بمناسبة الذكرى السنوية الثالثة والسبعين لتقديم الحزب الشيوعي المغربي لوثيقة المطالبة بالاستقلال، (يوم 04 غشت 2019) والتي اتخذت شكل بيان صادر عن اللجنة المركزية للحزب يطالب بإلغاء الحماية ويتطلع، في نفس الوقت، نحو بناء دولة المؤسسات الدستورية والتنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية، نظم حزب التقدم والاشتراكية، باعتباره الامتداد الفكري والسياسي والتنظيمي للحزب الشيوعي المغربي والتحرر والاشتراكية، احتفالية كبرى بقاعة العروض التابعة لفندق أطلس آسني بمدينة مراكش، يوم السبت 27 يوليوز 2019، إيمانا منه بأهمية ربط حاضر بلدنا بماضيه من أجل الاتجاه السوي نحو المستقبل، وحرصا منه على تسليط الضوء على كافة الجوانب المتصلة بتاريخنا الوطني، لا سيما تلك المتعلقة بتعددية مرجعيات النضال الوطني والكفاح من أجل نيل الاستقلال، وسعيا منه لإبراز الدور الكبير الذي لعبه الشيوعيون المغاربة في معركة التحرر الوطني من قبضة الاستعمار..
وللتعبير أيضا باعتزازه بهويته الوطنية والتقدمية والديموقراطية، وبنضالات الأجيال التي تعاقبتْ على الانتساب إليه وتحملتْ مسؤولية قيادته وبلورة توجهاته.
هذه الاحتفالية الكبرى التي أقيمت تحت شعار: “التحرر الوطني بمضمون ديموقراطي”، تخللتها فقرات سياسية وفنية، تميزت بمداخلتين هامتين لكل من الأستاذ مصطفى الكثيري، المندوب السامي لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير؛ والباحث والمؤرخ الأستاذ جامع بيضا مدير أرشيف المغرب.. فيما يلي نصيهما الكاملين:
لمحة تاريخية موجزة عن الشيوعية والشيوعيين في المغرب
بادئ ذي بدء، أود أن أتقدم بجزيل الشكر والامتنان للأستاذ نبيل بنعبد الله ورفاقه في حزب التقدم والاشتراكية على الدعوة الكريمة التي تتيح لي الفرصة، كباحث مؤرخ، لكي أقول كلمة عن السياق العام الذي ظهر فيه بيان الاستقلال للحزب الشيوعي المغربي (4 غشت 1946) الذي نحتفل اليوم بذكراه الثالثة والسبعين. ومعلوم أن هذا البيان قد ناله النسيان، وحان الوقت اليوم لكي يرد له الاعتبار. فالذاكرة تنسى لأن طبيعتها انتقائية، ولكن التاريخ لا ينسى. فالتاريخ عنيد، ومهما طال الزمن أو قصر فإنه يأبى إلا أن يعيد الأمور إلى نصابها.
وحتى نفهم، بكل موضوعية، المسار الذي حدد ما لحق بتلك الوثيقة من تهميش، ارتأيت أن أحسن ما يمكنني أن أساهم به في هذا اللقاء الاحتفالي هو إعطاء لمحة تاريخية موجزة عن الشيوعية والشيوعيين في المغرب.
فقد دخلت الشيوعية إلى المغرب في حقائب الجالية الفرنسية التي انبثق في صفوفها، منذ العشرينات من القرن العشرين، فرع محلي للحزب الشيوعي الفرنسي ووداديات نقابية تدور في فلكه. لكن الشيوعيين وجدوا صعوبات كبرى للتحرك تحت وطأة سياسة المقيم العام الماريشال ليوطي المعروف بتوجهاته اليمينية.
