العنوان: مكون من اسمين وصفيين “خضرا والمجذوب”، فـ”خضرا” مشبعة باليناعة ودفق الماء وألق الجمال، يفصل بينهما “واو العطف” الدالة على الملازمة والمصاحبة بكل حمولته الرامزة للحكمة والخبرة والمقول الصائب، فضلا عن صوفية ودروشة وسلوك خارج المألوف، وبين ظفرين يأتي عنوان فرعي شارح: “في حضرة خضرا الركادة”، وللحضرة دنو وقرب وتماهي بالمعنى الجغرافي للمكان.
لوحة الغلاف: تجسد منبع الماء واخضرار أوراق شجرة مباركة زيتونة، وحضور طائر اللقلاق الذي يلقب به الراوي الأساسي في المتن أحمد “بليريج”، وسبح للخطاطيف في الفضاء الواسع وخفضة الماء تعبير عن كل الماء، وأثر سور مشوب بقتامة في الخلفية، وتناسل ألوان الزرقة لون الماء والصفاء وخضرة الخصب والرواء.
والغلاف من هندسة مريم المومني، نجلة الكاتب المشار إليها كواضعة لتصميم افتراضي لعين الركادة في مشروع التهيئة، وما يمكن أن تكون عليه مستقبلا: « يأتي ذلك على لسان جمال: بِلارَجْ وخطاطيف في سماء العين: لوحة فنية جميلة تكون شعاراً لجمعيتنا الفتية! لو اقترحنا على ابنتك البتول يا أحمد!.
وشخصية أخرى عبد الكريم إذ يقول:
– ولماذا لا تكون لوحة غلاف الحكاية الرواية التي تكتبها كما أخبرتنا؟
أحمد/أنا: فكرة تجول بالبال، والله! قد يضاف ما يدل على القصبة المندثرة! سأعرضها على البتول إذا عزمت على النشر» ص:165.
الإهداء: «إلى روحَي والديَّ وأهل بيتي: حياة، سكن النفس، ومريم البتول، ويوسف البر الصديق ومنى منانا وإخوتي وخِلاني، لعيننا، حلمنا الجميل، خضرا الركادة» ص:5.
إهداء لذوي القربى الحاضرين بشكل أو بآخر عبر مطلق النص وفي ذات الوقت، عمل يشتغل على فضاء عين “الركَادة”، مرتع الطفولة ومهوى القلب ومكمن الأحلام البكر.
الرواية من القطع المتوسط صادرة عن دار كلمات للنشر والطباعة والتوزيع سنة 2015، في حدود 208 صفحة متضمنة لبرنامج سردي حكائي يمتد على مدى أربعة وعشرين وحدة متفاوتة في القصر والطول موسومة بعناوين خاصة:
1. ماء (من الصفحة 7 – 15).
2. الجوهرة (من ص: 16 إلى 18).
3. ليلة احتجب القمر (من الصفحة 19 إلى 24).
4. بين الزوجين (الصفحة 24). [الأقصر]
5. الحكاية الأغنية (من الصفحة 25 إلى 27).
6. بلارج خضرا (من الصفحة 28 إلى 30).
7. أحلام افتراضية (من الصفحة 31 – 40).
8. فراغ البلارج والناعسة (من ص: 41 إلى 44).
9. الكَوال (من ص: 45 – 48).
10. سمر الخلاف (من ص: 49 إلى 92). [الأطول]
11. الحلقة1 (من ص: 93 إلى 99).
12. الحلقة2 (من ص: 100 إلى 111).
13. تاريخ (من 112 – 121).
14. مغربنا وطننا (من 122 إلى 133).
15. القراءة ( من ص134 إلى 135).
16. حنّا وختم الحكاية (من 136 إلى 149).
17. حنَّا يا حَنَّا (من 150 إلى 165).
18. إدارة (من 153 – 155).
19. غرفة الفندق (من 156 إلى 165).
20. شياع (من 166 إلى 172).
21. بوخَريصْ (من 173 إلى 182).
22. زهرة الجبل (من 183 إلى 191).
23. صيد (من 192 إلى 200).
24. رُؤى (من 201 إلى 208).
يظل المكان بؤرة الحكي ومركزه، بحيث يقوم بدور فاعل أساسي وليس مجرد خلفية لمجريات السرد «… الناعسة يا سيدي سكن ووطن، ناسه بسطاء مؤمنون، وأرض طيبة تبدل أكلها كل حين بإذن ربها وسواعد رجالها. وحكايات وأحجيات تروى للصغار والكبار، مواويل وأغاني سقاة ورعاة تشدو الحب والبطولات» ص:197.
