في عز أزمة كورونا وتداعياتها السلبية على الحياة الثقافية، أصدر الكاتب الصحفي والصديق يوسف الغريب، خلال شهر شتنبر الماضي، مؤلفا بعنوان «أكادير.. وجوه وبصمات».. ويعد هذا الكتابباكورة إنتاجه بعد أن راكم اشتغالا وحضورا وازنين في المشهد الإعلامي والثقافي بمدينة أكادير على مدى عقود.. وبمناسبة هذا الإصدار نظمت كل من جمعية ملتقى إيزوران نو كادير ومجلة نبض المجتمع حفلا ماتعا لتوقيع هذا الإصدار والاحتفاء بكاتبه يوسف الغريب وذلك يوم الجمعة 25 شتنبر الماضي بالمقهى الثقافي أمازيغ كبريس – أكادير باي، بحضور نخبة من المثقفين والفنانين والصحفيين وأصدقاء الكاتب، وتميز هذا الحفل بتقديم قراءة عاشقة في محتويات الكتاب أعدها الأستاذ الحسين بويعقوبي، ننشرها أسفله.
صدر للكاتب يوسف الغريب في شتنبر 2020 مؤلف وسمه بـ “أكادير، وجوه وبصمات”، سعى من خلاله للتعريف بعدد من الشخصيات رجالا ونساء كان لها دور مهم في مختلف مجالات الحياة بمدينة أكادير. ويعكس تقديم المؤلف لكتابه في شكل “إهداء إلى عشاق مدينة أكادير” أسباب نزول هذا الكتاب وهو بذلك خير معبر عن مدى الحب الذي يكنه الكاتب لمدينته التي وصفها بـ “عاشقة البحر ! قاهرة الدهر !”.
لا يمكن فصل كتاب يوسف الغريب عن السياق العام الذي صدر فيه، وما عرفته جهة سوس ماسة عموما ومحور أكادير تزنيت على وجه الخصوص، في بداية القرن الواحد والعشرين، من طفرة ثقافية من ميزاتها العودة للمحلي والاهتمام بالميكروتاريخ، وهي بذلك تسير على خطى محمد المختار السوسي. ويتربع مركز أكلو للدراسات على رأس هذا التوجه من خلال نشره لإثنين وعشرين كتابا كلها حول بلدة أكلو وضواحيها وضمنهم مؤلف بيوغرافي للأستاذ جامع بنيدير بعنوان “مدبرو الشأن المحلي بأكلو” (2017)، كما صدرت بإنزكان ستة دراسات تعنى بالتاريخ المحلي للمدينة وضمنها كتاب نسقه الأستاذ عمر أفا عن سيرة “العلامة الحاج عبد الرحمان الإنزكاني” (2004)، وفي أكادير تفرض تجربة الأستاذ عبد الله كيكر نفسها من خلال غزارة كتبه عن قضايا سوس وضمنها كتب السير كـ “القواد الحاحيون بسوس” (2018)، ومؤلف عن سيرة الحاج أحمد أولحاج أخنوش (2012)، وآخر عن القائد حيدة بن مايس (2010)، دون إغفال كتاب “العصاميون السوسيون في الدار البيضاء” لعمر أمرير (2014)، والسيرة الذاتية “مذكرات حياتي” للعلامة المرحوم عمر المتوكل الساحلي” (2017)، والتي نشرها أفراد أسرة الفقيد وتعكس فترة مهمة من تاريخ سوس من منظور العلامة.
يتضح، من خلال ما سبق، هذا التوجه نحو دراسة السير الغيرية والاهتمام بمسارات الأشخاص، وكذا نشر السير الذاتية، ويعكس ذلك رغبة في الاهتمام بالفرد وما له من دور في التأثير في محيطه وتوجيه الأحداث، ولا شعوريا يكشف هذا المنحى نزوعا نحو الرغبة في الدوام والخوف من النسيان. وقد سبق للباحثين أن لاحظوا هذه العودة للدراسات البيوغرافية، منذ السبعينات من القرن الماضي، بعدما عرفت فتورا بفعل هيمنة خطاب يتهمها بتمجيد الفرد وخلق الأصنام في مقابل صعود بريق مدرسة الحوليات في الدراسات التاريخية. لكن هذه “الصحوة البيوغرافية” كما سمتها مجلة أمل (عدد 51/2018)، أعادت الاعتبار للمنهج الكيفي في البحث وجعلت البيوغرافيا في ملتقى الدراسات في العلوم الاجتماعية والإنسانية. ولذلك تعتمد السوسيولوجيا والأنثربولوجيا على “سير الحياة” لفهم تحولات المجتمع، كما يعتمد عليها علم التاريخ وعلم النفس، بل وتحضر البيوغرافيا أيضا في الإبداعات الأدبية، كما ظهرت في فرنسا معاجم كبرى متخصصة في سير الشخصيات منها “معجم الوطنيين الجزائريين” لبنجامان ستورا (1985)، و”معجم المستشرقين بالفرنسية (2008) لفرانسوا بويون، ولا زالت المكتبة المغربية تفتقد لهذا النوع من المعاجم.
