الكثير من مقولات المفكرين يتقاطع مع أفكار الشُّعراء. وإذا كانت الوظيفة الأساسيَّة للنَّظريات الفكرية فهم الواقع فربما إحدى وظائف الشعر هي الحلم بواقع أفضل.
يُعتبر الوهم من أهم المسائل التي تشغل بال المفكِّرين في العصر الحاليِّ، وذلك بسبب سيطرة السُّوشيال ميديا والإعلام في عالمنا المعاصر.
يؤكد المفكِّر الفرنسي جان بوديار- من أهم المفكرِّين الذين ناقشوا هذه المسألة- بأنَّ الوهم حلَّ محلَّ الحقيقة. بالنِّسبة لبودريار يتداخل الواقع مع المحاكاة، وهي عمليَّة تقليد العالم الواقعيِّ من خلال خلق نسخ. وتستقلُّ هذه التَّشابيه عن دلالتها لتحلَّ مكانها.
ويرىبودريار أنَّ هذا هو السبب الأساسيُّ الذي دفع ببعض الطوائف الدِّينية إلى رفض الأيقونات الَّتي تحلُّ محلَّ الحقيقة، وهذا بالتَّالي يؤدِّي إلى موت ما هو مقدَّس.
تتقاطع أفكار بوديار مع الكثير من أفكار الشعراء، ومنهم الشَّاعر نمر سعدي، أحد الأصوات الشعرية المتميِّزة على السَّاحة الفلسطينية. ولكن نظرة الشاعر للوهم مختلفة عن بودريار، فيوظِّفها لخلق عالم حالم وأكثر إنسانية له ولشعبه.
يرسم الشاعر سعدي عالمًا سرابيًّا في شعره، فتزخم لغته بكلمات تشير إلى الوهم: (ماء شفهي/ صدى نفسي/ سراب/ ظلال) والإهداء في دواوينه مكتوب بريشة السراب: إلى قرائي المجهولين/ إلى الهباء.
وكبودريار يشكُّ الشاعر في وجوده ففي “الغياب” يقول: “كأنَّني واحد غيري”.
وفي هذا السياق يرى بودريار أنَّ المحاكاة اليوم أصبحت تضليلًا لواقع ما نعيشه، لذلك يستمرُّ بحث الإنسان عن أجوبة لمسائل وجودية، فيسأل نفسه: “من أنا؟ لا أعرف، ولكن ما أعرفه بأنني نسخة عن نفسي!.
تتكرَّر مسألة الوجود الإنسانيِّ في شعر سعدي، ففي إحدى لوحاته يشير إلى أنَّ لديه ظلالًا أخرى مستقلَّة عن ذاته:
ربما قد قسوتُبقولي قليلًا
ولكنَّ كلَّ فراشاتِ روحيَطيبةٌ
ومشرَّدةٌ في المدى دونَ بيت
آسفٌ (شاعرٌ ماتَ ما شأنُ حزني بهِ، فأنا لا أفكِّر إلَّا بك الآنَ).
ملامح أشعار سعدي تشي بأنَّه لا وجود للواقع، ففي عالمه الشِّعريِّ عندما يستيقظ من حلمه لا يصفع وجهه صقيع الواقع بل يدخل سرابًا آخر:
وعندما انطفأتْ شموعُ الليلِ من حولي
أفقتُ… ركضتُ في حلمي إلى المرآةِ،لكن
في الحقيقةِ لم أجدْ وجهي، ولم أتذكَّرِ الأشياءَ..
في كتاب “تآمر الفنِّ” يصف بودريار الفنّ المعاصر بأنَّه يكتفي فقط بالتفكيك، ويعطي مثالًا على ذلك الفنِّ التجريديِّ والانطباعيِّ، ويؤكِّد أنَّه على الرغم من أنَّ عالمنا الحاليَّ غنيٌّ بالمعلومات إلا أنَّه اغتال المعاني.
إنَّ سمة التفكيك واضحة في شعر سعدي، فهو يفكِّك الكثير من المعاني، فيقول: يصيبني مطرٌ خفيفٌ منكِ.. يشيخ قلبها في طفولتها..