المكان – عين الركَادة- مسرح الأحداث، وهو أحد عناصرها الفنية، تتحرك فيه الشخصيات -معظم الأحيان-، بل هو المؤلف لعناصرها الروائية، بما فيها من وقائع وشخصيات وما بنيها من تعالق بل يكون بمثابة اللوحة الفنية وليس مجرد قُماشها، ليتشظى الكلي غائما في تربة المكان، فهو إيقاع الرواية المنظم لوتيرتها.
يسوق الأستاذ حسن بحراوي في كتابه: “الشكل الروائي” المركز الثقافي الغربي بيروت البيضاء 1990: «إن الوضع المكاني في الرواية يمكنه أن يصبح محددا أساسيا للمادة الحكائية ولتلاحق الأحداث والحوافز، أي أنه سيتحول في النهاية إلى مكون روائي جوهري ويُحدث قطيعة مع مفهومه كديكور».
وتأسيسا عليه، يطور المكان البناء الروائي وفي طبيعة الشخصيات التي تتفاعل معه، بل ويمسي فضاء مشرعا على رؤية الذات المبدعة للعالم والكون، فالأماكن – في العمق- تسكننا قبل أن نسكنها.
عين “الركَادة” كمكان عمود فقري ينهض عليه المتن ويربط بين أجزائه، وما يتوالى من أحداث وسرود وحوارات، فهو الإطار الحاضن ومسرح أحداثها وخلفيتها في آن، وذاكرة الإنسان من ذاكرة هذا المكان وتداعياته عبر معايير الزمن.
«وحكاية كَولهم من هذا التاريخ الشفوي، وتحكي عن طريق الخيال ما يكون قد جرى في زمن مضى بهذه المنطقة، وخاصة في “العين الناعسة” من أحداث، وحكاية لالا خضرا قد تكون أحداثها وقعت كلها أو بعضها، وقد تكون كلها متخيلة، ولكنها في كل الأحوال، تصور أحلام عامة الناس وأمانيهم وطموحاتهم وأخلاقهم» ص:113.
يمكن أن نقر بأن رواية “خضرا والمجذوب” رواية تستحضر بقوة عوالم القرية المغربية المهمشة في المغرب العميق، وهي تذهب عكس المكرس، بأن الرواية وليدة الحضيرة والمدينة، بيد أن “الركَادة” لها تاريخ ضارب الجذور في عمق التاريخ ولها أكثر من رواية تروى: «أضم صوتي لصوتك السي عبد الكريم، دار الكانتوني هذه واحدة من ذاكرة المكان، حرام إذا تم هدمها من أجل أغراض نفعية آنية، هذه مسؤولية تاريخية على عاتق القائمين بالشأن المحلي لهذه القرية التليدة في التاريخ، بناء العين الذي يعود إلى أزمنة قديمة جدا، قضية مولاي إسماعيل، وآثار أخرى بحياضها» ص:39.
ثلاث لحظات تستغرق الرواية، لحظة الطفولة العذبة، وأجواء المدرسة وما يتنازع التلاميذ الأتراب من شغب وعراك وتنابز بالألقاب، حتى ألصقوا بالراوي المركزي في المتن أحمد، كنية “بلبيرج” أو “بلارج” نتيجة الاتصاف بالنحول ودقة الطول. فحضور المدرسة والتأثر بالمدرسين، ولاسيما المعلم يوسف مدرس اللغة الفرنسية، الذي حببه في اللغة الأجنبية دون أن ينسى ارتباطه باللغة الأم، فرغم ولوعه بالزجل والتآسي بـ”الكُوال” فهو مجتهد ومكب على دراسته وتلقيه: «كان الرفاق يستهويهم أن أكون قائد الجوقة في حلقة الكوال سابقا. كما لم يكونوا يستغربون من هذا الكلام المقفى، كانوا يعرفون أنني كنت مهووسا بكلام الكوال، عدا حفظي الجيد لكل المحفوظات المقررة في المدرسة، وحسن أدائي لها حين أعرضها على المعلم» ص:139.