وفي أجواء حرب الريف التحريرية، بين 1921 و1926، اشرأبت أعناق الشيوعيين عبر العالم إلى هذا الحدث العظيم، فكثرت مظاهر تضامنهم، في فرنسا وفي غيرها من البلدان، مع الثائر محمد بن عبد الكريم الخطابي. ومن أوجه هذا التضامن ما عبر عنه الفيتنامي “هوشي منه” Ho Chi Minh ، تحت اسم مستعار(1) وهو آنئذ طالب بفرنسا، في مقالة منشورة في Le Bulletin Communiste الصادرة يوم 31 أكتوبر 1924، من انتقادات لاذعة ضد المقيم العام ليوطي الذي رفض إشهار إعلان حقوق الإنسان والمواطن في الأماكن العمومية بالمغرب. وللتصدي لمثل هذه الأفكار الثورية الواردة من الخارج، بما في ذلك فرنسا، فقد دأبت الإقامة العامة بالرباط على حظر عدد كبير من الصحف والنشرات اليسارية. فخلال الفترة ما بين 1914 (تاريخ صدور أول قانون منظم للصحافة بالمغرب) و1927 (نهاية حرب الريف)، أحصينا 89 قرارا بحظر الجرائد الوافدة من الخارج، 62 منها في عز حرب الريف. وضمن تلك المطبوعات الممنوعة بعض الجرائد التي أصدرها الحزب الشيوعي الفرنسي باللغة العربية: الكزيرنا – الفبريكا – العلم الأحمر- البيرق الأحمر- اللواء الأحمر- الراية الحمراء.
لم تنجح الإجراءات القمعية في إخراس أصوات الشيوعيين. والدليل على ذلك أنه بعد أن اقتصرت أصداؤها على الدار البيضاء، كقطب اقتصادي عمالي، وعلى الرباط كعاصمة إدارية للبلاد، امتدت إلى بعض الحواضر الداخلية. ولعل أحسن مثال يجسد ذلك يتمثل في ما عرف بـ “قضية المغرب الأحمر” L’affaire du Maroc Rouge .
ففي سنة 1935، عرفت حاضرة مكناس محاكمة عسكرية ضد ملازم احتياطي فرنسي يدعى جول دومونJules Dumont المتهم بترويج مطبوعات وأفكار شيوعية في صفوف المغاربة. وقد صدر في حقه حكم قاس يقضي بحرمانه من ميدالياته العسكرية، وإقصائه من لائحة الضباط الاحتياطيين، وطرده من المغرب. وفي أجواء هذه القضية التي أحدثت ضجة، ظهرت بالدار البيضاء صحيفة تحت عنوان Le Maroc Rouge (المغرب الأحمر) التي لها مواصفات منشور أكثر من جريدة، إذ كانت تقع في صفحتين مخطوطتين ومستنسختين بواسطة “ستانسيل”. وقد ندد هذا المنشور بقوة بمحاكمة مكناس وبالسياسة المتبعة من لدن أولي الأمر الذين يخدمون، حسب تعبيره، “الأمبريالية الفرنسية” التي دأبت على قمع الأصوات الشيوعية في المغرب.
وبالرغم من تواضع هذه المحاولة الصحفية تقنيا ومحدودية انتشارها في ربوع البلاد، فقد انزعجت السلطات لظهورها وسارعت إلى وأدها في المهد إذ لم يصدر منها سوى عددين.
لم يتنفس الشيوعيون الصعداء في المغرب – ومعظمهم من الفرنسيين أو من الجمهوريين الإسبان أو من بعض الإيطاليين المناوئين للنظام الفاشستي في بلدهم – إلا في سنة 1936 عندما وصلت الجبهة الشعبية إلى سدة الحكم في فرنسا، وقامت بتعيين المقيم العام الجنرال نوكيسNoguès ممثلا لها في الرباط خلفا لليميني مارسيل بيروطون Marcel Peyrouton. فالمقيم العام الجديد، وإن لم يعترف رسميا بالتنظيم السياسي الشيوعي في المغرب، فإنه استقبل بعض مناضليه وأفسح المجال لهامش محترم من الحرية لصحافته. فظهرت جريدة “كلارطي” Clarté (الوضوح) في الدار البيضاء، ثم L’Espoir (الأمل) بالرباط، فتوسعت دائرة استقطاب المناضلين في صفوف الجالية الأوروبية أولا (ضمن السككيين، وهيئات التعليم، والبريد، وصغار التجار…) قبل أن يتطور الأمر تدريجيا ليشمل المواطنين المغاربة بالرغم من مناوئة السلطات الفرنسية لذلك.
كانت جريدة “كلارطي”، التي برزت للوجود في 19 دجنبر 1936، قد قمت نفسها أول الأمر كلسان محلي للفرع الفرنسي للأممية الشيوعية، ثم بعد ذلك فضلت إبراز صفتها المغربية باختيار عبارة “اللسان الجهوي للحزب الشيوعي بالمغرب”. وهذا ينم عن تطورات داخلية في صفوف الشيوعيين بالمغرب. وقد كان يتزعم هذا الحزب ليون روني سلطانLéon René Sultan ، وهو يهودي من أصل جزائري وحامل للجنسية الفرنسية، كان قد انخرط في هيئة المحامين بالدار البيضاء منذ نونبر 1929. وقد ساعدته أصوله الجزائرية في فتح قنوات التواصل مع المغاربة، المسلمين منهم واليهود. وكان ليون سلطان ضمن أبرز المحررين في الأسبوعية “كلارطي” حيث كان يكتب باسم مستعار، وهو Marc Forclaude في ركن بعنوان “السياسة المغربية”.
