تعتبر الأزمات المالية والإقتصادية إحدى أبرز الظواهر الإقتصادية التي يكون لها أثرا عميقا على حركة النشاط الاقتصادي وعلى العلاقات الاقتصادية الدولية.
وتحتاج الأزمات المالية، مدة زمنية قد تكون طويلة جدا، للتعافي من آثارها السلبية، كما أنها تهدد الاستقرار الاقتصادي والسياسي للعلم بشكل عام والدولة المعنية بشكل خاص.وأمست الأزمات المالية والاقتصادية من أبرز سمات العقود الأخيرة، مثيرة اهتمام اهتمام الكتّاب والباحثين والاقتصاديين وحتى السياسيين في مختلف دول العالم وتطور الفكر الاقتصادي الذي يتناول الأزمات ويبحث في مسبباتها وكيفية معالجتها.
ولا غرو أن الأزمات الإقتصادية والمالية لها آثار سلبية عديدة تتعدى الجانب الاقتصادي ممتدة إلى الجوانب الأخرى كالسياسية والاجتماعية والصحية والتعليمية وغيرها، لذا فإن دول العالم تحاول قدر الإمكان التخفيف من آثار هذه الأزمات.
وفي هذا الصدد، سنحاول خلال هذه الفقرة اليومية طيلة هذا الفضيل، تسليط الضوء على أبرز الأزمات الاقتصادية التي عرفها العالم، مسلطين الضوء على سياقها وأبرز أسبابها ونتائجها.
“أزمة مديونية الشركات الصينية”
وسنتطرق في فقرة اليوم، لأزمة ” مديونية الشركات الصينية”، قبل أزمة جائحة كورونا كانت الصين تعاني من أزمة مديونية في شركاتها المحلية، وكذلك من ارتفاع معدلات تلوث البيئة، وكانت التوقعات تذهب إلى أن أزمة مكبوتة داخل الاقتصاد الصيني من شأنها أن تفجر الوضع المالي على الصعيد المحلي، ولكن المعالجات الصينية، من خلال احتياطياتها من النقط الأجنبي التي تزيد على 3.4 تريليونات دولار، كانت تسمح لها بنوع من السيطرة على الأزمة، ومما ساعدها على السيطرة على أزمة مديونية الشركات المحلية سيطرة الحكومة على الجهاز المصرفي سيطرة كاملة.
ولكن مع حلول أزمة كورونا، باتت مشكلة عدم الشفافية لا تخص الصين وحدها، بل كل العالم أضحى بحاجة إلى مزيد من المعلومات عن هذا الفيروس لمواجهته، فقد أدى إلى إغلاق تام للاقتصاد العالمي استمر بضعة أشهر، ثم تأتي أزمة أكبر شركة عقارية في الصين “إيفرغراند” يبلغ رأس مالها نحو 300 مليار دولار، لتلقي بظلالها السلبية على الوضع الداخلي للاقتصاد الصيني، وتثير المخاوف بشأن تداعياتها على الاقتصاد العالمي.
ثم أخيرا توجيه الحكومة الصينية لمواطنيها بضرورة تخزين المواد الغذائية لمواجهة حالة طوارئ، قد تفرض قريبا؛ ليترك العالم أمام تكهنات عدة، كان أبرزها احتمال تفشي نوع جديد من كورونا داخل عدد من المقاطعات الصينية، وهو ما ينذر بإمكانية عودة حالة الإغلاق للاقتصاد العالمي مرة أخرى.
ولعل حالة الصراع الأميركي الصيني تفرض نفسها في مجال الإفصاح عن المعلومات، بحيث لا توظف نقاط الضعف في الأزمات الصينية المالية والاقتصادية ضدها، وتضعف موقفها على خريطة القوى الاقتصادية العالمية، ولكن الصين ما دامت قبلت أن تكون أحد الفاعلين الرئيسيين في اقتصاديات العولمة فعليها أن تفصح عما لديها من مشكلات، حتى يتخذ الجميع من الإجراءات الصحية والاقتصادية ما يقيه التداعيات السلبية الناتجة عن الأزمات الصينية.
مقولة “إن كل أزمة لا بد من أن تخلق فرصة” تنسب إلى الأدبيات الصينية، وأنهم عادة ما يتعاملون مع الأزمات من منظور إيجابي، ولكن إذا سلمنا بنتائج هذه المقولة فهي تنطبق أيضا على بقية المشاركين في النظام الاقتصادي العالمي، فقيام الصين كشريك اقتصادي قوي خلال العقود الثلاثة (1990-2010) كان على حساب قوى اقتصادية أخرى في آسيا وأوروبا، وكذلك فتراجعات الصين ستكون بلا شك لمصلحة اقتصادات أخرى.
