الوطن بيتنا المشترك، عبارة ترددت بشكل بارز في الخطاب الملكي لسنتين متتاليتين، سنة 2018 التي لخص الخطاب مجرياتها السياسية وأزمتها الاجتماعية – المتمثلة خصوصا في قضايا الريف وجرادة وزاكورة- في عبارات دقيقة استهدفت النخب السياسية بالدرجة الأولى، ثم سنة 2019 التي جاء خطاب الملك فيها مستحضرا للأولويات التي لا يمكن إلا بها حسب الخطاب أن نتجاوز كمواطنين وكدولة ظلمة النفق الذي أدخل فيها المسؤولون المغاربة أو بعضهم هذه البلاد، وذلك ما يؤكده الخطاب الملكي ليلة البارحة.
ولقراءة سليمة تستحضر ما جاء به الخطاب في سياق ما يعيشه المغرب والأمل المعقود على المستقبل، دعونا نتتبع العبارات الواردة فيه بنوع من التفصيل في استحضار كذلك لخطاب الملك في نفس المناسبة سنة 2018، الذي تعددت مضامينه بشكل مشترك مع خطاب هذه السنة (2019) بين كل من ضرورة تجديد النخب، والنمودج التنموي، والاستثمار، والتعليم، وفرص الشغل، وهشاشة بعض القطاعات الاجتماعية، والريادة على مستوى إفريقا، مع استحضار التلاحم في المشارع بين كل من الشعب المغربي والجزائري بمناسبة كأس إفريقيا للأمم.
• على مستوى بناء الدولة الاجتماعية من منطلق تجديد المسؤولين والنخب:
لقد جاءت عبارات الخطاب الملكي في محطات كثيرة من الخطاب، لتؤكد على مسألة راسخة في أدهان المغاربة الذين يعايشون الأزمة كل يوم، وهي أن النموذج التنموي للمغرب لم يحقق تطلعاتهم في مجالين رئيسيين، وهما الصحة والتعليم، ثم البنية التحتية، والرخاء، ومرد ذلك من وجهة نظر الملك التي استقرأناها من خطابه، أن المتدخلون في صياغة القرار العمومي والسياسات العمومية بالمغرب، يميلون إلى توظيف العقلية المتصلبة الوفية للماضي بكل أخطائه، ويرفضون الانفتاح على الواقع الجديد للمغرب، هذا الواقع الذي تعتبر الذهنية الشابة والعقليات العصرية السياسية للشباب جزء منه، ترفض بالمطلق منطق الاستيلاء على السلطة وتوظيفها لغير المصلحة العامة، وهو ما جاءت تلخصه عبارة جد دقيقة في خطاب الملك لسنة 2018 والمتعلقة بدعوته الأحزاب السياسية لتجديد نخبها وضخ دماء جديدة وشابة وكفاءات لها دهنيات تفكر بمنطق سرعة الحاضر وحاجاته في مصلحة الوطن.
وبالمقارنة بين خطاب السنة الماضية وخطاب هذه السنة، فإنه لا يخفى على متدبر ذلك التلازم الحاصل بين الدعوة لتجديد النخب، ودعوة الملك للسيد رئيس الحكومة سعد الدين العثماني البارحة من خلال خطابه، لاقتراح تعديلات حكومية وإدارية مستعجلة قائمة على كفاءات تناسب تحدي المغرب من أجل الدولة الاجتماعية في المستقبل القريب.
ثم إن الدعوة في كل مرة لضرورة إعادة النظر في مكونات النسيج السياسي المغربي في شقه المتعلق بالحكومة والأحزاب السياسية وتعديله، لهو أمر يؤكد أن المؤسسة الملكية نفسها ترد الصدى الذي يحدثه صوت الشارع المغربي، صدى يتفق مع خلاصة أن المسؤولية في المغرب تدبر في جوانب عدة بشكل لا يخدم المغرب، ولا يخدم المواطنين المغاربة الذين يعيشون في ظروف صعبة تؤكدها الأحداث المتوالية من الكوارث في الصحة والتعليم والبنية التحتية والدخل الاقتصادي للمواطن المغربي، وهو ما يتفق معه الخطاب الملكي في عباراته التي تقول “لقد أنجزنا نقلة نوعية، على مستو ى البنيات التحتية، سواء تعلق الأمر بالطرق السيارة، والقطار فائق السرعة، والموانئ الكبرى، أو في مجال الطاقات المتجددة، وتأهيل المدن والمجال الحضري. كما قطعنا خطوات مشهودة، في مسار ترسيخ الحقوق والحريات، وتوطيد الممارسة الديمقراطية السليمة. إلا أننا ندرك بأن البنيات التحتية، والإصلاحات المؤسسية، على أهميتها، لا تكفي وحدها”.
• على مستوى التنمية والاستثمار
لقد اعتنى الخطاب الملكي لسنة 2018 بموضوع الاستثمار بشكل يوضح ضعف بنية الاقتصاد الوطني من منظور قيامه على 95% من المقاولات الصغرى والمتوسطة التي تعاني من تعطل ثلاثة متدخلات أساسية في نجاحها وبروزها وتنافسيتها، هذه الأقطاب المتمثلة عبر ما جاء في نفس الخطاب في كل من تنزيل نموذج اللاتمركز الإداري بشكل يمنع التعقيدات التي يعاني منها الاقتصاد الوطني، ثم إطلاق الميثاق الجديد للاستثمار وإصلاح المراكز الجهوية للاستثمار، بالإضافة إلى اعتماد نصوص قانونية تحدد أجلا معقولا لا يتعدى شهر للبت في طلبات الاستثمار، دون إغفال عمل الإدارات المغربية في هذا السياق على عدم طلب وثائق تتوفر لدى إدارة أخرى خدمة للسرعة في معالجة الملفات المتعلقة بالاستثمار والرفع من إنتاجية الاقتصاد الوطني.