شكلت هذه الجريدة الشيوعية منبرا يطالب دون كلل بمختلف الإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية لفائدة المغاربة. لكنها ترفض التماهي مع ذات المطالب التي صدرت عن الحركة الوطنية الناشئة لكونها تعتبر أن زعماءها من البورجوازيين الذين لا يمكنهم التعبير حقيقة عن تطلعات الشعب المغربي. وفي الوقت ذاته، لم تكن الجريدة ترى أن الوقت مناسب لتقديم مطالب قد تشكل حرجا بالنسبة لحكومة ليون بلوم اليسارية.
أدت بعض الانقسامات داخل الصفوف الشيوعية إلى نهاية مشوار جريدة “كلارطي” المعروفة عند قرائها من المناضلين بـ “البرافدا المغربية”Pravda إشارة إلى الجريدة السوفياتية ذائعة الصيت. كان ذلك في يوليوز 1937، ولكن عندما تأسس بصفة رسمية “الحزب الشيوعي بالمغرب” في ربيع 1938، سارع إلى إنشاء جريدة بديلة بالرباط تحت عنوانL’Espoir (الأمل) التي رأت النور بمناسبة عيد الطبقة العاملة في فاتح ماي. وفي هذا المنبر الجديد، أوكلت مهمة تغطية ومعالجة القضايا المغربية إلى جان دريش Jean Dresch، وهو أستاذ فرنسي مبرز في مادتي التاريخ والجغرافيا. وقد أبان هذا الرجل في مقالاته عن معرفة عميقة بالمغرب والمغاربة. لكن سرعان ما خفت صوتL’Espoir الشيوعية في غشت 1939 تحت وقع طبول الحرب العالمية الثانية.
وتحت وطأة ظرفية هذه الحرب، أصبحت القوى اليسارية في المغرب محط مضايقات واعتقالات، إذ أن الإقامة العامة بالرباط انحازت إلى نظام فيشي مع ما يعنيه ذلك من توجهات إيديولوجية يمينية متطرفة، ومن ممارسات منسجمة معها. وفي خضم هذه الأجواء الخانقة، استطاع شيوعيو المغرب أن يطلقوا صيحة فريدة من نوعها آنئذ بإصدار جريدة هي أقرب في شكلها إلى منشور، عنوانها “الوطن” باللغة العربية بالرغم من كون لغة التحرير هي الفرنسية. وإذ لم يظهر من هذه الجريدة سوى عددين، فإنها خلدت اسمها في التاريخ بمطالبتها باستقلال المغرب.
إنها صيحة تاريخية جريئة، لكن للأسف لا نتوفر عن هذه الجريدة إلا على المعلومات القليلة التي دونها كل من علي يعته وألبير عياش. فحسب الأول، ظهرت “الوطن” في ماي 1942، في حين يرى الثاني أن ظهورها كان في يناير 1943، أي بعد النزول الأمريكي في شمال إفريقيا. فللكرونولوجيا هنا قيمة كبرى للتدقيق في أهمية هذه المبادرة. وقد يكون ما ذهب إليه ألبير عياش هو الصحيح لكونه هو من أورد بض مقتطفات المنشور.
وإن مسألة غياب معلومات دقيقة عن هذه الصفحة المهمة من تاريخ المغرب المعاصر لتطرح بحدة مسألة جمع الأرشيفات الحزبية والاحتفاظ بها حسب المعايير المهنية، وإتاحتها للباحثين والمهتمين. وإننا نوجه دعوة إلى حزب التقدم والاشتراكية ليكون قدوة في هذا المضمار بتنسيق وتعاون مع مؤسسة أرشيف المغرب.