لا يعني ذلك انتهاء عصر الصين بوصفها قوة إنتاجية واقتصادية كبرى، ولكن يعني تراجع حصتها، مع بقائها على خريطة القوى الاقتصادية البارزة على الصعيد العالمي، ويفرض واقع الصين الجديد التفكير في رصد بعض الفرص المتاحة للآخرين من أزمات الصين الاقتصادية.
أما المتضررون من أزمات الصين الاقتصادية تلك المتاجر الكبرى في مختلف دول العالم، التي اعتمدت على التدفق المستمر للسلع الرخيصة من الصين، وبنت سياستها التجارية على هذا الوضع، ففي كثير من عواصم العالم تجد المتاجر التي تبيع كل شيء من الصين بأسعار متميزة.
كذلك الصناعات التي اعتمدت على خطوط الإنتاج الصينية، أو مستلزمات الإنتاج، وعدم تنوع مصادر إمدادها، وقصرها على تكنولوجيا واحدة، فالبديل أمام تلك الصناعات التوجه نحو الدول الأوروبية أو الدول الآسيوية التي يمكنها أن تحل محل التكولوجيا الصينية، ولكن هذا البديل سيكون أكثر تكلفة، وذلك يعني ضعف منافسة منتجات هذه الصناعات على الصعيدين المحلي والدولي.
ومن الأضرار التي يمكن أن تلحق بدول نامية أخرى خروج الصناعات الملوثة للبيئة والكثيفة الاستخدام للطاقة من الصين إلى تلك الدول، وهو تكرار لسيناريو أوروبا نفسه في مطلع تسعينيات القرن الـ20، إذ عملت على نقل هذه الصناعات إلى خارج نطاقها الجغرافي، واكتفت باستيرادها من الدول النامية ومن بينها الصين.
أما عن المستفيدون من الأزمة، فكما قلنا سابقا إن الأزمة تخلق فرصة، وأول المستفيدين من أزمات الصين الدول المنتجة للمواد الأولية، فقد ارتفعت أسعار هذه المواد في الأشهر الأولى من عام 2021، ويتوقع أن يستمر هذا الارتفاع إلى أجل متوسط، أي خلال 3-5 سنوات، وهو ما قد يعوض الدول المنتجة للمواد الأولية عما عانته في السنوات القليلة الماضية.
ولعل أسعار الطاقة خير دليل على ذلك، فكل أنواع مصادر الطاقة الأولية تشهد زيادة في أسعارها بالسوق الدولية، النفط والغاز والفحم، وهو ما سينعش صناعة الوقود الصخري من نفط وغاز، وبلا شك سيمثل هذا الأمر ضغطا على العاملين في مجال الطاقة البديلة، ليركزوا استثماراتهم وبحوثهم لإنتاج الطاقة البديلة بكميات وأسعار يمكنها أن تخفف من حدّة ارتفاع أسعار الطاقة التقليدية، حيث تشير التقديرات إلى أن سعر برميل النفط سيبلغ 100 دولار.
ومن المستفيدين أيضا من أزمات الصين تلك الدول التي لديها قواعد إنتاجية قوية، يمكنها أن تحصل على حصة من الإنتاج الصيني الذي يتوقع تراجعه في المرحلة القادمة، ويمكنها كذلك أن تكون في وضع يسمح لها بعدم المرور بالمشكلات التي مرت بها الصين، بحيث يضمن المستوردون على الصعيد العالمي استمرار تدفق البضاعة بجودة وسعر يسمحان بالمنافسة، ولا يفضيان إلى موجات تضخمية.
ومن المستفيدين من تلك الأزمات المصنعون المحليون الذين لم يكن باستطاعتهم منافسة المنتجات الصينية، فقد تتيح لهم الفرصة استعادة مكانتهم، وتشغيل مصانعهم، بشرط تطوير أدائهم، وتعظيم استفادتهم من الفرصة، ومن شأن تفعيل هذا الأمر أن يخفف من أعباء موازين المدفوعات لدول هؤلاء المصنعين المحليين، وأن يسهم في توفير فرص عمل جديدة.
عبد الصمد ادنيدن