(سيلان…)، مجموعة قصيرة وصغيرة بكل معنى الكلمة وعلى أكثر من مستوى. فهي قصيرة في حجمها، 48 صفحة من القطع الصغير، وهي قصيرة جدا في حجم نصوصها البالغة ستة وعشرين نصا، أي أنها تندرج في خانة ما اصطلح عليه بالقصة القصيرة جدا، short stort story وتبعا لذلك. فهي قصيرة في لغتها وشكلها ومضمونها. إنها، كما قلت ذات مرة، كبسولة قصصية، لكن في ثنايا هذه الكبسولة القصيرة تنزعرع وتكمن الأسئلة الكبيرة.
لأجل ذلك، آثر هشام حراك أن يصدر مجموعته بهذه الكلمة: (قص)، بدل (قصص قصيرة) أو (قصص قصيرة جدا).
وحسنا فعل. فما يوحد هذه النصوص الشذرية هو أنها (قص) أو شكل من أشكال (القص).
ليست هذه النصوص قصصا قصيرة، لأنها دونها بكثير، وهي بذلك تقترب من تخوم ما يسمى الآن: القصة القصيرة جدا، والتي أقترح لها كبديل ومقابل مصطلح (القصيصة)، والتي هي أيضا دون (الأقصوصة) التي هي دون (القصة القصيرة). والقصيصة، أو القصة القصيرة جدا، هي تلك الحكاية المتراوحة حجما بين صفحة ونصف صفحة حينا، وبين فقرة وجملة حينا آخر، بما يقتضي كثافة عالية في التعبير والبناء.
وكأني بهشام حراك، قد تحفظ هو الآخر على مصطلح (القصة القصيرة جدا) السائد، فاستعاض عنه بكلمة جامعة مانعة هي (قص).
هذه المجموعة القصيرة – الصغيرة مع ذلك، تشكل مزرعة ألغام قصصية – حكائية، وحقل مغناطيس من الدلالات والإيحاءات وكأنها تنهج نهج (خير القص ما قل ودل) أو (خير القص ما استغني فيه عن القص).
والمجموعة أيضا، وبلغتها البرقية الرامحة، تنهج نهجا كاشفا وفاضحا في تعريتها واقتحامها ، لتيماتها وموضوعاتها.
فلننظر قليلا في المجموعة.
هناك في البداية ، عتبات نصية، أو مناصات، تشكل مفاتيح أولية للمجموعة.
أولى هذه العتبات، كلمة زفزاف الموجهة إلى حراك في 3/11/97، والتي تصف وتشجع تجربته: (العزيز هشام حراك، تحياتي. لقد قرأت مجموعتك. أتمنى أن تجد لها طريقا للنشر. كم أسر بتراكم هذه الكتابات الشابة الجديدة. إن أسلوبك شيق وممتع، يستحق القراءة والمتابعة).
تأتي عتبة ثانية، هي عبارة عن توطئة للمؤلف توضح بأن (أحداث مجموعة الأقاصيص هذه، ليست بالضرورة وقعت فعلا).
تأتي عتبة ثالثة، هي عبارة عن حكم أدبية من صميم ذوات مبدعة أحبها المؤلف/ الأب محمد زفزاف، محمد الماغوط، ارنست همينغواي، أمين نخلة، انطوان بلودان، نيتشه، اسحق عظيموف.
والعتبة الأخيرة – الخاتمة، هي عبارة عن قراءة في المجموعة لسامي دقاقي بعنوان (جدلية الغروتيسكي والواقعي). مع صورة جانبية للمؤلف، هشام حراك.
وأسلوب هشام القصصي، كما قال الفقيد زفزاف، بحق، شيق وممتع، يستحق القراءة والمتابعة. لكن عالمه القصصي وموضوعاته القصصية أمتع وأشوق وأشوك أيضا. وأعني بهذه الكلمة الأخيرة (أشوك) أن موضوعاته القصصية تخز المتلقي أحيانا كوخز الشوك أو أكثر، نظرا لصراحتها الوصفية والانتقادية.
وبما أن نصوص المجموعة قصيصات، أي قصص قصيرة جدا، فإن الاستشهاد النصي يغدو ميسورا في هذه القراءة.
والإصغاء إلى النصوص، هو خير مدخل للنصوص.
فلنصغ تمثيلا واستئناسا، إلى النصوص الثلاثة التالية/
1- خيانة:
(أحبها وأحبته.
أحبته وأحبها.
تقدم إلى أهلها لخطبتها برفقة أهله.
سعدت به وسعد بها.
تزوجا.
أقاما عرسا لا ككل الأعراس.
في صباح الدخلة.
افتض بكارتها بالحلال.
خانها دون أن تخونه.
فجزت، بعد أن تأكدت من ذلك تمام التأكد، عضوه التناسلي، وهو ينعم بنوم عميق وأحلام لذيذة، بموسى حلاقة الرجال شديدة الحدة)
ص 26-27.
