طغت في الأيام الأخيرة بمختلف وسائل الإعلام الدولية صور وأخبار استفتاء كاتالونيا، ثم بعد تصويت الأحد صور العنف الذي مارسته قوات الأمن الإسبانية في حق الكاتالونيين، والمؤيدين لإنشاء دولة مستقلة عن مدريد، وقبل كل ذلك، كانت قد سادت صور وأخبار استفتاء كردستان بالعراق.
في الاستفتاءين معا، وبرغم اختلاف الجغرافيات ومعطيات التاريخ، كان الشعار المرفوع والذي عاد إلى تفكير وخطاب الكثيرين هذه الأيام، هو مبدأ تقرير المصير.
إنه مبدأ حقوقي بالفعل، وقد رافق نضالات الشعوب المستعمرة في القرن الماضي من أجل نيل استقلالها وتقرير مصيرها بحرية، لكن لاحقا خضع للاستغلال السياسوي، وكان يجري تطويعه كل مرة لخدمة المصالح والحسابات الإستراتيجية لهذه الدولة أو تلك، وفِي المغرب نفهم جيدا في هذا، وذلك جراء عقود من المناورات والسلوكات العدائية التي اقترفت ضد وطننا لاستهداف وحدته الترابية وتمزيق سيادته تحت غطاء هذا الشعار، الذي صار حقا يراد به باطل.
اليوم، لما برز الانفصال داخل حدود أوروبا ووسط بلدانها، تابعنا صمت عديد أوساط سياسية وإعلامية وديبلوماسية، وبدا الانحياز إلى التشدد والرفض واضحا في مواقف معظم القوى الدولية الأساسية، وحتى الممارسات القمعية البشعة التي صدرت عن قوات الحرس المدني الإسباني لم تجد تنديدا قويا من طرف بعض الوجوه الإعلامية المعروفة سواء في إسبانيا أو في كل أوروبا، وأيضا من لدن منظمات حقوقية تقيم الدنيا ولا تقعدها لما يكون الأمر متعلقا ببلد من العالم الثالث.
لقد وضعت إذن مصداقية العديدين على المحك، والسؤال اليوم يتعلق بالكيل بمكيالين، وهو موجه إلى الضمير الأوروبي والعالمي.
إن رفض الانفصال في إسبانيا يجب أن يقترن أيضا ومنطقا برفض الانفصال في المغرب مثلا، والوحدة الترابية هنا هي ذاتها هناك، والتضامن مع ضحايا قمع قوات الأمن لا بد أن يكون مبدئيا، وبغض النظر عن بلد الأحداث.
من جهة ثانية، وعلاوة على مبدئية الموقف من الانفصال أو من قمع قوات الأمن ومصداقية كل الأطراف في التعامل مع ذلك، فإن الظرفية الكونية الحالية، وما يعرفه العالم في السنوات الأخيرة من تحولات جيو استراتيجية وتغييرات في السياسات والمواقف والقيم، وتفاقم ديبلوماسية الحسابات والمصالح، كل هذا يجب أن نستحضره اليوم عند مقاربة ما تعيشه كاتالونيا وكوردستان، وذلك لكي نفهم الوقائع وما يصلنا من أخبار وصور في ضوء واقعنا الحالي، وليس انطلاقا من فهم مرتبط بالبدايات في القرن الماضي، هو لم يعد بالضرورة صحيحا اليوم.
لا بد أن نلفت كذلك إلى أن حديث الانفصال في إسبانيا مثلا ليس محصورا في كاتالونيا، ولكن أيضا في الباسك وغيرها، وهناك إسكتلندا بالنسبة للمملكة المتحدة، أما الأكراد فهم يريدون الاستقلال ليس فقط عن العراق، وإنما أيضا عن تركيا وسوريا وإيران، ناهيك على أن جنوب السودان قد انفصل وشكل دولته الخاصة، وضمن مآسي اليمن هناك من لا زال يسعى إلى تقسيم البلد بين شمال وجنوب، كما لا زال من يصر على مواصلة الاقتتال في ليبيا إلى حين تقسيم البلاد لكيانات جهوية وقبلية، ونفس سيناريو التفتيت هناك من لا يستبعده بالنسبة للعراق وسوريا…
وقبل سنوات شهد العالم تفكك الاتحاد السوفييتي، وانبثاق عدد من الدول والجمهوريات، كما تفككت يوغوسلافيا وتشيكوسلوفاكيا، وحتى الاتحاد الأوروبي عاش هزة كبرى عقب خروج بريطانيا منه.
هذه التغيرات كلها لم تكن صدفة أو مجرد أحداث منعزلة توالت في التوقيت فقط، وإنما هي تعني أن الواقع الدولي دخل مرحلة جديدة ومعقدة تفرض حسابات مغايرة عما سلفها، فضلا على أن ذلك كله أبرز أن العالم بدأ يفقد قيمة التعايش بين الناس داخل المجتمع الواحد أو فيما بين الدول والشعوب، وهذا يسائل ليس السياسيين وحدهم، أو مخططي الإستراتيجيّات الكبرى، وإنما المثقفين والفلاسفة والمفكرين كذلك.
واضح كذلك أن عدوى الانفصال تطرق اليوم أبواب بلدان أوروبية كانت في القرن الماضي قوى استعمارية تولت تمزيق وحدة عدد من البلدان التي احتلتها، ويتزامن هذا الوضع مع تنامي صعود اليمين واليمين المتطرف في المحال السياسي والانتخابي وسط أكثر من منطقة أوروبية، وتفاقم خطابات الانغلاق والحمائية والعنصرية، وأيضا التحولات السياسية والديبلوماسية التي تصدر عن الولايات المتحدة الأمريكية على عهد رئيسها الحالي والمثير للجدل دونالد ترامب…
كل هذا اليوم يفرض إدراك مختلف المخاطر والتهديدات التي تتربص بالعالم والبشرية جمعاء، وبأن بعض الأحداث المثيرة، وحتى الخطيرة، التي تصلنا من هذه الجغرافيا أو تلك، وبالرغم من تلاعبات الماكينة الإعلامية التي لا تقول كل شيء، هي أحداث ليست معزولة أو منفصلة عن بعضها، ومن ثم وجبت قراءة ما يحياه عالمنا المعاصر قراءة مركبة وشمولية، لا تلغي معطيات التاريخ، وأيضا تأثيرات الحسابات والمصالح والأطماع، وأن يكون، بالتالي، الشعار المركزي اليوم هو حماية السلم والأمن العالميين، وصيانة وحدة الدول والشعوب واستقرارها، واستعادة قيمة التعايش والانفتاح المتبادل، والتركيز على المتطلبات التنموية والبيئية والديمقراطية.
بلادنا، من جهتها، لا بد أن تنجح في كسب كل رهاناتها التنموية والديمقراطية الداخلية، وأن تحمي استقرارها وأمنها وتميز نموذجها المجتمعي، ولكن أيضا أن تتعبأ لربح قضيتها الوطنية وترسيخ وحدتها الترابية، وأن تعزز فعلها وحضورها الإقليميين والدوليين في إطار المعركة الكونية لحماية السلم، ولمواجهة الإرهاب والتطرف.
العالم يمر من مرحلة دقيقة وتلفها كثير مخاطر، وواجبنا نحن، هنا والآن، هو أن نحمي بلدنا ونحرص على وحدته وتقدمه واستقراره، وفِي الآن نفسه أن نفتح أعيننا على ما يجري حوالينا وأن نكون حاضرين للفعل في المعركة من أجل السلم والديمقراطية والتنمية.
محتات الرقاص