وأمراء حرب وقادة ميليشيات معسكرة لم يتورعوا أبدا لا عن انتهاك حقوق وحريات المواطنين ولا عن تفريغ مفهوم المواطنة الجامعة من مضامينه. على وقع استمرار الاحتجاجات الشعبية واتساع نطاقها لتشمل عديد المدن العراقية واللبنانية، تحولت ردود أفعال نخب الحكم الطائفية في البلدين من التقليل من شأن مطالب المحتجين إلى محاولة للاحتواء من خلال إطلاق الوعود الرسمية بشأن تغيير السياسات الاقتصادية والاجتماعية التي تثقل كاهل الفقراء ومحدودي الدخل والإعلان عن تمرير قوانين وتشكيل هيئات رسمية لمحاربة الفساد وتعقب الفاسدين واستعادة الأموال المنهوبة وتعديل الموازنات الحكومية بتقليص المخصصات المالية للوزراء والنواب البرلمانيين. ثم تغيرت ردود أفعال نخب الحكم الطائفية مرة أخرى، عندما رفض المحتجون الوعود الرسمية وواصلوا المطالبة بالتخلص الكامل من أحزاب وحركات ورموز سياسية اعتاشت طويلا على المحاصصة الطائفية وعلى ممارسات الفساد.
هنا أظهرت نخب الحكم وجهها المتغطرس وغير المستعد للتخلي عن السلطة، وخرجت على المواطنين بسيل من الخطب والبيانات التي اتهمت المحتجين بالتآمر والخيانة والعمل على نشر الفوضى مدفوعين بأجندات خارجية (حديث الأمين العام لحزب الله اللبناني حسن نصر الله الجمعة الماضية)، واعتبرت الاحتجاجات الشعبية مصدرا لضرب الاستقرار (بيان رئيس الوزراء العراقي عادل عبد المهدي قبيل احتجاجات الجمعة الماضية)، وحذرت المواطنين الذين يحاولون إحداث التغيير السياسي من الساحات العامة من العواقب الكارثية لأفعالهم وذكرتهم بكون المؤسسات الدستورية والسلطات الشرعية لن تقبل بالعنف والفوضى (كلمة الرئيس اللبناني ميشال عون وتحذير المرجع الشيعي السيد علي السيستاني من الفوضى قبل أيام قليلة)، وطالبتهم بالإذعان لما تقترحه هي ـ أي نخب الحكم الطائفية ـ من تغيرات في السياسات الاقتصادية والاجتماعية ووعود بشأن محاربة الفساد وتقليص رواتب المسؤولين. وحين أصر المحتجون في العراق ولبنان على رفض خطب التآمر والتخوين وإسقاط بيانات التخويف من طلب التغيير السياسي من الساحات العامة وتمسكوا بعدم ثقتهم في نخب الحكم الطائفية ورغبتهم في الخلاص منها وقدموا المواطنة الجامعة على الهويات الطائفية، كما دللت احتجاجات العراقيين الجمعة الماضية ودلل تواصل اعتصامات اللبنانيين خلال الأيام الماضية، أسفر الطائفيون عن وجههم الأكثر قبحا وعمدوا إلى التوظيف العنف (رسمي وغير رسمي وبدموية مفزعة في العراق من خلال الأجهزة الأمنية والميليشيات الطائفية المعسكرة، وغير رسمي في لبنان عبر شبيحة حزب الله وحركة أمل) لإرهاب المحتجين.
لن يقتصر على الجزائر والسودان والعراق ولبنان إسقاط المواطنين لتوقع الحكام امتناعهم عن الخروج إلى الساحات العامة وعودتهم إلى مصائد الاستكانة والخنوع قبولا للمقايضة السلطوية واستسلاما للتخويف من الديمقراطية وللمرادفة الزائفة بين طلب التغيير السلمي وبين الفوضى. لن يقتصر الأمر عليهم أبدا، فالناس في بلاد العرب ينشدون الانعتاق من الفقر والفساد والظلم ويفهمون أن الاحتجاجات الشعبية هي السبيل الوحيد للانعتاق المنشود من خلال حمل حكام ذوي سلطات مطلقة على اعتماد إصلاحات جذرية وقبول سيادة القانون والتداول السلمي للسلطة، وعبر انتزاع الاعتراف بالحقوق والحريات المهدرة من نخب حكم تمارس دون مساءلة عنفا رسميا وغير رسمي ضد المواطنين وتكرس لسياسات الإفقار والإفساد.
عمرو حمزاوي كاتب مصري