بلا أي خلط في الثوابت والرؤى

تشهد ساحتنا الإعلامية والسياسية جدلا ونقاشا كبيرين إثر المستجدات الأخيرة التي تعني قضية وحدتنا الترابية، والتي جسدها وأعلن عنها الديوان الملكي عبر بلاغين أثنين.
هذا التفاعل الوطني يعتبر إيجابيا على كل حال، ويؤكد حيوية واضحة في بلادنا، ومن الضروري تثمينه بلا تشنج أو سعي إلى القذف أو التخوين أو كل التهجمات المتبادلة.
من المؤكد أن التعاطي مع الموضوع المستجد ليس سهلا أو بسيطا، وربما هو يختلف عن انتظارات سياسية وعاطفية وإيديولوجية لدى أغلبنا، وطبيعي أنه يحيل لدى الكثيرين منا على قناعات مبدئية وثوابت تاريخية راسخة، أو أنه جاء من خارج أدوات معتادة لدينا في قراءة وتحليل الوقائع والمواقف السياسية، ولكن المؤكد كذلك أن الأمر يمثل اليوم قرارا مركبا، ولا يتصل فقط بالقضية الفلسطينية وموقفنا منها، وإنما هو أساسا وكذلك يمثل تحولا بنيويا في الموقف الأمريكي من الوحدة الترابية للمملكة، ومن ثم يقتضي كثيرا من الدقة والموضوعية في المعالجة، واستنادا إلى الهدوء اللازم والتأمل الموضوعي الرصين.
لا يمكن، ونحن نقرأ هذه المستجدات، أن نغفل مطلقا طبيعة السياق العالمي والإقليمي والظروف الدولية المحيطة ببلادنا وموازين القوى، ولا يمكن كذلك أن نغفل طبيعة الدولة التي جسد موقفها هذا التحول التاريخي والجديد من قضيتنا الوطنية ودورها في الأمم المتحدة وفِي العالم، ولا يمكن ثالثا ألا نفتح التحليل والقراءة عن المقارنات والقياس، وأيضا عن النظر في باقي الحيثيات الأخرى ذات الصِّلة وشروط المفاوضات وحساباتها.
ليس القصد هنا الإمساك بأي قشة للتبرير، ولكن القصد أن التحولات الكبرى تجب قراءتها بأدوات تحليل أخرى، وبمقاربات تستحضر الواقع والسياق وموازين القوى.
الأمر يتعلق اليوم أولا بموقف جديد وتاريخي للولايات المتحدة الأمريكية من الوحدة الترابية للمغرب، وهو موقف يقر ويعترف وضوحا وجهارا بمغربية الأقاليم الصحراوية، وواهم من يعتقد أن هذا الموقف لا يعني شيئا، أو أنه لن يكون بلا آثار أو تداعيات مستقبلا.
ويكفي أن نتأمل في الحال والمآل، وكيف كان سيكون عليه الأمر لو صدر عن واشنطن موقف مختلف بهذا الخصوص، وذلك لم يكن مستبعدا أو مستحيلا على كل حال.
ومخطئ أيضا من يعتبر أن ما حصل الآن  بشأن ملف وحدتنا الترابية ليس مكتسبا كبيرا أو أنه لا يمثل شيئا للمملكة.
الموقف الأمريكي الجديد يعتبر انتصارا حقيقيا وكبيرا، وهو تجاوز الدعم الفرنسي المعروف، وصدم الطبقة السياسية الإسبانية، وزلزل أركان وحسابات النظام العسكري الجزائري، ومن شأنه أن يفتح أفقًا آخر اليوم في اتجاه الطي النهائي لملف النزاع المفتعل حول وحدتنا الترابية، وفِي السعي نحو إنجاح المشاريع التنموية بالأقاليم الجنوبية وعلى الواجهة الأطلسية، وفِي مسار البناء المغاربية ككل.
صحيح أن المستجدات المتحدث عنها هنا ترتبط أيضا بالعلاقات المغربية الإسرائيلية وبثوابت الموقف الوطني المغربي من نضال الشعب الفلسطيني، وهنا لا بد من التأكيد كذلك على أن الموقف من الاحتلال الإسرائيلي لن يتغير  بسبب هذه المستجدات، والتنديد أيضا بجرائمه في حق الشعب الفلسطيني لن يتبدل، ذلك أن التموقعات والتوصيفات كلها لن تتحول أو تتغير ما لم يرفع الاحتلال ويحقق الشعب الفلسطيني استقلاله وحريته ودولته الوطنية المستقلة وكافة مطالبه المشروعة.
وهنا أيضا لا بد من استحضار المقارنات والقياس، ذلك أن المغرب لم يسر على نهج دول عربية أخرى ولم يوقع مع إسرائيل معاهدات سلام مثلا، وهو ليست له حدود مباشرة حتى يعلن وقف حروب أو توقيع اتفاقيات سلام، ولكنه أسس لآلية تواصل وحوار، سبق أن أقدم عليها منذ سنوات ثم عمل على إلغائها، ووضع لهذه الآلية الديبلوماسية أهداف محددة، واستحضر، في ذلك، علاقته بالمغاربة اليهود، وضمنهم مقيمون بإسرائيل، وأكد على تيسير سفرهم بشكل مباشر إلى بلدهم المغرب، كما لم يخف جلالة الملك، في اتصال مباشر برئيس السلطة الفلسطينية، استمرار دعم المغرب، ملكا وحكومة وشعبا، للقضية الفلسطينية، وبأن المملكة تضعها في نفس مرتبة قضية الوحدة الترابية، أي أن هذه الآلية الديبلوماسية والتواصلية ستخدم أيضا الدفاع عن القضية الفلسطينية.