فللراوي علاقات متشابكة مع الصحاب أو الربَعَة الحرشة، كما يطيب له تسميتها، قُويَدَر بوخريص الشريف وآخرون ومع أهل بيته: حورية مريم البتول ويوسف، الصديق ومنى المنى، ومع أفراد عائلته: الأخت، العمة، ومع ابنة عمته زينب، ومع الجدة “حنّا”، فالفتى يتفتح وعيه غداة المنتصف الأخير من الخمسينيات، وأول عهد البلاد بالاستقلال، وعلى مظاهر الجشع واستغلال الأرض والإنسان، فتاريخ “الركادة” ضارب الجذور في القدم، فالمعمر “مورْلو” «..خلف الفيلا هناك، كانت قصبة تاريخية بناها مولاي إسماعيل العلوي، هدمها معمر عسكري يدعى “مورلو” وبنى فوقها ضيعته، هي اليوم لمهندس من أبناء الناعسة، يدعى بنعيسى البرلماني، ملكها هبة، يقال من المعمر، كان مثل ابنه» ص:12.
فالمعمرون زمن الحماية: «استأثروا بأخصب الأراضي في سهل تريفا الخصيب» ص:190.
اللحظة الثانية تتمثل في خلفاء الاستعمار من الانتهازيين والوصوليين الذين يتطاولون على خيرات البلاد، ويستثمرون فيها بدون وجه حق على حساب أهل الأرض الشرعيين، من قبيل بنعيسى المهندس رئيس المجلس البلدي والبرلماني الدائم العضوية، الذين سعوا لتحويل عين الركادة إلى مشروع مصنع للمياه العذبة، في حين يسعى ثلة من أبنائها الغيورين إلى إعادة تهيئتها وفق مشروع حضاري ونظرة مشرئبة للمستقبل، وهي اللحظة الزمنية الثالثة التي يراهن عليها النص، وتمثل زمن كتابة الرواية، وفي ذات الحين زمن استعراض الماضي بتجلياته والحاضر بتحولاته.
«وفي الناعسة لم يبق من أقاربي إلا بعض أحفاد أعمامي، مات منهم من مات، واغترب من اغترب، والأحفاد لا يعرفونني، ومن عرفني قد لا أعني له شيئا، وأنا… أنا العائد الوحيد، المريد المشوق لركن أو بزاوية الشيخ أبي، الضمآن لشربة ونظرة من نفس العين متيمتي» ص:172.
أصدقاء الأمس المنتمين إلى عين الركادة أو النعسانة يتوسلون الوسائط الاجتماعية لإحياء دفء العلاقة، يشدهم حبل سرة الحنين إلى منابع حب الديار، مهما شط المزار: «بالنظر إلى أن نخبة منتمية للعين النعسانة قد طوحت بهم الغربة داخل الوطن وخارجه، باعتبار وظائفهم وأعمالهم، فقد أتاح لهم الأنترنيت أن يتواصلوا فيما بينهم سريعا وبانتظام، عبر مواقع ومدونات خاصة، أنشأها بعضهم لتجديد العلاقات الحميمة، ثم تبادل الأخبار والآراء المتعلقة بأحوالهم الخاصة، وببلدتهم الناعسة ووطنهم عامة، بعدما كانوا من قبل لا يجمعهم في بلدتهم إلى عطلة الصيف» ص:31.
مادة الحكي التي يستقي منها المتن تداعياته وتفاصيله متداخلة ومتشابكة، بين “خضرا” العين المكان في حيزها الجغرافي وبين “خضرا” المرأة الأسطورة الحلم، و”خضرا” المرأة المكبة القيم زوجة دحمان و”خضرا” الحاملة لسلتها والساعية بين الناس و”الكوال” صيغة مبالغة للشاعر الزجال الحكيم المعادل للمجذوب، المتنطع عن المألوف في النص بنظراته العميقة للحياة والوجود: «.. وحكاية كوالهم من هذا التاريخ الشفوي، وتحكي عن طريق الخيال ما يكون قد جرى في زمن مضى بهذه المنطقة وخاصة في “العين الناعسة” من أحداث، وحكاية لالا خضرا قد تكون أحداثها وقعت كلها أو بعضها، وقد تكون كلها متخيلة، ولكنها في كل الأحوال تصور أحلام عامة الناس وأمانيهم وطموحاتهم وأخلاقهم» ص:113.
فهناك الناعسة أو عين “الركادة” الواقع الحرفي، تلتقطها ومضات ميتا- نصية في سياق المتن – تتكرر أكثر من مرة- جامعة بين هاجس مشروع كتابة الرواية وهاجس التقويض الذي مس “الركادة” الغافية الآسرة:
«.. متفق معك يا منى المنى، خاطبت منى. لم يفهمها حتى بعض المفتين في الكتابة، الرواية المقبلة عن الناعسة ستكون أسلس من مائها، وأمتن من حبال القنب القديمة التي كانوا يستقون بمائها، ولو أنها كومة حجر دائرة على بئر معطلة!
