شتاء ساخن في السودان

لم يتورع النظام السوداني عن اتخاذ حزمة سياسات، تضيّق الخناق على معارضيه، ولم يتوقف عن التنصل من تعهداته للقوى والأحزاب التي أعلنت معارضتها له، بل تمادى في تغليب الحلول العسكرية لمواجهة التوترات التي اندلعت في عدد من الأقاليم، اعتمادا على يقينه بأن الشعب فقد القدرة على الاحتجاج، وأن النظام لديه خبرة كافية لردع من تسوّل لهم أنفسهم الخروج عليه شعبيا.
الرئيس السوداني عمر البشير وحلفاؤه في الحكم، اكتسبوا ما يشبه المناعة، من تجارب وخبرات سابقة، مرت بها البلاد، وكانت فيها على وشك الانفجار، وظهرت تجليات هذه المسألة في سبتمبر 2013، عندما اندلعت تظاهرات في عدد من أحياء الخرطوم، وبدأت شراراتها تزحف على مدن أخرى، بعد أن قررت الحكومة رفعا جزئيا لدعم السلع الضرورية، وقتها قيل إن ما يسمى بـ“ثورات الربيع العربي” اقتربت من جسم السودان.
لكن القبضة الحديدية التي استخدمها النظام، وعدم تفاعل قوى المعارضة بشكل كبير، وإحباط قطاع من المواطنين، جراء النتائج السلبية التي وصلت إليها الانتفاضات في دول عربية أخرى، أحبطت المحاولات الرامية إلى الثورة على الرئيس البشير، وخرج من المواجهات الساخنة أقوى من ذي قبل، حيث تيقنت دوائر سياسية كثيرة أن الشعب السوداني الذي كان من أوائل الدول التي انتفضت، في أكتوبر 1964، ضد حكم إبراهيم عبود، فقد هذه الميزة حاليا.
لذلك لم يعبأ النظام السوداني بدعوات الحشد التي أُطلقت أكثر من مرة، خلال السنوات الماضية، لكن الدعوة التي وجهتها أحزاب وقوى سياسية الأسبوع الماضي، تحت عنوان “الانتفاضة”، تبدو مختلفة، لأنها أحدثت ردود فعل جيدة في السودان، ودعت بلا مواربة، المواطنين إلى الخروج إلى انتفاضة سلمية تنتهي برحيل نظام البشير.
التجاوب النسبي معها، جاء من رحم قيام الحكومة برفع الدعم عن بعض السلع الأساسية، ما يمس حياة قطاع كبير من المواطنين، يعانون أصلا من الفقر والجوع بسبب تدهور الأوضاع الاقتصادية، واستمرار الحروب في عدد من المناطق السودانية. ناهيك عن التأزم السياسي الذي وصلت إليه البلاد، عقب فشل جولات الحوار الوطني، التي دعا إليها الرئيس البشير، واستجاب لها عدد محدود من القوى السياسية، وهو ما جعل العوامل الاقتصادية تتضافر مع أخرى، سياسية وأمنية، بما ينذر بأن يكون شتاء السودان أكثر سخونة سياسيا.
المواطنون، أصبحت لديهم قناعة بأن النظام الحالي، لن يتوقف عن ممارسة ضغوطه الاقتصادية عليهم، إما لإنهاكهم في البحث عن لقمة العيش، وإما للإيحاء بأن قبضته ما زالت قوية، ولا يخشى ما يتردد من انتفاضات، وفي كل الحالات، يمارس هوايته في زيادة المعاناة على السودانيين ما يفتح الباب أمام انفجار كبير.
القوى والأحزاب السياسية، المنقسمة على نفسها أصلا، التي فشلت في هز أركان النظام السوداني، على مدار السنوات الماضية، أصبحت أمام موقف حرج، لأن إخفاقها في أن تكون رقما صعبا، أجبر النظام على عدم التجاوب مع تطلعاتها، وقلل من قدرتها على التأثير السياسي، وحتى الحركات التي ترفع السلاح، وتواجه النظام عسكريا، لم تنجح في إجباره على الانصياع لمطالبها، وازداد البشير غرورا في التعامل معها باستعلاء، وحسب أنه المتحكم الوحيد في مفاصل اللعبة السياسية والأمنية في السودان، ما يفرض البحث عن أساليب أخرى لمواجهته.