وهو ما يتوافق معه الخطاب الأخير لسنة 2019 الذي يؤكد أكثر من سابقه على ضرورة فتح المجال أمام الاستثمار الأجنبي الذي يرفع من عدد فرص الشغل حسب الخطاب ويساعد على الانفتاح والاستفادة من التجارب الناجحة، وهو ما لا يترك له بعض المسؤولين مجالا بامتناعهم على الانفتاح على الاستثمارات الأجنبية وهو ليس خوفا منهم على فرص الشغل كما يدعون ذلك، إنما خوفا على مصالحهم الخاصة كما جاء في الخطاب، وهو ما يبرر الدعوة الصريحة التي وجهها الملك لرئيس الحكومة من أجل اقتراح كفاءات جديدة وجدية تعوض مسؤولين في قطاعات معينة.
• على مستوى النموذج التنموي :
لقد نبه الملك في مستهل الحديث عن النموذج التنموي الذي اختاره المغرب، إلى أنه كملك وكأعلى سلطة بالبلاد لا يميل شخصيا لإحداث اللجان الخاصة، لأنها أحسن طريقة لدى البعض، لدفن الملفات والمشاكل، غير أنه أعقب ذلك كاستثناء بقوله “ولكننا بادرنا لإحداثها في بعض القضايا، ذات البعد الوطني، كالجهوية والدستور، ومدونة الأسرة، وهيأة الإنصاف والمصالحة، وحرصنا شخصيا، على متابعة أشغالها؛ فكانت نتائجها إيجابية وبناءة. وفي هذا الإطار، قررنا إحداث اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي، التي سنقوم في الدخول المقبل، إن شاء الله، بتنصيبها” كما بين الخطاب أنه ستكون هذه اللجنة مركبة من مختلف التخصصات المعرفية، والروافد الفكرية، من كفاءات وطنية في القطاعين العام والخاص، تتوفر فيها معايير الخبرة والتجرد، والقدرة على فهم نبض المجتمع وانتظاراته، واستحضار المصلحة الوطنية العليا.
كما أكد الخطاب على أن هذه اللجنة لن تكون بمثابة حكومة ثانية، أو مؤسسة رسمية موازية، وإنما هي هيأة استشارية، ومهمتها محددة في الزمن. وهو ما استبق من خلاله الخطاب لربما مسألة انحياز العديد من القائمين على قطاعات اجتماعية مهمة إلى تبرير فشلهم بالقيود المفروضة من جهات معينة، أو على الأقل تعليق مسؤولية فشلهم على جهات أخرى.
إن خطاب 29 يوليوز 2019 لحظة للاعتراف بفشل الدولة حقيقة في تدبير ملفات مهمة جدا، تعتبر من لبنات الدولة الاجتماعية التي توفر أساسيات العيش لمواطنيها، كما أنه لحظة اعتراف ملكي بالخلل الحقيقي الذي يعتري مؤسسات المغرب، وهو خلل سببه الرئيسي مسؤولوه الذين يستهلكون المال العام بدون وجه ترشيد أو عقلانية، خصوصا مع تأكيد الخطاب بصريح العبارة على أن هناك العديد من القطاعات التي ترصد لها مبالغ مالية ضخمة لا يتم ترشيد إنفاقها، ناهيك عن التداخل بين تلك القطاعات، بالإضافة إلى غياب التنسيق فيما بينها مما يستهلك المال والوقت والمجهود ويهدر كل ذلك، فيبقى الضحية هو المواطن، والوطن.
إن خطاب عيد العرش لسنة 2019 ما هو إلا نوع من التكامل مع ما ورد في سابقه سنة 2018، تكامل في التأكيد على أن معضلة المغرب لا تخرج عن عدم تحلي العديد ممن أوكلت لهم المسؤولية بحس الوطنية الحقيقية، التي تفترض ترشيد كل درهم من المال العام من أجل تحقيق إضافة معينة إيجابية خدمة لمفهوم الدولة الاجتماعية، وما الدعوة لتجديد نخب الأحزاب والحكومة والإدارة إلا اعتراف بأن الخلل هنا بالضبط، خلل مرتبط بالإرادة والعقليات الموكول إليها مسؤولية التسيير والتفكير والتدبير.
فإذا كان المغرب بيتنا المشترك كقيادة وشعب، فإن ترتيب هذا البيت يقتضي تحلي جميع أفراده بروح المسؤولية اتجاه قضاياه، اتجاه الفقر والهشاشة والصحة والعدل والتعليم والبنيات التحتية، باعتبار كل ذلك بمثابة الأعمدة العريضة التي يقف عليها الوطن، والتي لا يمكن أن يكون وطنا قويا بدونها وبيتا مشتركا دافئا لساكنيه في غيابها.
< خليل مرزوق باحث في القانون والعلوم السياسية