وهي ناعسة لأنهم حولوا ماءها الباطني إلى القرية الإسمنت، التي أرادوها مدينة وأيبسوا منبعها» ص:42.
للأحلام في تماهيها الخرافي والأطياف في غموضها والتباساتها وسرحات الخيال افتنان في عوالم السرد والحكي، فمن حلم الطفولة و”خضرا” ترحل بالفتى الغرير إلى دنا العجائبية والغرابة «لم يغادرني قط ليلي ونهاري في صغري وفي كبري، ذلك الطيف المحبوب بهاته البدرية المواربة بغلالته الكدرية وأفقه الحي الريان بالعين النعسانة، وبئرها ومائها الدافق دوما، واقعا، وفي عيني.. وفي وهمي والخيال» ص:23.
فإن كان مشروع تهيئة عين “الركادة” حلما جميلا يرسم افتراضيا قبل التحقق الفعلي بتضافر جهود أصدقاء الأمس، بعدما كَوَّنوا جمعية من أجل ذلك والكل يسعى لكي يتحقق هذا المشروع الجماعي، فالذات الكاتبة رغم مضار الألم وأوجاعه تمر على أن تخرج الرواية إلى عالم النور والوجود:
«.. مد يدك في الجيب الأيمن لسروالي فيه usb… وكل واحد من “الرباعة الحرشة” يأخذ مما فيه نسخة، حورية والبتول أرسلت إليهما نسخة. آااح هذه الموت والحياة، سبحان الحي القيوم، هذه روايتي، ربما سهوت أو نسيت، ربما أضفت أشياء أو نسيتها لأحدكم، وهي لآخر، هذه ذاكرتي ونظرتي، لا تلتزم أحدا وهي رواية كل واحد منكم ينقص منها أو يزيد.. الحكاية كانت دائما هكذا» ص:208/207.
ليعلو سقف الرواية السردي في النفس الأخير في مدارج الخيال الرحيب: «.. تمد لي حوريتي جانب عباءتها الأيسر جناحا أخفق به، تبسط جناحها الأيمن، ننجذب معا من البئر في طرفة عين، نعرج سويا إلى ما وراء النجوم، نركب غيمة هطلاء تصعد من ناحية البحر المتوسط، تعرونا رعشة الداخل في الماء البارد، رشاش.. قنو ينصب غزيرا ستفيق منه رشاتي تتدفق.. تفيض.. ينمو ما حولها.. يخضر.. تحوم اللقالق والخطاطيف بجوها جذلى، والفراخ بأعينها الجبل والسهل آمنة ترعى» ص:208.
يوظف الكاتب ضمير المتكلم المشارك والمصاحب، مفتتحا بمونولوج حول “الركادة” وجاذبية الخضرة والماء، والمتن يتراوح بين السرد المكتوب باللغة الفصيحة، واستعمال اللسان المغربي الدارج، واستحضار تقنيات حميمة وقديمة في الحكي (الحلقة) والإشارة إلى تقنية حديثة في السرد الترابطي المدونات. ويبقى منسوب الصبيب الزجلي مكسرا للسرد وحاضرا بقوة وكثافة، في العديد من الصفحات.
كما لا يخلو النص من تضمينات شعرية وأغاني ذائعة الصيت.
النص تأثث بالوثائق وصور البناء الافتراضي لعين “الركادة”، وبطاقة معايدة ترجع لتاريخ بعيد للمنطقة.
ولا يخلو المتن من إشارات لمواقف إيكولوجية مستنفدة، فشخصية “الهيمان” يحضر في أكثر من عمل لعبد المالك المومني، سواء في رواية “الجناح الهيمان في نبع ركادة الوسنان” أو الديوان الزجلي “ريحة لبلاد خضرا” وكذا رواية “خضرا والمجذوب”، فقد تتعدد طروحات الكاتب، من أجل أن يقول قولا واحدا بصيغ مختلفة.
تبقى الرواية محتفية بذاكرة المكان. عين الركادة أو النعسانة بما جرى في ماضيها التليد الذي اعتورته مظاهر الهيمنة والاستغلال، على شكل حماية واستغلال ذوي النفوذ الناهبين لثروات الوطن، فإن كان الوصوليون يرون “العين” مجرد مشروع مذر للربح العميم بواسطة تشييد مصنع للمياه المعدنية، فإن إرادة الأوفياء تنشد واقعا بديلا لهذا الربح، يعيد يناعة المكان وبهجة الإنسان.
قد تفيض “العين” أو لا تفيض ولكن الكتابة في رواية “خضرا والمجذوب” كوثر زلال تأتيك بماء للإبداع المعين.
> بقلم: المصطفى كليتي