لا يمكن قراءة كتاب “أكادير، وجوه وبصمات” من منطلقات علمية أكاديمية باستحضار مختلف القضايا المنهجية المرتبطة بالدراسات البيوغرافية، لأن الكتاب يضم شهادات وأحيانا ارتسامات مقتضبة للمؤلف عن أربعة وخمسين شخصية اعتبرها تركت بصماتها في مدينة أكادير. وعلى هذا المستوى تحضر إحدى أهم الإشكالات المرتبطة بالدراسات البيوغرافية، ويتعلق الأمر بمعايير الاختيار ومدى موضوعية الأحكام الصادرة على كل شخصية، وهذا ما جعل شخصية الكاتب تحضر بقوة، إذ وحده من يملك المعايير وتعكس الشهادات المقدمة منظوره الشخصي وزاوية نظره لكل شخصية.
في المقابل، تكمن قوة الكتاب في الفكرة في حد ذاتها، أي التفكير في الكتابة عن شخصيات لا يدخل أغلبها ضمن “المشاهير” في مجالاتها، لكنها من منظور الكاتب ساهمت إيجابا في بناء مدينة أكادير، خاصة منذ السنوات الأخيرة لعهد الحماية الفرنسية قبل 1956 وبعد الزلزال الذي دمر المدينة سنة 1960 ثم خلال مسار انبعاثها إلى اليوم 2020. كما يتميز الكتاب بكونه تطرق أيضا لشخصيات لازالت حية، (بعضها غادرنا قبل صدور الكتاب بأيام)، في حين أن البيوغرافيا تهتم أساسا بالأموات، الذين لا يستطيعون معاكسة ما يكتبه المؤلف، كما انتبه صاحب الكتاب لسلوكات قد تبدو بسيطة لكن تأثيرها على الفرد كبير وقد تغير إيجابا مجرى الأحداث فكان لها شرف الذكر في الكتاب.
ولد الأستاذ يوسف الغريب ليكتب. فالكتابة جزء من حياته اليومية، ولذلك نراه يتفاعل ككاتب رأي مع أغلب الأحداث التي تثير انتباهه خاصة المحلية على مستوى أكادير، ولكن أيضا الجهوية وكذا الوطنية، فنراه طارحا للأفكار، مناقشا تارة ومعقبا تارة أخرى، وأحيانا معاتبا ومشاكسا ثم مشجعا في نفس الوقت. لا أعتقد أن فكرة إصدار هذا الكتاب راودته حين خط أول سطر في أول شهادة يكتبها، بل كان للزمن فعله حيث نضج المشروع رويدا رويدا، وأصبح هو من يوجه الكاتب بعد أن كان هذا الأخير هو صاحب المبادرة. لكن، إذا كانت فكرة الكتابة عن شخصيات المدينة جذابة ومحبوبة لما تحمله من قيمة الاعتراف بالجميل إلا أنها في الوقت نفسه مغامرة محفوفة بالمخاطر، خاصة على مستوى معايير الاختيار في مجال يعج بالمئات ممن يستحقون الذكر والإشادة. فكان على الكاتب أن يتحلى بنوع من الجرأة والشجاعة ويتحمل مسؤولية اختياراته، فكان له فضل بداية هذه التجربة الفريدة وفتح باب الاعتراف لمن يود الاستمرار.