المغرب هنا يختلف عن باقي الدول العربية أو القوى الإقليمية، في علاقته بالقضية الفلسطينية، فهو لم يسبق أن مارس أي وصاية أو ابتزاز ، ولم يكن أبدًا طرفا في أي لعبة محاور أو اصطفافات داخل مكونات وفصائل المقاومة الفلسطينية، ولهذا تكون مواقفه مبدئية وصادقة باستمرار،  ويحرص على استثمار كل الفرص لدعم النضال الفلسطيني وإسناد مواقف وخطوات السلطة الوطنية الشرعية في فلسطين واحترام القرار الفلسطيني المستقل.
وعلى هذا الصعيد، وبالنظر إلى تعقد الظرفيات الإقليمية والدولية الحالية، وجمود كل المسارات كما يلاحظ الجميع، فإن بإمكان هذه المستجدات اليوم أن تحفز المملكة لتعود إلى ملفات الشرق الأوسط فاعلا أساسيًا وميسرا لتحريك المسارات الجامدة.
من دون شك، هذا التطور الذي جسده الموقف الأمريكي الجديد وما نجم عنه، سيفرض ذكاء ديبلوماسيا وسياسيا أكبر على المغرب، وسيستوجب استثمار كل الأوراق المتوفرة وتطوير التفاوض بشأن مفردات وأجرأة هذا التحول التاريخي، وذلك حتى لا يبقى أسير العجرفة والاستهتار الإسرائيليين، وأيضا ظروف التغيير الرئاسي على مستوى الإدارة الأمريكية، كما تقتضي جسامة المهمات الجديدة خطة تواصلية وديبلوماسية هجومية ومحكمة وقوية تجاه الشعب الفلسطيني والشعوب العربية لتوضيح المواقف والرؤى والثوابت، ولدحض مغالطات الخصوم.
لقد كان الديوان الملكي حريصا على الوضوح وممسكا بالشفافية لما أعلن عن الموقف الأمريكي الجديد من الوحدة الترابية في بلاغ، وخصص بلاغا ثانيا للقضية الفلسطينية بعد اتصال مباشر من لدن جلالة الملك بالرئيس محمود عباس(أبو مازن)، وهذه المنهجية هي التي يفترض اليوم تكريسها وتطويرها من خلال خطة تواصلية متكاملة تتوجه إلى الشعب المغربي وإلى الشعوب العربية، وأيضا تستهدف مواجهة أكاذيب الإعلام الجزائري، وتخاطب المحتجزين في مخيمات تيندوف، وكذلك سكان الأقاليم الجنوبية.
بقيت الإشارة إلى أن بعض النقاشات الساخنة حاليا هي طبيعية، وتنطلق، من جهة من الانشغال الوطني والغيرة على الوحدة الترابية، ومن جهة أخرى من الغيرة على الثوابت النضالية التضامنية لشعبنا مع القضية الفلسطينية، ولكن في المقابل لا يجب أن يدفعنا كلنا الانتصار الديبلوماسي الذي حققته بلادنا لصالح وحدتنا الترابية أن نروج لمغالطات في حق الشعب الفلسطيني أو في حق الالتزام التاريخي القوي للمغاربة تجاه النضال الوطني الفلسطيني، ذلك أن ما يتعرض له الشعب الفلسطيني ويعاني منه طيلة عقود هو احتلال حقيقي وبشع، ويجب أن يرفع وأن ينال الشعب الفلسطيني حريته واستقلاله الوطني فوق أرضه، وهذا موقف مبدئي يلتقي حوله كل الديموقراطيون والأحرار عبر العالم، ويعتبر أمرًا مرفوضا كذلك خلق التساوي بين الاحتلال الإسرائيلي والشعب الفلسطيني، أو أن التعامل اليومي بين الجلاد والضحية، الذي يفرضه الواقع الاستعماري، يبرر أي تحلل من أي تضامن مع الشعب الفلسطيني.
وكما لدينا مغاربة يهود عبر العالم يتمسكون بهويتهم المغربية ويزورون بلادهم باستمرار، لدينا أيضا جذور في فلسطين، وباب يحمل اسمنا، وصلات عديدة في القدس، ولدينا أيضا وكالة بيت المال يوجد مقرها بالرباط وتقوم بمنجزات هامة على أرض الواقع هناك، ولجنة القدس يترأسها جلالة الملك، وكل هذه الوشائج المتينة تجعلنا في عمق النضال الوطني الفلسطيني، ويجب أن يستمر دور بلادنا قويا وناجعا وداعما لفلسطين، ويتواصل تضامن شعبنا وقواه الحية انتصارا للحق الفلسطيني وضد الاحتلال، وإجمالا يجب أن نبتعد عن الخلط، وعن إحداث الالتباس في المواقف والرؤى.
بلادنا تدافع عن سيادتها الوطنية ووحدتها الترابية ومغربية صحرائها، وتسعى لطي هذا النزاع المفتعل الذي دام حوالي نصف قرن.
وهي كذلك تتمسك بموقفها المبدئي والثابت من نضال الشعب الفلسطيني، وتستثمر كل الفرص لخدمة هذه القضية ضمن رؤاها الوطنية السيادية.

< محتات‭ ‬الرقاص

[email protected]

Related posts

Top