التعالي الظاهر في أداء النظام، جاء من مجموعة من الأسباب في مقدمتها، الإخفاقات المتتالية التي منيت بها دعوات الاحتجاج السابقة، وعقم الخيال عند غالبية قوى المعارضة، وفشل الخيارات التي راهنت على إسقاط النظام بالوسائل العسكرية وتراجع الرفض الإقليمي والدولي للرئيس البشير.
وكلها دوافع جعلته أشد صلفا في التعامل مع مناوئيه في الداخل، وأقل اكتراثا بجدوى الحوار والتفاوض، حتى تمكن من ترتيب أوضاعه، في حزب المؤتمر الوطني، والحكم برمته، وحشر معارضيه في زوايا ضيقة، ليس من السهولة الفكاك منها. مع ذلك، من الممكن أن يفضي تعدد الأزمات، وزيادة الضغوط الواقعة على كاهل المواطنين، وشيوع الإحباط في صفوف غالبيتهم، وتخبط تصورات وتصرفات المعارضة، إلى حث المواطنين على التفكير بجدية في الانتفاضة خلال الأيام المقبلة، وهو ما يتوقف على ثلاثة أسباب.
الأول، الدور الذي سيلعبه الشباب، من خلال مواقع التواصل الاجتماعي، في الدعوة والحشد، وتبدو إرهاصات هذه المسألة حتى الآن غير مقنعة، بعد أن جرى اعتقال عدد من الشخصيات المحركة في هذا الاتجاه، كما أن الدعاية المضادة، بدأت ترخي بظلال سلبية على دعوات التظاهر المختلفة، واستخدمت أسلوب التشكيك، الذي لجأت إليه دول أخرى، وتوظيف مفردات العمالة والتآمر، وباقي المصطلحات التي يحفل بها هذا القاموس.
الثاني، عمق الالتحام بين القوى السياسية والشارع السوداني، فحالة الانفصام التي سادت لفترة طويلة بينهما، جعلت من الصعوبة التجاوب مع نداءات المعارضة، خاصة أن الانقسام يسيطر على معظمها، والأبعاد الشخصية تغلب على حساباتها، ونتائج الاختبارات التي خاضتها لم تؤد إلى الثقة فيها والتعويل عليها في الحراك المقبل.
الثالث، الدور الذي تلعبه الأذرع العسكرية في المعادلة السياسية، فحتى الآن هناك مسافة تفصل بين المسلح والسياسي، وفكرة التوافق والتفاهم بينهما، أخفقت في أن تتجاوز المربع الأول، وأصبح كل حزب أو حركة، يتصرف من منطلق مصالحه الضيقة، دون إدراك لأهمية التنسيق في بلد بحجم السودان، تمكن النظام الحاكم فيه من فرض قوته، بسبب الخلافات التي تنخر في جسد معارضيه، والهواجس التي تخيم على قواه الحية إزاء الآخر، الأمر الذي ساهم في زيادة الهوة بين القوى التي تقف في صف المعارضة، وقدم هدية للنظام ليتلاعب بها، ويحشرها في مربع العراك السياسي.
أمام هؤلاء فرصة واحدة حتى يستجيب لنداءاتهم الشارع السوداني، وهي أن تضيق الفجوة بين قوى المعارضة، وينجح السياسي في التكامل مع العسكري، والعكس، ويحسما خيار التعامل مع النظام، والهدف الذي يلتف حوله الجميع، وما إذا كان البعد الوطني مقدما على غيره، أم تستمر حالة الصراع، وتظل الأولوية للأبعاد الطائفية والمناطقية؟

محمد ابو الفضل* أستاذ جامعي

Related posts

Top