نحن على شفا حفرة عميقة ومظلمة. والفساد خلفنا يزحف بكل أسطوله لدفعنا إلى داخل تلك الحفرة. مستمدا قوته من شبح الانفتاح والتحرر الذي رسخ لمفاهيم جديدة لا علاقة لها بمعنى الكلمتين. مفاهيم تحولت إلى فيروسات ضربت في العمق أعمدة وأسوار المجتمع، وجردت هياكله وروابطه المتينة، وزعزعت بنيانه. من أجل المال أو من أجل إرضاء جهات خارجية، وكسب عطف قلوبها وجيوبها. لقد تحولت الحكومات التي تعاقبت وتتعاقب على تدبير شؤون المغرب إلى امرأة حائرة وتائهة تقضي أيامها في محاولات لفت الاهتمام، بماكياجها وربطة شعرها ولباسها وطريقة مشيها وتحدثها. تحاول اصطناع مظاهر مختلفة لعلها تفوز بنظرة إعجاب وتقدير دولية دون اعتبار لمطالب الشعب الحقيقية. لا أحد يجادل في أن المغرب أجمل بلد في العالم بكل مقوماته البشرية والطبيعية، ولسنا في حاجة لكي يصعد مسؤول ويرددها على مسامعنا، وكأنه هو من رسم شكل وجمال المغرب الطبيعي، وغرس طبيعته الخلابة. لا أحد يشكك في أن المغرب يزخر بكفاءات وطاقات بشرية خلاقة ومبدعة قادرة على ترسيخ التنمية الحقيقية والرقي بالشعب إلى مراتب أعلى. والشهادات في هذا الاتجاه تنطق بها أعرق الدول والحضارات، التي عرفت كيف تستفيد من طاقاتنا البشرية الخلاقة والمبدعة. لكن بالمقابل فإن لا أحد يقبل بأن يكون انفتاحنا وتحررنا هو سبيل سقوطها وفشلنا. ولا أن يصبح هذا البلد الآمن (بقدرة الخالق)، مسرحا للانزلاقات والتجاوزات، حيث سن البعض قوانينهم الخاصة وأصبح (العرف) بديلا لقانون البلاد.. وزاد التحرر فيه إلى درجة قياسية، لم تعد هناك خطوط حمراء ولا سوداء، تحمي الدستور وأعمدة وأسوار البلاد وتعصمها من انتقادات تهدف إلى زعزعة أمن وسلام المغرب والمغاربة، والتي يكون وراءها جاهلين أو عارفين مسخرين.
فقبل أن نبادر في كل مرة إلى التدقيق في الدستور والسعي مثلا إلى إعادة طرزه وخياطته ونسجه وفق ما تشتهيه الملائكة والعفاريت والتماسيح. كما فعلنا بالنسبة بدستور 2011. فلنتساءل أولا عن سبب تعثر الدساتير السابقة، وهل كانت عرجاء وصماء وبكماء إلى درجة تجعلنا في كل مرة نثور ضد واضعي الدستور ونطالب بتعديله أو تغييره جذريا. لقد ظلمنا تلك الدساتير بغض النظر عن محتواها، لأننا بكل بساطة لم نتمكن يوما من أجرأتها على أرض الواقع، ولم يوفق البرلمان المغربي بغرفتيه في تنزيل كل القوانين اللازمة لأجرأته. لتظل كل الدساتير أو كما يحب البعض نعتها ب(الدستور الواحد المعدل أو الملقح)، حبرا على ورق، وتتحول فصوله إلى شعارات يهتف بها المسؤولون كلما أرادوا الرد على انتقادات دولية، أو إسكات الجاهلين من الشعب، وخصوصا فئة (المغفلين) الذين لا يحميهم القانون لجهلهم لفصوله. كم من قضايا ظلت عالقة بالمحاكم بسبب انعدام فصول وبنود قانونية تعاقب المخلين ببعض فصول الدستور، وكم من قضاة اضطروا إلى فتح باب الاجتهاد أو (المندل) من أجل الحكم في قضايا يجرمها الدستور، ولا يملكون لها قوانين إجرائية.
لكم أحزنني أن يكون وراء طالبي الحقوق، أناس مدسوسين، يسعون إلى التموقع والتصارع السياسي، وأن يتم قبولهم ضمن المجموعة المتضررة، والتغاضي عن أفعالهم الدنيئة. ولعل حزني يزيد أكثر فأكثر حين استمع إلى متضرر يلقي باللائمة على مسؤول لا علاقة له بالضرر الذي لحق به، ويترك الجاني عليه بعيدا عن كل لوم أو انتقاد، وربما هو واقف بجانبه يصفق لاحتجاجاته.
لكم تمنيت أن تنزع الدولة رداء (الهاجس الأمني)، الذي يظل لصيقا بكل برامجها ومشاريعها، وأن تثق بأن الشعب المغربي الطيب، يأمل في حياة كريمة، وأن حراكه هو اجتماعي إنساني صرف. يهدف إلى الكرامة والشرف والحياة البديلة. وأنه على الدولة أن تلعب دور الأب الحاضن لكل الشعب، لا لجزء منه. إن الهاجس الأمني مرض خطير يجعل بعض أجهزتها تسارع إلى التموقع والظهور حيث يجب ألا تكون. فكيف لقائد أو باشا أو عامل أن يحاور المواطنين في شأن أمور تخص المنتخبين، بل منهم من يقدمون وعودا للمتضررين وأصحاب المطالب الخدماتية، علما أن بعض تلك الخدمات أو المشاريع تستوجب حضور مكاتب مسيرة لجماعات محلية، أو ربما عقد دورات عادية أو استثنائية للتأشير عليها. فما علاقة القائد والباشا والعامل بمعضلة الماء والكهرباء والنظافة وتطهير السائل والبنية التحتية وكل ما يخص تدبير الشأن المحلي للجماعات ؟… ولماذا يصر رجل السلطة التابع لوزارة الداخلية حشر أنفه في مشاكل تخص المواطنين وحلولها بيد مجالس الجماعات المحلية. إنه بطبيعة الحال الهاجس الأمني. هذا الهاجس الذي جعل مجموعة من الأعضاء المستشارين يغطون في نوم عميق خارج تغطية صراخ وأنين الساكنة. وجعل بعضهم يكتفي بتقديم خدمات للمواطنين لا علاقة لها بمهامه التي انتخب من أجلها. من قبيل بعض الوثائق الإدارية التي تستخرج للمواطنين من مقرات تلك الجماعات. أو تقديم بعض الخدمات خلسة. أو الوساطة أو البحث عن وظائف وشغل لأبناء وبنات الناخبين.
بقلم: بوشعيب حمراوي