ومهما يكن من أمر جريدة “الوطن” وسبقها في المطالبة بالاستقلال، فهذه الصفحة الجريئة تشكل تعبيرا عن سياق تاريخي معين، وأيضا صدى لتطور لافت للانتباه يكمن في مغربة صفوف المناضلين والقادة على السواء. وقد تأكد هذا التطور بجلاء غداة نهاية الحرب العالمية الثانية. فبعد أن وافت المنية روني ليون سلطان في يونيو 1945، حل محله علي يعته، كما أن الحزب قد بادر إلى استبدال اسمه من “الحزب الشيوعي بالمغرب” (وهو الاسم الذي احتفظ به رسميا بعد إعادة تشكله سنة 1943) إلى “الحزب الشيوعي المغربي” مع ما في ذلك من دلالات واضحة. وازداد هذا التوجه وضوحا بصدور بيان 4 غشت 1946 والذي صرح جهارا بأن “الشعب المغربي يريد أن يعيش حرا في مغرب مستقل”، كما دعا إلى إنشاء “مجلس وطني مغربي وحكومة مغربية يسيران الشؤون المغربية كلها”، مع توحيد جميع المناطق الرازحة تحت الهيمنة الاستعمارية.
حصل هذا البيان على الإجماع في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الملتئمة يومي 3 و4 غشت 1946. لكن مقص الرقابة حال دون نشره في جريدةEspoir كما كان مقررا. فلجأ الحزب إلى توزيعه، بالعربية والفرنسية، بواسطة المناشير.
وهذا البيان، الذي لم ينل حظه في الدراسات التاريخية والكتب المدرسية على غرار ما حصل للبيانات التي أصدرتها تنظيمات سياسية أخرى(2)، يعتبر مفصليا في تاريخ الشيوعية والشيوعيين بالمغرب. ذلك أنه قد مهد السبيل للتواصل مع القصر، الشيء الذي تجسد في الاستقبال الذي خص به السلطان سيدي محمد بن يوسف وفدا من الحزب الشيوعي المغربي يوم 26 غشت 1946، أي بعد مرور ثلاثة أسابيع فقط على تاريخ تلك الوثيقة. وقد تشكل الوفد المذكور من علي يعته، وأحمد الماضي، وميشيل مازيلا Michel Mazella. وتجدر الإشارة هنا إلى أن الإقامة العامة لم تنظر بعين الرضى لهذا اللقاء التي رأت فيه تعزيزا للحركة الوطنية المغربية ضد الهيمنة الاستعمارية الفرنسية على المغرب.
إن هذا التطور في مسار الحزب الشيوعي قد وجد بطبيعة الحال أصداء في مضامين صحافته، سواء تعلق الأمر بجريدةEspoir (أمل) الصادرة بالفرنسية أو في “حياة الشعب” التي كانت تصدر سريا بسبب رفض السلطات الترخيص لجريدة شيوعية باللغة العربية.
ففيما يتعلق بجريدة Espoir ، فقد أصبح يترأسها المغربي عبد السلام بورقية، كما كانت أعمدتها مفتوحة لعدد متزايد من الأقلام المغربية. ومن الشعارات الكبرى التي كان يصدح بها الحزب الشيوعي حينئذ ضرورة تشكيل جبهة وطنية موحدة يتم في إطارها التنسيق من أجل تحقيق الأهداف المشتركة وفي مقدمتها الاستقلال. غير أن ظلال الحرب الباردة، والاختلافات المذهبية، كانت تحول دون هذا التنسيق. ففي أبريل 1951، اجتمعت بطنجة أربعة أحزاب مغربية (الاستقلال- حزب الشورى والاستقلال- حزب الإصلاح الوطني- حزب الوحدة المغربية) متجاهلة عن قصد الحزب الشيوعي المغربي.
ولما وقعت أحداث الكاريان سانطرال بالدار البيضاء في دجنبر 1952، على إثر اغتيال النقابي فرحات حشاد في تونس، اتخذتها الإقامة العامة ذريعة للتلويح بالتواطؤ الاستقلالي – الشيوعي، فقررت حظر نشاط جميع الأحزاب الوطنية ومنع منابرها الصحفية من الصدور.
استطاع الحزب الشيوعي أن يستعيد نشاطه سنة 1956 غداة استرجاع المغرب لاستقلاله، ولكن لم يلبث أن منع من جديد سنة 1959. ولم يتمكن من العودة إلى الساحة السياسية إلا سنة 1968 تحت اسم “حزب التحرر والاشتراكية” ليتم حظره من جديد في السنة الموالية. وفي العام 1974، انبعث طائر الفينيق مجددا من رماده تحت اسم “حزب التقدم والاشتراكية”، وهو الاسم الذي يحمله حتى الوقت الحاضر.
*مدير أرشيف المغرب
بقلم: ذ. جامع بيضا*