عمل يوسف الغريب على أن يكون الكتاب متضمنا للرجال والنساء، ومتوازنا بين الأحياء والأموات ومتطرقا لمجالات عدة تظهر فيها بصماتهم، فقسم الكتاب إلى: افتتاحية، شخصيات إشعاعية وطنية ودولية، أنثوية، هوياتية، تربوية، تدبيرية، إبداعية، حقوقية، مدنية، رياضية ثم شهيدين فبصمة الأمل. مجالات كانت فيها أكادير ولادة ومعطاء، وأكادير هنا كما يقدمها يوسف الغريب أكبر من المجال الترابي للمدينة، لتشمل مجالا جغرافيا أوسع من أنزا شمالا إلى أيت ملول جنوبا، مرورا ببن سركاو والدشيرة وانزكان، وهو المجال الحيوي للكاتب نفسه. وكأني بالكاتب الذي دأب على التنقل بدراجته الهوائية بين هذه المدن يدعونا للتفكير فيها كمجال واحد، أكادير الكبير، غني بتعدده وبخصوصياته الأصيلة من جهة، ومن جهة أخرى منفتح على العالم من خلال عاصمة سوس ماسة، مدينة أكادير التي كانت تسمى “ميامي إفريقيا”.
كتبت أغلب الشهادات في فترة زمنية قصيرة، وتتراوح بين صفحتين وخمس صفحات، وفي وضعيات نفسية مختلفة كان لها تأثيرها في حجم الشهادة ومضمونها والأسلوب المعتمد في كتابتها. لكن سيلاحظ القارئ غياب تواريخ كتابة هذه النصوص لأنها كانت موجهة في الأصل للنشر في مواقع التواصل الاجتماعي، كما تجنب الكاتب كل إشارة لتواريخ ميلاد المعنيين ولا لتواريخ الوفيات لمن غادرنا منهم. بل إن بعض الشهادات تضم كلمات وعبارات مثل “البارحة” أو “الأيام المقبلة” أو “دجنبر الماضي” أو “أمس الخميس” أو “رمضان المنصرم”… وكأن الكاتب بذلك يجعل هذه الشهادات خارج التاريخ ودائمة وغير مرتبطة بزمان معين، نظرا للتأثير المستمر للمعنيين بالشهادة، في محيطهم، سواء كانوا أحياء أو أمواتا. فالتأثير الإيجابي لقرار تحويل المرحوم إحيا إيدر بيته إلى كلية للشريعة بمنطقة لمزار لازال مستمرا في شكل “صدقة جارية” من خلال آلاف الخريجين المكونين سنويا في هذه الكلية، كما أن التأثير الإيجابي لتوسع مؤسسات جامعة ابن زهر من 8 إلى 22 مؤسسة في عهد الرئيس عمر حلي لن يتوقف بنهاية ولايته سنة 2020 على رأس جامعة تغطي 5 جهات وأكثر من نصف التراب الوطني، والشيء نفسه يمكن قوله عن الإبداعات الفنية لكل من أحمد بادوج وعبد القادر اعبابو ورشيد أسلال ومصطفي حمير والعربي باباهادي ومصطفى الشاطر وحسن بديدة وسعيد أوبراييم وحسن العليوي وادريس المالومي التي تخترق الأزمنة وتنتقل بين الأجيال. ويمكن قول الشيء نفسه عن محجوبة ادبوش التي وصفها الكاتب بجدة لآلاف الأطفال، وكذلك قصة معلمة بنسركاو عبد الكريم صباح وحكاية الأستاذ المفتش ابراهيم الفتى وتأثير الأستاذ الجامعي محمد أبزيكا. هذه عينة فقط من الأسماء المحتفى بها في كتاب “أكادير، وجوه وبصمات” ولباقي الأسماء تأثيرها في ميادين عدة، أذكر منهم شخصا كان لعمله نكهة خاصة. يتعلق الأمر بأحمد الحقاب الذي لم يذهب أحد في نعشه، وهو الذي قضى سنواته بعد التقاعد في تنظيف حي تالبرجت، في سلوك مواطناتي قل نظيره. ولذلك ارتأى يوسف الغريب عدم إعطاء تواريخ لشهاداته في حق هذه الشخصيات لأنه يريدها أن تكون عابرة للزمان وقدوة لكل الأجيال.
يمكن القول إذن إن كتاب الأستاذ يوسف الغريب هو دعوة للاهتمام بالمحلي في أبسط تجلياته وإعطاء القيمة للفرد في أبسط سلوكاته المواطنة، كما يلفت الانتباه إلى أهمية المغامرات الفردية لشخصيات عرفت كيف تجعل من نفسها ذاتا فاعلة ومؤثرة في محيطها فكان لمجهودها كبير الأثر على الأجيال المتعاقبة…
علميا، يدعونا يوسف الغريب لجعل البيوغرافيا مدخلا لفهم تاريخنا المحلي واستشراف مستقبلنا وما يمكن للفرد القيام به في بنائه. فليترك كل منا بصمته في هذا المستقبل الذي نريده مشرقا !.
< بقلم: الحسين بويعقوبي