ترك لنا الرحّالة العرب القدماء كنوزا معرفية ثرية في ما يسمى بـ”أدب الرحلة”. جابوا من خلاله الدول والأمصار والبلدان القريبة والبعيدة عبر البحار والبراري والسهول والجبال، وهو أدب استثنائي في الحياة السردية العربية القديمة نظرا إلى ما توفر عليه من معطيات معرفية واستكشافية للآخر شملت المتن والهامش في حياة الشعوب. ولم تُبقِ لا صغيرة ولا كبيرة إلا وأدرجتها ضمن مفهوم معاينة الآخر والتقاط الأثر العياني والخرافي والأسطوري والديني والاجتماعي والسياسي، ويمكن تشبيه أدب الرحلة القديم مثل صندوق مقفل يضم في جوفه كل شيء. لكنه لم يُفتح كليا ولم تُدرس الكثير من خفاياه وأسراره الكثيرة حتى اليوم. مثلما هو كتاب “تحفة النظّار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار” للرحّالة العربي محمد بن عبدالله بن محمد اللواتي الطنجي الملقب بـ”ابن بطوطة” الذي تمكنت من قراءته أخيرا بعد تأجيلات استمرت ربع قرن.
هذه الرحلة سِفر عظيم وباهر قطع فيه الرجل ما يقارب 120 ألف كيلومتر وهو رقم قياسي بالمعايير كلها في زمن كان فيه السفر الطويل مستحيلا بسبب وسائط النقل البدائية وتباعد الدول والأمصار التي تفصلها البحور والصحارى والجبال؛ غير أن ابن بطوطة خرق المعتاد وقضى 27 سنة (1325- 1352م) في الترحال فطاف بلاد المغرب ومصر والحبشة والشام والحجاز وتهامة ونجد والعراق وفارس واليمن وعمان والبحرين وتركستان وما وراء النهر والهند والصين ووصل إلى بلاد التتار وأواسط أفريقيا.
وتمكن ابن بطوطة من أن يرى العالم القديم كله جوّابا وشاعرا وقاضيا وسفيرا، ليصفه في هذه الموسوعة وصفا فائقا ورصينا وقف فيه على عادات الشعوب ودياناتها وحياتها اليومية والعسكرية، وتحدث فيه عن أهلها وحكامها وعلمها وعلمائها وتجارتها وتجارها. ووصف البناء والعمران ومزاياه وطرائقه. كما وصف الألبسة بألوانها وأشكالها وأنواعها ولم ينسَ الأطعمة وأنواعها وطريقة صناعتها. ومما يزيد من جماليات هذا الأثر التاريخي هو الواقع الزاخر بالحركة والتعبئة اليومية لزوايا الحياة، سياسة وتجارة وزراعة وعلوما.
هذه الموسوعة التاريخية والجغرافية والثقافية والجمالية تحتاج إلى فيض من الدراسات المستحدثة بضوء المناهج النقدية الجديدة التي تتعامل مع النص كوحدة سردية مستقلة، لكن من وجهات نظر مختلفة وزوايا رصد جديدة. فمفاصل الرحلة البطّوطية كثيرة والمداخل إليها أكثر، ويمكن بهذا الصدد معاينة مفردات واسعة فيها والكتابة عنها، فمثلا يمكن أن تكون العجائب والغرائب التي صادفها ابن بطوطة في البلدان المتعددة التي وصلها مبحثا فريدا من نوعه، فالحالات الغريبة والعجيبة التي توفرت عليها الرحلة هي مصدر سردي واسع النطاق على صعيد تجارب الشعوب القديمة. فيه من الخيال والأسطرة بقدر ما فيه من الواقع، ومثلها الأساطير والخرافات والتقاليد الشعبية والأعراف اليومية التي تشد المجتمعات والشعوب لحياة معينة من دون غيرها. وكل هذه المفردات هي مكونات سردية وعناصر دافعة لمباحث مستقلة تستقي من هذا السّفْر مادتها.
ويمكن أن يكون نوع الطعام في شتى البلدان كتابا ثريا من نوعه في وصف الأطعمة القديمة ومصادرها النباتية والبحرية كموسوعة تاريخية لأصناف الغذاء التي يتناولها سكان الأمصار والدول والقصبات والقرى التي وطأها ابن بطوطة. بمعنى معاينة المطبخ القديم وكيفية إعداده، وهذا جزء يهم السرديات الحديثة التي تذهب إلى الهوامش وتحييها من جديد بضوء مفاتيح النصوص الحديثة التي جمعت النصوص المتفرقة تحت مسميات مختلفة في نص جامع واحد. فالأطعمة وأنواعها ومصادرها النباتية توفر قدرا كبيرا من المعلومات القديمة التي لا يمكن الاستغناء عن معرفتها.
الأشجار والنباتات والفواكه والخضروات والمزارع والبساتين والغابات وأنواعها وأصنافها ومواسم نضجها مبحث جغرافي فريد في هذه الرحلة الموسوعية التي ضمت كل شيء في جوانبها الكثيرة، ولم يبخل ابن بطوطة على ذكر أقل الأشياء وأصغرها وأكبرها في سرديات الرحلة التي بلغت أكثر من ربع قرن، وبالتالي توفرت ذاكرته العجيبة على مفردات كثيرة، كالطيور ومسمياتها ومواسم هجرتها. والبحار وأطوالها وأعماقها ومسمياتها وملتقياتها. والسفن الصغيرة والكبيرة وكيفية صناعتها وأسمائها وأنواعها وتفصيلاتها الكثيرة التي لا تغيب عن معرفتنا بكل تأكيد.
في الشأن الاجتماعي وقف ابن بطوطة على الكثير من المفاصل الحيوية التي تشد الناس إلى بعضها في الدين والطقوس والشعائر وبناء الكنائس والمساجد والجوامع، مثلها الأزياء المدنية والشعبية والبرية والبحرية التي تضيف إلى سجلات السرد الكثير من المعارف، وتكشف النوع السائد في زمنه. ومثلها التطبيب البدائي بالأعشاب التي يمكن أن تكون مصدرا علميا للإنسان القديم.
مر ابن بطوطة بالكثير من الأمراء والسلاطين والقادة العسكريين والقضاة في مختلف الأمصار التي وصلها ووقف في الكثير من أجزاء الرحلة على طرائق حكمهم، وصوّر لباسهم وعددهم القتالية والحربية كما صور قصورهم ورياشهم وبيوتهم وطرق معاملاتهم مع الرعية، ولم يترك شاردة ولا واردة في هذا الشأن إلا وجاء بها تعزيزا لفطنته في مراقبة الأمكنة. فالمكان القديم هو المهيمنة الأساسية على هذه الرحلة الطويلة. فالمدن التي ربما اندثر الكثير منها في الوقت الحاضر تحتاج إلى دراسات كثيرة وإحياء جديد، ويمكن أن تشكل عنوانا مهما في العمارة والبناء.
تفكيك مثل هذه الرحلة إلى عناصر سردية مختلفة ومتعددة في ضوء القراءات النقدية، وإنشاء مكونات قصصية جديدة راصدة لكل فقراتها ستُنتج كتبا أخرى موازية لهذه الرحلة العظيمة في ضوء التشكيل السردي النقدي الجديد.
بدر سالم
كاتب عراقي