والكثير من أشعاره يشبهُ لوحات تجريدية أو أتون لا يذيب فقط المحسوس بل أيضًا” اللامحسوس:
تبكي بغيرِ دموع
قدماك تعزفان موسيقا مرئية
بي رغبةٌ لاحتضانها حتى الضياع
وأنت من ينقطُ السماءُ في عينيك،
من ينقط السماء؟
يبرع الشاعر باستعمال التفكيك بطرق مختلفة، فيخلق لوحاتٍ شعريةً تفكيكية، لها خصائص مسرح ما بعد الحداثة:
هذا الليلُ هاويةٌ تزمُّ الضوءَ في قلبي
لأشرسهنَّ إحساسًا
أرى بدمي… افتحي عينيَّ في أبهى نعاس
يفكّكُ سعدي في هذا المشهد السرابيِّ وحدة الحدث بمزجه عدة قصص دينية: صلب المسيح، وقصة النبي يوحنا وسالومي، وخيانة امرأة لرجل. وملامح الشخصيات غير واضحة، فأيُّ دور يلعب الشاعر؟هل هو المسيح أو شبهه؟ هل حبيبته المسيح أو سالومي؟ هل هو يوحنا؟ ولمن يكتب؟ هل جمهوره حبيبته أو هو؟ أومشاهدون افتراضيون؟
يحاول سعدي تفكيك الواقع من خلال أسلوب أدبيٍّ آخر، فيروي قصصًا وهميَّة لا بداية لها ولا نهاية، فيقول في الغياب: “لم أكتبْ ولو سطرًا يؤرِّخ لانتهاء علاقة ما…”
ومعظم أبطال قصصه من الظلال:
أناابنُ الرمالِ الحنونةِ
وهي ابنةُ الماءِ ذاتُ خيالٍ وقلبٍبريئين
يوجعني وشمُ نورسِها أسفلَ العنقِ
حين يضيء فمي شَعرها
آهِ..لكنني كنتُ ضيعتها من سنينْ
و لأبطاله السرابيين ظلال”: “كم من حبيب عدوٍّ، كم من امرأةٍ جزَّت لأجل عشيقٍ خائنٍ عنقي” ولكن الشاعر السعدي لا يكتفي بتفكيك الواقع بل يخلق معانيوعوالم جديدة يوظِّفها لدعم قضية شعبه.فنظرته للوهم مختلفة عن نظرة بودريارالذي لا يرى في الوهم إلا قاتلًا للواقع وأداة تستعمل للهيمنة السياسية.
بالنسبة لبودريار، الدول الإمبريالية تخلق عوالم لا أساس لها، فالهدف وراء بناء ديزني لاند، عالم الرَّفاهية والخيال والسعادة، هو الإيحاء للعالم بأنَّ هذا هو الواقع الأميركيُّ، ولكن الحقيقة مختلفة، إذ إنَّالشعب الأميركيَّ بعيد عن هذه الرَّفاهية، ويعاني من مشاكل اجتماعية كثيرة كالفقر والجريمة. ويسترسل بودريار في هذه الفكرة، فيدَّعي بأنَّ حرب الخليج غير حقيقية، إذ خلقت الدولة الأميركية من خلال الإعلام حقائق لا أساس لها. وبالرغم من أن بودريار يصيب في مقولته بأن الوهم أداة خطرة تُستعمل من الدول الإمبريالية إلا أنه لم يرَ أي نقطة ايجابية للوهم.
لكن سعدي يعتقد أنَّ كتابة الشِّعر تعطيه الفرصة لكي يكون ولو بضع دقائق ما يشتهي أن يكون، وبالتَّالي الوهم يحرِّره.
لا يعتبر الشَّاعر الوهم موتًا للحقيقة والواقع بل خلق لعالم أفضل:
يا ظلُّانكسر فوق المياه لكي ألملمكَ،
انكسر لتهبَّ مثل الأقحوانة،
وانكسر حتىتذريك الرياح، تهبُّ من أقصى اشتهائي.
يستعمل سعدي الوهم لخلق معانٍ جديدة لخدمة شعبه الذي “ينزف دمه”، فيقول في”زهرة مقمرة”:
دمٌ ذاك أم زهرةٌ مقمرة
في مناقير أحلى يتامى العصافيرِ
أو في أكفِّ الصغارِالذينَ
بأعجوبةٍ قد نجوا من براثنَ سوداءَ عمياءَ
للعنكبوت الحديديِّ في البحر والمرتقى الجبليِّ؟
وينهي القصيدة: لا بل ندى زهرةٍ مقمرة
في هذه القصيدة يحوِّل الشاعر الدم إلى زهرةٍ مقمرة وندى الزهرة، لعلَّه في ذلك يشير إلى أنَّ دم شعبه سيتحوَّل إلى حياة، أي أنَّ الموت والوجع سيثمران يومًا ما.
ينقض الشاعر مقولة أخرى لبودريار عندما يخلق ملامح أشعار أصيلة لا تشبه إلا نفسها.
فبودريار يتَّهم الفنَّ الحديث بأنَّه متشابه، وتنقصه الأصالة، وبأنَّه أصبح في عالم سيطر فيه الوهم يعكس اللاشيء. ولكن سعدي وبالرغم من تأثرهبشاعر المقاومة محمود درويش،لكن لفنِّه ملامح مختلفة.
يبرز تأثُّره بدرويش في مزج ذاته بأرضه وشعبه وحبِّه للمرأة.فلقد صرَّح درويش بأنَّه حاول كشاعر وإنسان أن يحرِّر نفسه من فلسطين وأرضها،ولكنَّه لم يستطع (2007).
هذه الميزة تبرز أيضًا في شعر سعدي، إذ لا حواجز في شعره بين حبِّه للمرأة وشعبه وأرضه. فنسمعه في قصيدة “أضيئي شفاهي” يقول:
“أضيئي شفاهي بسنبلةٍ واحدة
وضلعي بعشرِ نجومٍ
< بقلم: ميرنا الشويري