سجل كل المراقبين الحمولة الاجتماعية القوية التي ميزت خطاب العرش، وتوقف جلالة الملك عند المعضلة الاجتماعية، باعتبارها التجسيد الأبرز اليوم لحاجيات شعبنا وللانتظارات المعبر عنها في مختلف الجهات والمناطق.
خطاب العرش أيضا لم يكتف بتشخيص الواقع الاجتماعي أو إعادة التذكير بالاختلالات وتجليات الهشاشة، ولكنه عرض خارطة طريق واضحة الأولويات وبآجال تنفيذ محددة.
هنا عاهل البلاد لم يبرز فقط إنصاتا واضحا لنبض الناس، ولكنه نبه إلى التزام الدولة، على أعلى مستوى، بما ذكره من أوراش وإصلاحات، ومتابعته الشخصية لمسلسل التنفيذ وكيفيات القيام بذلك واحترام الآجال.
إذا أضفنا هذه المتابعة الشخصية لجلالة الملك لمنظومة إنجاز الأوراش الواردة في خطاب العرش إلى الدعوة إلى إعادة الهيكلة الشاملة للبرامج الاجتماعية بكاملها وتقوية التقائيتها، ثم التأكيد على أهمية الحوار الاجتماعي، وأيضا اعتماد السجل الاجتماعي الموحد…، فيمكن القول بأننا بصدد معالم مرحلة جديدة ومختلفة تماما بخصوص التعاطي مع المسألة الاجتماعية في بلادنا.
من جهة ثانية، يعتبر وقوف جلالة الملك في خطاب العرش عند الجانب الاقتصادي وأهمية تحفيز الاستثمارات المنتجة وتسهيل المساطر وإصلاح المراكز الجهوية للاستثمار وتطوير الإدارة، مدخلا لإحداث دينامية في الاقتصاد الوطني، والنجاح في خلق فرص الشغل، ومن ثم ربح تحدي الورش الاجتماعي الذي حظي بالحيز الأكبر من مساحة الخطاب الملكي.
إن الرؤية الملكية تقوم على أن التنمية الاقتصادية والإصلاحات المختلفة يجب أن ينجم عنها الأثر الملموس في الواقع المعيشي للناس، وبالتالي أن تشمل نتائج التنمية المغاربة وأن تحقق الكرامة والعدالة الاجتماعية والمجالية.
بعض القراءات المتسرعة التي أعقبت الخطاب الملكي روجت أنه غيب البعد السياسي والديموقراطي، وأخرى مثلها انتهزت الفرصة لتطلق هجوماتها من جديد على القوى السياسية وعلى السياسة بشكل عام.
من المؤكد أن السؤال الاجتماعي اليوم يطرح نفسه بحدة، وبسببه تبرز توترات في عديد مناطق بالبلاد، ومن ثم فالإصلاح الشمولي للسياسات والبرامج العمومية المتعلقة بالحماية الاجتماعية، وتقوية التقائيتها وصياغة منظومة تنفيذ بإمكانها تحقيق المردودية المطلوبة منها، وأيضا إعمال مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة في كل مستويات الأداء العام، ولكن كل هذا لن ينجح من دون النجاح في تمتين أسس دولة القانون والمؤسسات، ومن دون تعبئة وانخراط الإدارات والجماعات المحلية والأحزاب والنقابات، أي من دون “سياسة”، ومن دون الإصرار الجماعي على مواصلة الإصلاحات الديموقراطية وتقوية عمل الأحزاب، أي ضخ نفس ديمقراطي جديد في البلاد بشكل عام.
لقد لفت جلالة الملك إلى أهمية النقد الذاتي، وحذر كذلك من السلبية والعدمية وبائعي الأوهام، وحث الأحزاب على استقطاب نخب جديدة والقيام بتجديد أساليب عملها، وكل هذا يمثل منظورا ملكيا واضحا ينتصر لمحورية دور الأحزاب الجدية والحقيقية، ويلفت إلى أن تبخيس عمل الأحزاب ومختلف هيئات الوساطة هو الذي يتيح للسلبيين والعدميين سهولة الركوب على الاختلالات الاجتماعية وافتعال راديكالية عمياء من دون أي أفق، وبلا أي حرص على الوطن، الذي اعتبره جلالة الملك: “…بيتنا المشترك يجب علينا جميعا المحافظة عليه”.
لقد حذر خطاب العرش من السلبية والعدمية إذن، ولكنه أيضا انتقد ثقل المساطر الإدارية وتباطؤ الإصلاحات وضعف المحاسبة وتتبع التنفيذ، ودعا إلى التفكير بحجم الوطن وضرورة الحفاظ عليه، وحث الأحزاب على التوجه نحو نخب جديدة وتطوير أساليب عملها، ثم شدد على ضرورة ممارسة نقد ذاتي جماعي، وتبعا لذلك التأسيس لمرحلة جديدة قوامها إشعاع نفس ديموقراطي وتنموي جديد في البلاد، وتمتين الثقة بما يخفف من حدة القلق العام المتنامي وسط فئات مختلفة من شعبنا في الفترة الأخيرة.
< محتات الرقاص