2- منطق تفكير:
(ألح الطفل الصغير على تلقي رد من أبيه المدمن السكير، وهو يتأمله بتجرع كأسه العاشرة:
– أنت تسكر ليل نهار وبلا توقف يا أبي ولا تصلي ولا تزكي ولا تصوم رمضان ولا تنوي حج بيت الله الحرام… ألا تخشى عقاب الله غدا يوم القيامة في نار جهنم؟!!
رد الأب السكير على الفور وباقتناع تام، بعد أن تجرع كأسا جديدة:
– المؤمن مصاب يا ولدي، ولا أريد أن أصاب)
ص 29.
3- تربية جنسية:
(نهرت الأم طفلتها ذات ما يقرب من الخمس سنوات بعصبية جد مبالغ فيها، وهي تلطمها بقوة عنيفة على وجنتيها الرطبتين الورديتين الفتيتين، بعد أن صادفتها، في المرحاض، تداعب بإصبعها الصغير فرجها الفتي:
– تتعلمين الدعارة منذ صباك يا بنت الحرام؟… منذ متى كانت أمك قحبة يا قحبة؟؟؟.)
ص 34.
تعطينا هذه النصوص القصار، صورة عن محكي حراك وطريقة حكيه.
محكي حساس وملتبس ينبش في التفاصيل السرية الخاصة ويقتحم الخطوط الحمر. يقتحم التابو، الاجتماعي الأخلاقي والديني.
هوحكي صريح وواخز، لا يتورع عن قول المسكوت عنه، وتسمية الأشياء بأسمائها دون لف أو دوران، والقاص بذلك ينغمس مباشرة في حمأة الواقع الاجتماعي، ويصدر عن واقعية انتقادية مفكر فيها. واقعية انتقادية مبطنة بالسخرية السوداء.
إن (سيلان…) هشام حراك، ترصد بدقة وجرأة ، وفي لقطات حكائية سلسة ومركزة، سيلان المغرب الجديد، الذي غرته أدواء ومظاهر اجتماعية طارئة وجديدة ، كالبطالة والعنف والجريمة والسكر وتعاطي المخدرات وتفسخ العلائق الأسرية وتفشي الاستهلاك والقروض القاصمة للظهور، والاختلال العقلي والعصبي…
ترصد بعبارة عنف الحاجة الذي ينخر جسد الواقع المغربي، حسب عبارة كارل ماركس الشهيرة.
تلك هي التيمات والهواجس القصصية المهيمنة على نصوص (سيلان…) والمنـزرعة عبرها والمصوغة دائما، بسلاسة سردية ذكية وجريئة وساخرة، تقول ما قل ودل، أي تقول وتكتب نمطا جديدا من القص، وهو القصة القصيرة جدا، أو القصيصة كما اقترحت آنفا. وهو نمط من القص، أصبح له عشاقه ومريدوه من الأجيال المغربية الجديدة، كما هو ماثل وحاصل في المشهد القصصي المغربي الراهن. ومنذ أيام قلائل عقدت ندوة خاصة في كلية الآداب بالرباط، بمناسبة تكريمي، حول القصة القصيرة جدا. وفي ذلك إقرار واعتراف بحضور ووجود هذا النمط القصصي الجديد، وسعي نظري ومنهجي لنحت سماته وملامحه وهويته.
وعشق حراك للقص والقصة، يظهر جليا في بعض نصوصه، من خلال الميتاقص أو القصة في القصة. وأفكر هنا بخاصة في النصوص التالية:
– نص قصصي رائع.
– طلاق بالثلاث.
– كتبتها… كتبتها.
– رئاسة.
نقرأ من هذه النصوص ، نص: (طلاق بالثلاث)
– (نشرت قصة جديدة متميزة، غاية في الجمال والأناقة الإبداعييين، في موقع أدبي إلكتروني ذائع الصيت…
علق ناقد شهير كبير يكن لها كامل التقدير الإبداعي أسفل نصها:
«نص قصصي متمكن من آلياته. مزيدا من التألق والجمال. محبتي.»
سعدت بالتعليق.
.. تركت الحاسوب مشتغلا. وانصرفت إلى المطبخ لتعد وجبة العشاء…
… بالصدفة اطلع زوجها على التعليق. استفزته كلمة «محبتي»
فطلقها بالثلاث.) ص 23-24
ولا أملك في ختام هذه القراءة، سوى أن أستعيد كلمة الفقيد محمد زفزاف الموجهة لهشام حراك:
(إن أسلوبك شيق وممتع، يستحق القراءة والمتابعة.)
لقد صدق وأصاب زفزاف، وهو الخبير بأسرار القص والكتابة.
آثر حراك لنصوص مجموعته (سيلان…)، أن يكون القصر سمة غالبة عليها، وقاسما مشتركا فيما بينها. وسأحذو حذوه في هذه القراءة، فأكبح من جماحها وأحافظ على قصرها.
وخير الكلام دائما، ما قل ودل ولم يمل.